بعد توافق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على التهدئة مع فصائل المقاومة ثم إعلانه رسمياً وقف إطلاق النار في قمة شرم الشيخ التي عقدت مطلع شباط فبراير الماضي طرح العديد من الأسئلة حول تأثير التهدئة ووقف اطلاق النار في مستقبل الأوضاع في فلسطينالمحتلة. وثمة سيناريوهات عدة مطروحة في هذا الصدد اولها متفائل يتحدث عن قابلية التهدئة للحياة لمدى زمني طويل وتحولها عملياً الى وقف دائم ونهائي لاطلاق النار يتيح استئناف مفاوضات التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ليس بالضرورة حول قضايا الوضع النهائي اقله في المدى المنظور. اما السيناريو الآخر فيتحدث عن انهيار تدريجي للتهدئة نتيجة اصرار القيادة السياسية الأمنية في اسرائيل على استسلام فعلي من قبل الفلسطينيين للشروط والمتطلبات الإسرائيلية وقبولهم بالفتات الذي تقدمه في القضايا محل الخلاف وإنهاء الانتفاضة وإلغاء خيار المقاومة والكفاح المسلح من جدول الأعمال الفلسطيني. السيناريو الأول"المتفائل"ترتكز فرص نجاحه على مصلحة الأطراف الرئيسة: اسرائيل والسلطة الفلسطينية وبدرجة اقل فصائل المقاومة في نجاح التهدئة واستمرارها اقله حتى نهاية العام الحالي بأجندته المزدحمة والمثقلة بالاستحقاقات بالنسبة الى الأطراف الثلاثة. فإسرائيل مثلاً معنية باستمرار التهدئة ووقف النار من أجل التنفيذ السلس والهادئ لخطة فك الارتباط والانسحاب الأحادي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. وفي هذا الصدد يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون مصراً وعازماً على المضي قدماً في تنفيذ الخطة التي يراها ضرورية وحيوية لمصلحة اسرائيل الاستراتيجية, والتي لا يتصور تنفيذها تحت النار الفلسطينية خصوصا في ظل الجدل الداخلي الشديد في الشارع الإسرائيلي عموماً واليمين خصوصاً حول شرعية الخطة وجدواها. اذن شارون معني بالتهدئة ويستعد لتقديم ثمن مهم للسلطة، وهذا الثمن يشمل تسليم المدن وإطلاق الأسرى, وكل هذا مشروط بتوفير الهدوء والأمن اثناء الانسحاب خصوصاً من محيط مستوطنات قطاع غزة. وفي مقابل الهدوء ايضاً يتحدث شارون عن بناء ميناء في غزة وإعادة ترميم المطار والتفكير في الانسحاب من محور صلاح الدين على الحدود المصرية - الفلسطينية وحتى الشروع في مفاوضات الوضع النهائي وفق خطة خريطة الطريق بحسب تصريح مستشار شارون وأمين سره دوف فايسغلاس "الحياة"22-2-2005. السلطة الفلسطينية من جهتها معنية ايضاً بالتهدئة ووقف إطلاق النار في مواجهة اجهزتها المزدحمة هذا العام. اذ تدرك ان التركة صعبة وثقيلة بعد رحيل ياسر عرفات، الأمر الذي يستلزم القيام بخطوات ذات ابعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وتنظيمية. وفي هذا الصدد تصر السلطة على المضي قدماً في العملية الانتخابية والديموقراطية التي تتضمن المراحل الأخيرة من الانتخابات البلدية في نيسان ابريل المقبل وكذلك الانتخابات التشريعية في تموز يوليو، ثم مؤتمر حركة فتح العام في آب اغسطس، والذي يعقد للمرة الأولى منذ 16 عاماً ويعلق عليه قادة السلطة الجدد اهمية قصوى على طريق ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي للانطلاق الفعلي نحو الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي المطلوب من قبل الشارع الفلسطيني. كما تعتقد السلطة تعتقد ان تلاشي الشق الأحادي من خطة فك الارتباط يمثل كسباً معنوياً وسياسياً مهماً، وهي معنية بالهدوء لإجبار شارون على التنسيق معها في تفاصيل تنفيذ الخطة الأمر الذي قد يؤدي في ما بعد في ظل مساندة عربية ودولية وحتى اميركية للانتقال الى المرحلة الثانية من خريطة الطريق ومن ثم الشروع في قضايا الوضع النهائي الصعبة والمصيرية والحاسمة في اسرع وقت ممكن. وفي مقابل الهدوء الذي ستوفره من أجل تنفيذ خطة فك الارتباط تطمع السلطة ايضاً في المزيد من التنازلات الإسرائيلية في القضايا الآنية والمرحلية ذات المردود الفوري على الجمهور الفلسطيني من قبيل ازالة المزيد من الحواجز العسكرية وتسليم المناطق وليس المدن الفلسطينية في الضفة الغربية الى سيطرتها الأمنية والإدارية وبالتالي توفير المزيد من هوامش الحركة امام الاقتصاد الفلسطيني المثقل بالأعباء والعراقيل الإسرائيلية. الطرف الثالث الذي تؤثر مواقفه وسياسته وحركته في الهدنة وآفاقها هو فصائل وحركات المقاومة، وهذه عموماً ستستفيد من الهدنة فقط اذا ما اعتبرتها استراحة المحارب ووقتاً مستقطعاً لالتقاط الأنفاس. وحدها حركة"حماس"قد تستفيد من الهدنة على المستويين التنظيمي والسياسي. فبعد نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية في الضفة وغزة تسعى"حماس"للمضي قدماً في العملية الانتخابية للتعبير جماهيرياً وديموقراطياً عن قوتها المتنامية والمتصاعدة خلال سنوات الانتفاضة. وقد فهمت الحركة ومعها فصائل المقاومة الأخرى حجم الضغوط والمتغيرات التي عصفت بالمنطقة خلال السنة الأخيرة من قبيل رحيل الرئيس ياسر عرفات وانتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة وإعادة انتخاب الرئيس جورج بوش لفترة رئاسية جديدة ونجاح شارون في تمرير خطة فك الارتباط في الكنيست والحكومة والنجاح الجزئي لأميركا في العراق اذ أجريت الانتخابات وضبطت الفوضى ضمن الحدود المقبولة اميركياً، اضافة الى تصاعد الضغوط والحروب الجانبية ضد ايران وسورية و"حزب الله". كل هذه العوامل مجتمعة ادت عملياً الى قبول فصائل المقاومة بالتهدئة والالتزام العملي بوقف إطلاق النار. غير ان السؤال الأهم هو: ماذا بعد تنفيذ خطة فك الارتباط بشكل منسق مع السلطة والتي من المفترض ان تنتهي بحلول منتصف ايلول سبتمبر المقبل، وماذا بعد الانتخابات البلدية والتشريعية؟ هل يجد الفلسطينيون انفسهم مستنزفين في ادارة قطاع غزة وحل المشكلات المستعصية والمزمنة التي يعانيها، وكيف يحولون دون تحويله سجناً كبيراً وذلك عبر إقامة الميناء والمطار والسيطرة على الحدود البرية مع مصر ومحور صلاح الدين ومعبر رفح؟ يجب الانتباه الى ان اسرائيل مبدئياً ليست ضد الشروط والحيثيات السابقة وهي مستعدة للتفاوض على كل التفاصيل حول الميناء والمطار ومن سيتولى الأمن وما هي الشركات التي تتولى عمليات البناء والإدارة وكيف ستصل التجهيزات الى غزة وما الى ذلك؟ وفي مقابل المطالبة الفلسطينية بالشروع في قضايا الحل النهائي ستتساءل اسرائيل ومعها المجتمع الدولي: كيف تطالبون بالقدس وأنتم عاجزون عن إدارة غزة في شكل سليم وبنّاء؟ وكيف تتحدثون عن حق العودة للاجئين وأنتم عاجزون عن وضع حد للبطالة والفقر في القطاع وشمال الضفة؟ وبناء على ذلك سيجد القلسطينيون انفسهم بعد عام على نهاية فك الارتباط أي في ايلول سبتمبر 2006 قد عادوا عملياً الى أجواء ايلول 2000 قبل اندلاع الانتفاضة مضافاً إليها خطة فك الارتباط, الاسم الحركي للخطة الشارونية الحقيقية"غزة مقابل نصف الضفة"؟ كيف سيواجه الفلسطينيون سياسة الأمر الواقع في الضفة الغربية والاستيطان ومصادرة الأراضي وتقسيم اراضي الضفة الى كانتونات معزولة محاطة بالجوار والطرق الاستيطانية الالتفافية؟ في المدى المنظور, كما الاستراتيجي, الفلسطينيون نحن مطالبون بعصف فكري وحلول سياسية وتنظيمية خلاقة، وعلى السلطة ان تجد الآلية الواضحة للربط بين القضايا المرحلية والقضايا النهائية، وألا تتلهى بالتفاصيل والجزئيات عن الأساسيات والثوابت, وان تستمر حال المقاومة الجماهيرية والشعبية ضد الجدار والاستيطان وان تعود مشاهد المواجهة بين الفلسطينيين العزل وجنود جرافات الاحتلال الى واجهة عناوين الصحف ونشرات التلفزيون. والأهم لا بد ان تحافظ المقاومة على تماسكها التنظيمي وجهوزيتها العالية ووحدتها الوطنية لأنها ستكون مطالبة بإجبار شارون على فك الارتباط عن الضفة الغربية تماماً كما فعل في قطاع غزة. * كاتب فلسطيني.