لم يعد ينفع مع ارييل شارون، رئيس وزراء التعصب الصهيوني، أي علاج أو دواء أو حل، فقد وصل إلى مرحلة الجنون المطبق أو الانتحار الحتمي حتى ولو ادعى أنه ماضٍ في تحقيق أهدافه التي لم يخفها أو يتستر عليها، وتنفيذ استراتيجية ليكود اليمينية المتطرفة الرامية إلى نسف مسيرة السلام وإعادة كل شيء إلى نقطة الصفر، أي إلى ما قبل مؤتمر مدريد للسلام الذي سيكمل سنواته العشر خلال الأسابيع القليلة المقبلة. والواضح حتى الآن أن شارون ماضٍ في سياسته المسماة "حافة الهاوية" حتى ولو أدى الأمر إلى نشوب حرب عربية - إسرائيلية شاملة، وكأنه يتشبه بشمشون وهو يهتف "عليّ وعلى أعدائي"، أو بنيرون الذي تلذذ بمشهد حريق روما ومن عليها. لم يتمكن أحد، مهما بلغت قوته ووصل نفوذه، من ايقاف تهور شارون وحكومته، أو كبح جماحه ولو قليلاً على رغم الاحتجاجات الخجولة الصادرة عن إدارة الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول، على الممارسات الإسرائيلية من اجتياح دير حانون إلى الاستمرار في بناء المستوطنات الاستعمارية على رغم أنف الشرعية الدولية وما جاء في تقرير ميتشل، وصولاً إلى البيان الأخير الذي عبرت فيه الإدارة الأميركية عن رفضها لعمليات التصفية الجسدية للقيادات الفلسطينية ونشطاء الانتفاضة التي أقرتها رسمياً الحكومة الإسرائيلية، ضاربة عرض الحائط بكل القيم. بل يمكن القول إن ضعف الموقف الأميركي وتحييد المواقف الأوروبية والروسية والصينية والدولية بشكل عام شكلا عامل تشجيع للحكومة الشارونية على مواصلة جرائمها الوحشية، وتنفيذ المزيد من المذابح ضد الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح بيد إرهاب الدولة المتمثل بجيش الاحتلال الصهيوني وإرهاب الأفراد المتمثل بأبشع صوره بقطعان المستوطنين المتعصبين الذين يثبتون كل يوم عنصريتهم البغيضة وتجاهلهم لكل القيم الدينية والاخلاقية والإنسانية. وسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء يجمع كل من يتابع مجريات الأمور في المنطقة بأن الأسوأ قادم بعد فقدان الأمل بأي تراجع أو ليونة من قبل شارون وحكومته التي تضم وزراء ينتمون إلى أبشع صور الحقد والكراهية والعنف الدموي. ولم يخطئ بعض الصحف الإسرائيلية عندما وصف شارون بالثور الهائج، أو عندما حذر من أن السياسة الحالية ستؤدي إلى حمام دم وحروب واضطرابات مفتوحة على كل الاحتمالات لن تكون نتائجها في النهاية لمصلحة إسرائيل. وعلى رغم هذا، فإن هناك من يقول إن شارون حقق الكثير من أهدافه المعلنة خلال رحلة المئة يوم، بل انه مهد الطريق لدفن اتفاقات أوسلو بشكل خاص ومرجعية مدريد، ومعها المبادرة الأميركية التي قامت عليها، وبالتالي عودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل بالنسبة للمطامع الإسرائيلية وخطط إكمال مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي ظن البعض أنه دفن في مدريد عام 1991. فقد خطط شارون وأعلن صراحة خلال معركته الانتخابية وبعدها أن لديه برنامج عمل يقوم على النقاط التالية: صرف النظر عن اتفاقات أوسلو وكل ما تبعها من اتفاقات والتزامات وصيغ تم التوصل إليها في المفاوضات التي قامت برعاية أميركية. منع قيام دولة فلسطينية مستقلة بأي شكل من الأشكال، وكشفت تقارير نشرت أخيراً عن أن حكومة شارون لن توافق على إقامة هذه الدولة حتى ولو تخلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين والقدس العربية. إعادة احتلال المناطق الخاضعة لسلطة إسرائيلية - فلسطينية مشتركة ورفض البحث بإعادتها أو تسليمها إلى الفلسطينيين، ومحاصرة أراضي السلطة الفلسطينية بالكامل وتقسيمها إلى مربعات وجزر منفصلة تسيطر على كل مفاصلها القوات الإسرائيلية. إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية تدريجاً بضرب مراكزها العسكرية وتفتيت قواتها وإحكام القبضة على الاقتصاد الفلسطيني حتى ينهار من الداخل، مما يؤدي إلى اندلاع اضطرابات داخلية. محاولة ضرب الوحدة الوطنية الفلسطينية عن طريق الضرب على وتر إثارة الصراع والفتن بين "فتح" و"حماس"، وهذا ما يفسر الإصرار على تقديم "قوائم الاعتقال" من أجل إشعال نار حرب أهلية. تحييد دور الولاياتالمتحدة وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة عن طريق تزوير الحقائق وترديد مزاعم الارهاب و"وقف العنف" والالتزام بضبط النفس والادعاء بقبول المقترحات الأميركية لذر الرماد في العيون، كما حصل مع تقرير ميتشل الذي ادعى شارون أنه وافق عليه وهو في الواقع نسفه من أساسه برفضه البند الأساسي والرئيسي الداعي إلى تجميد الاستيطان الاستعماري. منع أي حديث عن تنفيذ اتفاقات أوسلو وغيرها أو مجرد الإشارة إلى مفاوضات الحل النهائي وكل ما يتعلق بالقدس واللاجئين، واعتبار التطرق إليهما من المحرمات. وهذا يتماشى مع ما سبق وأعلنه شارون خلال معركته الانتخابية بأنه سيسعى إلى وضع اتفاقات أوسلو على الرف وفرض أمر واقع على الأرض، يقوم على مفاوضات مرحلية طويلة الأمد تشعب القضايا المطروحة وتفتت الحقوق والمطالب الفلسطينية بحيث لا يبقى سوى الفتات من كل ما ابرم من اتفاقات. ومن يرجع إلى وراء قليلاً، يجد أن شارون حقق نجاحاً كبيراً في هذه النقطة بالذات، لأن مجرد البحث في استئناف مفاوضات السلام لم يعد وارداً، لا عند إسرائيل ولا عند الراعي الأساسي لعملية السلام المهزومة بيده، ولا حتى عند العالم الذي يسمى زوراً ب"العالم الحر" وبهتاناً. ولا يملك الفلسطينيون سوى القبول بما هو ممكن حتى يردوا عنهم شرور الثور الهائج الذي لا يردعه رادع على رغم رحلات الفشل التي رافقت مسيرته السوداء، فبعدما قبلوا تقرير ميتشل أو خطته، بكل ما فيه من شوائب ونواقص، التفت حوله يد إسرائيل الاخطبوطية وفرغته من محتواه ليصل الأمر إلى تقزيمه من خلال الخطة الجهنمية الاستخباراتية التي سميت خطة تينيت، رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية التي صار تنفيذها ذروة المرتجى وقمة الآمال. كل هذه العوامل ترجح ما يذهب إليه شارون من أنه ربح الجولة وحقق الكثير من أهدافه ومخططاته، وهذا ما قد يبدو صحيحاً للوهلة الأولى، ولكن "من يضحك أخيراً يضحك كثيراً"، كما يقول المثل الفرنسي، فهو قد يكون ربح معركة أو جولة، ولكنه لن يربح الحرب بالتأكيد على المدى الطويل، بل يمكن الجزم أنه سيهزم في النهاية حتى ولو ادعى أنه يحقق انتصارات. ففي مقابل هذه النقاط التي سجلها شارون لصالحه هناك نقاط مهمة وحاسمة عدة سجلت ضده ومعها نقاط أخرى على الطريق، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: فشل ذريع في تحقيق الهدف الأساسي المعلن والذي يركز عليه كل رئيس حكومة إسرائيلي، وهو الأمن. فقد سجل عهده أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية في إسرائيل، واهتزت شباك الأمن عشرات المرات في قلب إسرائيل، وفي مناطق لم يكن بالإمكان الوصول إليها، إن بالعمليات الاستشهادية أو بالضربات الأمنية الموفقة التي طاولت قيادات أمنية واستخباراتية واستيطانية إسرائيلية. ضرب مسيرة السلام لن يصب في النهاية لمصلحة إسرائيل، خصوصاً بعد التسبب بتأزيم العلاقات مع مصر والأردن والتزام العرب بقرارات وقف التطبيع بعد "سنوات مدريدية" تميزت بالسباق نحو تقديم الهدايا المجانية والتطبيعية والهرولة نحو إسرائيل، بزعم الرغبة بإثبات حسن النيات العربية. انقسام المجتمع الإسرائيلي والتسبب بإصابته بانفصام شخصيته أضاع بوصلته، ولا بد أن توصله سياسة شارون إلى حافة اليأس والانفجار الداخلي، ومهما طال الزمن، فإن الحكومة الحالية ستنفجر من الداخل وينسحب حزب العمل، ثم يشهد حزب ليكود صراعاً داخلياً سنشهد فصوله قريباً مع اقتراب موعد انتخاب زعيم جديد للحزب، مما يمهد الطريق لانتخابات عامة جديدة قد تجري خلال أقل من سنة. إحداث بلبلة في المواقف الأجنبية قد تتبلور قريباً بمواجهة مع شارون "الذي لا يثق به أحد"، كما ذكرت إحدى الصحف الألمانية خلال زيارته الأخيرة لألمانيا وفرنسا ومجابهته بموقف أوروبي مخالف تماماً للموقف الإسرائيلي. كما أن إدارة الرئيس بوش بدأت تبدي مؤشرات على نفاد صبرها من سياسة شارون وتماديه في العنف تمثلت في صدور بيانات تحذيرية عدة معارضة لممارساته. فالولاياتالمتحدة في النهاية تريد المحافظة على مصالحها الحيوية ولا تستطيع دائماً تجاهل الرأي العام العربي والمواقف الحاسمة والحازمة التي أعلنتها المملكة العربية السعودية أخيراً ودعتها فيها إلى الضغط على إسرائيل ووقف اعتداءاتها وممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني والعودة إلى مسيرة السلام. وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى السيف الذي سلط على رأس شارون بعد فتح ملفات مذابحه ولا سيما في صبرا وشاتيلا تمهيداً لمحاكمته كمجرم حرب، أسوة بما جرى مع سلوبودان ميلوشيفيتش. لهذا يمكن القول إن شارون سيخسر إذا لعب هذه اللعبة الخطرة أو أقدم على إشعال نار سيحرق أصابعه بها، تماماً كما جرى يوم اجتياح لبنان... ولكن هذا لن يصبح حقيقة واقعة، إلا إذا غير العرب ما في أنفسهم. هذا يتطلب توحيد المواقف والضغط على الولاياتالمتحدة وأوروبا قولاً وعملاً، ودعم صمود الشعب الفلسطيني ومواقف سورية ولبنان. ويخطئ من يظن أن العرب ضعفاء، فبأيديهم أوراق قوة لا نهاية لها، وأهمها ورقة سحب الاعتراف بإسرائيل والمطالبة بالعودة إلى جوهر القضية واساس المطالب، وهو التحرير الكامل لفلسطين، والعودة لاستخدام سلاح المقاطعة بشكل جدي وشامل لإسرائيل وكل من يقف معها. * كاتب وصحافي عربي.