تسعى صناعة الصيرفة والخدمات المالية، مثلها مثل اي صناعة، الى ابتكار سلع جديدة لتطوير انماط استهلاك لمنتجاتها تمكنها من التوسع وتجاوز التشبع الحدي لمنتجاتها التقليدية. وتشكل خدمات الصيرفة والتمويل الاسلامية فرصة للقطاع المالي الدولي لابتكار سلع جديدة لقطاعات مختلفة من العملاء. تشير التقديرات الى ان حجم سوق التمويل والصيرفة الاسلامية يزيد على 200 بليون دولار، وقد يصل الى 300 بليون دولار، مع توقعات ببلوغه حدود نصف تريليون دولار. وتقدر الدراسات والبحوث البريطانية ان سوق القروض العقارية المطابقة للشريعة الاسلامية قد يصل الى 4.5 بليون جنيه استرليني اكثر من 8 بليون دولار بحلول سنة 2006، بينما تشير تقديرات مصرف"اتش اس بي سي"الى ان سوق الصيرفة الاسلامية اجمالاً في بريطانيا يصل حجمه الى 9 بليون جنيه استرليني، ما يدفع المصارف الكبرى الى التنافس على سوق الصيرفة والتمويل الاسلامي، الذي قد لا يختلف منتجه النهائي لمستهلك التجزئة مع عمل تلك المصارف في اطار التشريعات والقواعد المالية الدولية. يتقدم بنك الاستثمار الاسلامي الاوروبي قريباً بطلب ترخيص لهيئة الخدمات المالية في بريطانيا، بعدما تم تأسيسه كشركة مالية مطلع العام حددت رأسمالها بقيمة 50 مليون جنيه استرليني. الا ان اكتتاب المساهمات فيه بلغ 113 مليوناً. ويرأس البنك عدنان يوسف، الذي كان يرأس البنك الاسلامي والمؤسسة المصرفية العربية قبل ان ينتقل الى مجموعة البركة للصيرفة الاسلامية، وهو اخو عبدالرحمن عبدالملك الذي يرأس مجلس ادارة البنك الاسلامي البريطاني الذي رخصته هيئة الخدمات المالية العام الماضي. ومنذ بدأت صيرفة التجزئة الاسلامية قبل ثلاثة عقود، مع تأسيس بنك دبي الاسلامي، اول مصرف اسلامي يقدم خدماته للجمهور عام 1975، تتالت الأسباب المماثلة في العالم العربي والاسلامي. وفي السنوات الأخيرة بدأت مصارف ومؤسسات مالية غربية كبرى تستكشف سوق التمويل والخدمات المالية الاسلامية. ففي بريطانيا بدأ مصرف"اتش اس بي سي"تقديم صيرفة التجزئة الاسلامية عبر فروع"امانه"التابعة له في بريطانيا، خصوصاً في المناطق التي يكثر فيها السكان المسلمون. وتبعه مصرف لويدز تي اس بي. وسبقه في ذلك"البنك الاهلي المتحد"، الذي يتخذ من غلاسغو في اسكوتلندا مقراً له وبدأ تقديم القروض العقارية الاسلامية في بريطانيا. ويعود ذلك الى اهتمام المصارف والمؤسسات المالية الرئيسة بأموال العالم الاسلامي، خصوصاً بعد احداث 11 ايلول سبتمبر عام 2001، التي للمفارقة، كانت مؤشر اهتمام دولي بكل ما له صلة بالاسلام. وتشير تقديرات كثيرة الى ارتفاع نسبة استخدام السندات والصكوك الاسلامية منذ ما بعد 11 ايلول 2001 بما يراوح بين 30 و40 في المئة، خصوصاً بعد اعادة توطين حصة كبيرة من الأموال العربية والاسلامية المهاجرة، ومحاولة المصارف الدولية العملاقة الاستفادة من الاموال الاسلامية، وكان احدث تلك الاصدارات طرح ولاية ساكسوني إنهالت الالمانية صكوكاً اسلامية بقيمة 100 مليون يورو. اول مصرف اسلامي غربي وفي خريف العام الماضي، منحت هيئة الخدمات المالية في بريطانيا أول ترخيص لمصرف اسلامي، ليكون الأول من نوعه في أوروبا وأميركا الشمالية. وافتتح البنك الاسلامي البريطاني اول فرع له في شارع ادجوار رود في لندن لتتبعه فروع في برمنغهام وليستر. وتمكن المصرف، الذي يتخذ من برمنغهام مقراً له، من توفير رأسمال أساسي بنحو 14 مليون جنيه استرليني 25.5 مليون دولار من مساهمين أساسيين من بريطانيا ومنطقة الخليج، في مقدمهم أمير قطر وبنك قطر الاسلامي الدولي. وتمكن المصرف الجديد من مضاعفة رأسماله ثلاث مرات الى 50 مليون جنيه، عبر طرح أول في سوق الاستثمار البديلة في لندن قبل نهاية العام الماضي. وبدا المصرف تقديم خدمات صيرفة التجزئة، ويستعد للبدء في تقديم القروض العقارية المطابقة للشريعة، التي تعد سوقاً مغرية لجذب نحو مليوني مسلم بريطاني. وبعد مرور سنتين على عمل المصرف في بريطانيا طبقاً للقوانين، يمكنه الحصول بسهولة على ترخيص في أي من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الاوروبي. ويمكنه استهداف حوالى 15 مليون مسلم في أوروبا، فضلاً عن المسلمين الذين يزورون القارة سنوياً، فيزيد عدد القطاع المستهدف من الصيرفة الاسلامية عن 20 مليون مسلم في اوروبا. وتعد بريطانيا مصدر جذب لاستثمارات نحو 250 مؤسسة مالية اسلامية، تدير اصولاً ببلايين الدولارات. ولما كانت بريطانيا سباقة في الترخيص للصيرفة الاسلامية، توجهنا الى هيئة الخدمات المالية للتعرف على كيفية التوفيق بين الصيرفة والتمويل الاسلامي والقواعد والتشريعات المالية والمصرفية الغربية. قال مدير ادارة الصيرفة بالجملة في هيئة الخدمات المالية البريطانية مايكل اينلي ل"الحياة"ان الترخيص للمصرف استغرق 18 شهراً، اذ"ليست عملية التصريح لبنك بالعمل من جانب هيئة الخدمات المالية بالعملية السهلة أو السريعة، فهناك شروط اساسية يجب الالتزام بها من جانب من يتقدم بطلب ترخيص يمكن تلخيصها كالتالي: ان تكون لديك خطة عمل اقتصادية سليمة، ادارة جيدة للبنك، وان تكون للمصرف القدرة المالية، بمعنى توافر رأس المال الذي يجعل المصرف قابلاً للتسييل النقدي، إضافة الى دراسة السوق المستهدف واختباره وتوافر نظم العمل والرقابة والتدقيق وحساب المخاطر". وأضاف اينلي:"تلك شروط يجب ان تتوافر في اي مصرف. أما بالنسبة الى مصرف اسلامي فهناك نقاط عدة كان لا بد من التأكد منها. ذلك ان عدم تعارض المعاملات مع الشريعة يعد امراً جديداً، وإن كان لا يسبب اي تعقيد، فنحن لسنا متخصصين في الشريعة بل في الصيرفة، وامر الشريعة متروك الى لجنة الشريعة في المصرف، لكننا بحاجة الى معرفة دور اللجنة". كان لا بد للهيئة وبحسب اينلي التاكد من امور عدة،"المهم ان البنك يديره مصرفيون، ولجنة الشريعة لا تتخذ قرارات تنفيذية تتعلق بادارة البنك، لكنها تقر توافق المنتج أو الخدمة مع الشريعة الاسلامية، كما كان علينا التأكد من ان التدقيق والمراجعة الداخلية تدركان الشريعة الاسلامية في عملها". وقد لبى البنك الاسلامي البريطاني كل تلك الشروط. وتسعى دول مثل كينيا وكندا الى الاستفادة من التجربة البريطانية للترخيص لمصارف اسلامية فيها. كما ان اينلي يدعى الى ندوات ومؤتمرات للحديث عن التجربة البريطانية، كان آخرها في الولاياتالمتحدة. التوافق مع الشريعة في سياق شرح عمل المصرف الاسلامي للجمهور قال أحد مستشاري المصرف من العلماء، مفتي بركة الله، إنه يختلف عن بقية المصارف التي تقدم خدمات اسلامية بأن كل معاملاته مطابقة للشريعة، ولا يعتمد الفائدة. وأضاف:"بالنسبة إلى الجمهور، لن يكون هناك اختلاف كبير في عمل الحساب الجاري أو الادخاري أو الودائع، لكننا لا نقدم قروضاً مثل المصارف الاخرى بل نتعامل بطريقة التملك المشترك". ولا تقدم خدمات الصيرفة الاسلامية للمسلمين فقط، بل تستهدف الجمهور الاوسع باعتبار"المصرف يشبه الى حد كبير البنك التعاوني الذي لا يتعامل إلا في شراكات وأعمال صديقة للبيئة، ونحن بتجنبنا الفائدة والأعمال التي لها علاقة بالمحرمات كالكحول والنشاطات الاباحية وغيرها، نحصر تعاملنا مع الأعمال التي لا تضر اجتماعياً ولا تستغل"، كما قال بركة الله. وتم تعيين مدير للمصرف، هو المدير السابق في مصرف"باركليز"، مايكل هنلون الذي اكد منذ البداية ان المصرف سيعمل بطريقة تنافسية، طبقاً للقواعد والقوانين المالية البريطانية. وكانت الحكومة البريطانية ألغت العام قبل الماضي ازدواج ضريبة التسجيل على العقارات الممولة اسلامياً، وتتضمن شراء مؤسسة التمويل الاسلامي العقار ثم إعادة بيعه للمستهلك أو تأجيره له حتى يسدد ثمنه، فكانت الدولة تُحصّل الضريبة مرتين. الالتزام بالتشريعات الغربية مع ان المصارف الاسلامية لا تمنح أو تحصل فائدة ربوية، الا انها مضطرة في حال عملها في اطار التشريعات الغربية الى الالتزام بالقواعد المالية المنظمة لعمل المصارف. وبالتالي تتم ترجمة طريقة المعاملات المقابلة للشريعة الى مفردات الصيرفة الغربية. فمثلاً، عبر نظام الايجارة والمشاركة التنازلية، يدفع المصرف ثمن العقار مع مشاركة العميل بجزء من الثمن 10 في المئة تقريباً ويحصل المصرف شهرياً اقساطاً من العميل تتضمن ايجاراً للعقار وجزءاً من الثمن. ويتم حساب القسط الشهري بحسب مدة القرض العقاري وسعر العقار. ويحسب الايجار طبقاً لمعدل الفائدة بين المصارف في البلاد ليبور، مع زيادة بنسبة تتجاوز 1 في المئة بقليل. وبحسب نظام مصرف"لويدز تي اس بي"الحالي، تبلغ حصيلة المصرف التي تقابل نسبة الفائدة العقارية في النظام العادي ما بين 6.16 في المئة و6.45 في المئة. فيما يمكن ان تجد في السوق البريطانية قروضاً عقارية بنسبة اقل من 5 في المئة. اما قروض بنك"اتش اس بي سي"العقارية المطابقة للشريعة فمعدل الايجار فيها اقل قليلاً ذلك ان المصرف يعرض نسبة فائدة عقارية اقل من لويدز في سوق التمويل العقاري العادي اصلاً. الا ان القرض العقاري الاسلامي من المصرفين يظل قسطه الشهري اعلى بما يزيد عن 10 في المئة تقريباً عن السوق، لكنه منتج حلال يناسب من يتمسكون بشريعة دينهم. وينطبق عامل التوافق مع التشريعات والقواعد المالية الدولية وخدمات المصارف والفروع الاسلامية كافة. فلا فائدة مثلاً على القروض، لكن المصرف يقوم بشراء الغرض الذي يقترض من اجله العميل سيارة، مطبخ جديد، تجديد الاثاث... الخ، ويعيد بيعه للعميل مع اضافة هامش ربح في عملية تسمى"مرابحة". في المقابل، لا يدفع البنك فائدة على الادخار، لكنه يقوم بالمضاربة برأس المال المدخر على ان يتقاسم الربح والخسارة مع العميل.