من يتابع التطورات على الساحة الاسرائيلية وتصريحات المصادر العسكرية والسياسية وتسريباتها يفاجأ حتماً بالتخمينات التي تكاد تصل حد اليقين باندلاع انتفاضة ثالثة في الاراضي الفلسطينية مباشرة بعد تنفيذ خطة فك الارتباط والانسحاب الاسرائيلي الأحادي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. واللافت ان هذه الأجواء وصلت الى واشنطن حيث بادر معهد الشرق الأوسط بدعوة طاقم عملية التسوية في ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون للتفكير في سبل تفادي الأخطاء السابقة وبالتالي تجنب اندلاع الانتفاضة الثالثة، في ظل استمرار الاخطاء الجوهرية والبنيوية في السياسة الأميركية المتبعة تجاه الصراع. التصريحات والتسريبات والتحليلات الاسرائيلية تتمحور حول ثلاث نقاط مركزية هي: 1 - التشكيك في نيات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس واتهامه بالفشل والعجز في مواجهة فصائل المقاومة التي ما فتئت"تراكم القوة في الشارع"بحسب التعبير الاسرائيلي. 2 - اتهام فصائل المقاومة باستغلال الهدنة لتكديس السلاح والاستعداد للمعركة الفاصلة التي ستدور رحاها في الضفة الغربية بعدما بات الانسحاب من قطاع غزة شبه حتمي. 3 - التحذير من خطر الصواريخ الفلسطينية على عدد كبير من التجمعات الاستيطانية اليهودية بعد تنفيذ فك الارتباك الأمر الذي يستدعي ردا عسكريا حاسما وساحقا ما يؤدي بالضرورة الى انهيار الهدنة واندلاع الانتفاضة الثالثة. في ما يتعلق بالنقطة الأولى المتعلقة برئيس السلطة يجب ملاحظة السيناريو الاسرائيلي المراوغ. اذ بدأ التشكيك في سياساته وخطواته وحتى نياته ثم اتهامه بالعجز والضعف والتراخي مباشرة بعد قمة شرم الشيخ من أجل التنصل من تنفيذ استحقاقاتها في تفاهمات القمة والتي يأتي على رأسها إطلاق الأسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية وتسليم المدن في الضفة للسيطرة الأمنية للسلطة وأجهزتها. التحريض ضد"أبو مازن"في وسائل الإعلام الاسرائيلية يأخذ أشكالاً وأساليب مختلفة عبر النقل عن مصادر بأن أبو مازن"مخيب للآمال، وليس مصمماً على مكافحة البنى التحتية للارهاب، ولم يتجرأ على جمع السلاح من منظمات الإرهاب مثلما وعد، وانه يصر على وقف العمليات بالحوار فقط، وهذا أيضاً لا يفلح في تحقيقه في شكل مطلق"بحسب ما ذكرت صحيفة"معاريف"لمناسبة مرور 155 يوماً على تسلم"أبو مازن"السلطة. التحريض ضد السلطة ورئيسها لا يقتصر على اقتباسات مصادر أمنية اسرائيلية من هنا وهناك, بل ان شارون نفسه منخرط في شكل قوي في التحريض ضد رئيس السلطة. ففي لقاء مع أعضاء من مجلس الشيوخ الأميركي اتهم شارون"أبو مازن"بتعزيز الإرهاب وانه غير مستعد لمحاربته، وقال:"بدلاً من تفكيك منظمات الإرهاب يعمل على تعزيزها وهو غير مستعد لمكافحتها وغير مستعد لتفكيك بناها التحتية, وهو يتخذ خطوات للحفاظ على الهدوء، لكنه يمتنع عن اتخاذ خطوات مهمة ضد منظمات الارهاب وهذا يتعارض مع خريطة الطريق". التحريض وتهيئة الجمهور الاسرائيلي لاندلاع الانتفاضة الثالثة واتهام الفلسطينيين بالمسؤولية عن اندلاعها لا يتوقف عند أبو مازن، بل يشمل بالطبع فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة عبر اتهامها باستغلال الهدنة لتكديس السلاح والاستعداد لجولة الصراع المقبلة في الضفة الغربية. وكتبت"معاريف"أيضاً تحت عنوان"الجيش الاسرائيلي يستعد منذ الآن لاستئناف المواجهة"27/4/2005 ان قيادة الجيش تقوم باستعدادات واسعة لإمكان استئناف المواجهة العنيفة بقوة بعد تنفيذ خطة فك الارتباط أي في الفترة من أيلول سبتمبر وحتى تشرين الأول اكتوبر المقبلين. وعزت الاستعدادات الى"التعاظم غير المسبوق في وتيرة تهريب الوسائل القتالية من مصر الى الضفة الغربية وقطاع غزة خصوصاً على طول الحدود مع مصر". وأشارت الى تقديرات لرئاسة الأركان بأن جولة عنف أخرى بعد فك الارتباط"أمر حتمي". التشكيك في جدية رئيس السلطة والحديث عن تخزين السلاج وتهريبه يترافق كذلك في الاعلام الاسرائيلي مع الحديث عن خطر صواريخ المقاومة على التجمعات السكانية اليهودية مباشرة بعد تنفيذ فك الارتباط وربما"بعد ربع ساعة فقط من تنفيذ فك الارتباط"بحسب تعبير المراسل العسكري ل"هاآرتس 29/4/ 2005 عاموس هرئيل، فيما أكدت"يديعوت أحرونوت"5/5/2005 انضمام 44 حاضرة اسرائيلية الى المنطقة التي توجد في مدى صواريخ القسام، "ما يستدعي انتشاراً دفاعياً مناسباً في هذه الحاضرات". إذاً يهدف التحريض الاسرائيلي المتعدد الأشكال والأساليب الى اتهام السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة مقدماً بالمسؤولية عن اندلاع الانتفاضة الثالثة في تجاهل متعمد للممارسات الاسرائيلية في الضفة الغربيةوغزة، حيث لا احترام للهدنة ولا التزام بتنفيذ تفاهمات شرم الشيخ ولا اطلاق للأسرى ولا تسليم للمدن، كما ان عمليات التهويد ومصادرة الأراضي والاستيطان وبناء جدار الضم والفصل العنصري تسير بوتيرة عالية ما يجعل انهيار الهدنة واندلاع الانتفاضة مسألة وقت, لسبب بسيط هو ان الشعب الفلسطيني لن يجد امامه من خيار واقعي ومناسب سوى المقاومة لإجبار اسرائيل على الانسحاب والهروب من الضفة الغربية ولو في شكل أحادي كما تنوي فعل ذلك في قطاع غزة. والمفارقة ان ثمة أصواتا اسرائيلية خجولة تتحدث من مسؤولية حكومة شارون عن الأوضاع المتأزمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، اذ كتب عكيفا ألدار المراسل السياسي ل"هاآرتس"26/4/2005 ان رئيس الأركان السابق أمنون شاحاك يعتقد بأن الجيش الاسرائيلي سيتسبب باندلاع انتفاضة ثالثة كما فعل في الانتفاضة الثانية عندما خاص حرباً مختلفة لتلك التي أمر بها المستوى السياسي. وينقل ألدار عن وزير الخارجية السابق شلومو بن عامي قوله أن رد فعل الجيش كان مبالغاً فيه على الأحداث الأولى للانتفاضة الثانية ما أدى الى تصاعدها وتواصلها لأربعة سنوات تقريباً. واشنطن تراقب الأوضاع على الأرض وترى الأمور سائرة نحو انتفاضة ثالثة، ما دعا معهد الشرق الأوسط الى عقد ندوة الشهر الماضي لمناقشة الاخطاء التي أدت الى اندلاع الانتفاضة الثانية واستخلاص العبر من الفشل وبالتالي منع اندلاع الانتفاضة الثالثة. المتحدثون الرئيسيون كانوا أعضاء طاقم المفاوضات في إدارة الرئيس بيل كلينتون وهم دينيس روس ومارتن انديك وروب مالي وأهارون ميلر، والذين أجمعوا على أن الأخطاء والاخلالات التي وقعوا فيها وأدت الى انتفاضة الأقصى ما زالت قائمة في عهد جورج بوش، وان عدم تداركها سيؤدي حتماً الى تفجر الأوضاع من جديد. أول هذه الأخطاء غض النظر عن عملية فرض الحقائق على الأرض بواسطة توسيع المستوطنات خلال المفاوضات وتأثير ذلك في التسوية الدائمة. وأعرب روس عن اعتقاده بأن التسامح الأميركي مع اسرائيل جاء في اطار الرغبة في الحفاظ على تقدم المفاوضات"وإذا استبدلنا الآن كلمة المفاوضات بفك الارتباط سنحصل على تجاهل إدارة بوش خروقات شارون المتكررة لتعهداته بتفكيك المستوطنات وإزالة البؤر الاستيطانية". ثاني الأخطاء يتمثل في تعديل المسار بما يتلاءم مع مواقف اسرائيل ومجموعات الضغط المساندة لها في واشنطن كما حدث مثلاً في قمة كامب ديفيد التي دعا اليها الرئيس بيل كلينتون بناء على ضغوط إيهود باراك على رغم رفض رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. وقال روس ان التعهد الذي أعطاه بوش لشارون بتأييد ضم التجمعات الاستيطانية اليهودية في الضفة"ضمانة أكيدة للانفجار وتبدد اقتراحات بوش نفسه بإقامة دولة فلسطينية قبل انتهاء فترة ولايته". وثالث الأخطاء عدم وجود تدخل نشط من المستوى الأعلى في الادارة الأميركية وعدم تعيين ممثل رفيع المستوى للاشراف على المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية. واعتبر انريك ان شارون لن يفكك المستوطنات الا اذا تأكد أن بوش يتعامل مع رؤيته للحل بجدية. إضافة الى الأخطاء السابقة أجمع المتحاورون على أمر آخر وهو أن استمرار بوش في التركيز على"الدمقرطة"بدلاً من إحياء عملية السلام فإنه سينهي ولايته من دون سلام ومن دون ديموقراطية. * كاتب فلسطيني، مدير"مركز شرق المتوسط للخدمات الصحافية والاعلامية".