«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيعية السياسية في لبنان من الهامش الى المتن . صورة الدولة في المشهد الشيعي ... "أمل - نبيه بري" والانقلاب اللبناني 2 من 2
نشر في الحياة يوم 24 - 05 - 2005

تترافق ذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي 25 ايار/ مايو مع متغيرات سياسية تستتبع الانسحاب السوري، وتشخص الأنظار الى اثر هذه المتغيرات على القوى الموجودة في جنوب لبنان، خصوصاً"حزب الله"المطلوب نزع سلاحه وإدراجه في سياق القوى السياسية اللبنانية، مع ما يعني التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 1559 من إثارة ملابسات اتصال"حزب الله"بالنفوذين السوري والإيراني ومتطلباتهما في"الساحة"اللبنانية.
هذه الدراسة تقدم صورة لوضع الشيعية السياسية في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد تساعد في توقع ما يحدث في المستقبل القريب، أي بعد الانتخابات النيابية اللبنانية، والدراسة اعدت قبل تبلور القوى المتنافسة في هذه الانتخابات. وفي ما يأتي نص الحلقة الثانية:
تترافق ذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي 25 ايار/ مايو مع متغيرات سياسية تستتبع الانسحاب السوري، وتشخص الأنظار الى اثر هذه المتغيرات على القوى الموجودة في جنوب لبنان، خصوصاً حزب الله المطلوب نزع سلاحه وإدراجه في سياق القوى السياسية اللبنانية، مع ما يعني التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 1559 من إثارة ملابسات اتصال حزب الله بالنفوذين السوري والإيراني ومتطلباتهما في"الساحة"اللبنانية.
هذه الدراسة تقدم صورة لوضع الشيعية السياسية في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد تساعد في توقع ما يحدث في المستقبل القريب، أي بعد الانتخابات النيابية اللبنانية، والدراسة اعدت قبل تبلور القوى المتنافسة في هذه الانتخابات.
منذ ربع قرن صعد نجم نبيه بري، وبمجرد صعوده داخل حركة"امل"وتحوله الى الرجل الاول فيها، بل في بعض الاحوال، الرجل الاوحد, تحقق صعوده داخل الشيعة, فأصبح القائد الاول في هذه الساحة الممتدة من جبل عامل الى ضواحي بيروت والبقاع, شرقيه وغربيه, ما بين نهري العاصي والليطاني، وهذا ما اهلّه خلال بضع سنوات ان يصبح اقوى شخصية سياسية في لبنان في مرحلة مقاومة غزو ال1982 وتداعياته، وفي لبنان الطائف والعلاقات السلطوية التي صيغت على اساسه.
لكن هناك فارقاً غير ظاهر بين المرحلتين. في الاولى كانت زعامة نبيه بري تترسخ في ظل تصاعد لمكانة حركة"أمل". اما في المرحلة الثانية فأضحت شخصية بري هي المحور والمركز, والحركة تتحرك كلما اقتربت منه وتتراجع, او تتحجم, كلما تضخم دور الزعيم في المجالين الحكومي والشعبي. وبين المرحلتين حصلت تحولات على اكثر من صعيد ترجمت اصداءها في العلاقة بين المثلث: الحركة الزعيم الناس.
في المرحلة الاولى كانت الحركة تمر بأزمة فراغ قيادي بفعل تغييب الامام المؤسس من جهة، وتجاذبات حَكمت الدائرة القيادية التي كانت على علاقة مباشرة بالمؤسس من جهة ثانية.
جنوبيا كانت فروع الحركة عكست غياب الامام التفافا عملانيا حول دور المنظر التنظيمي الدكتور مصطفى شمران، وتراجعت ادوار المستشارين والمساعدين من رجال اعمال وشخصيات اكاديمية. واذا كانت الثورة في ايران اخذت اليها المحرك التنظيمي, شمران, فإنها جعلت وجوه الحركة الآخرين يلزمون البيوت. وتلقت الحركة ضربات متوازية مع تغييب المؤسس وعزلة افراد القيادة القريبين منه، من التحالف اليساري الفلسطيني. وهكذا اعتزل احمد قبيسي العمل بعد محاولة غامضة لاغتياله. وتحول حسن هاشم الى حال تتجاذبها اهواء وتيارات وصولاً الى ما قيل عن تورطه مع دوائر معادية وانتهى به الى التوقيف.
بقاعيا اضعف الضغط اليساري الفلسطيني مواقع رئيس الحركة السيد حسين الحسيني وجذبت الثورة الاسلامية في ايران السيد حسين الموسوي وفرضت التراجع على كل من الاكاديمي الدكتود حسين كنعان وذي الاصول العسكرية العقيد عاكف حيدر. مثل هذا الفراغ جنوباً وبقاعاً قد يكون ساعد في تظهير زعامة نبيه بري. ولكن منذ بدء دوره كرئيس لحركة"امل"في العام 1980 كانت اشارات كثيرة تنبه الى ان له بعداً مختلفاً وانه رجل المرحلة. تحركات مكثفة اخرجت الحركة من عزلتها التي فرضتها عليها تطورات الحرب الاهلية في لبنان وتغييب موسى الصدر وسيطرة التحالف اليساري الفلسطيني على ساحة المد السياسي في المجال الاسلامي اللبناني, السني والشيعي منه.
وهنا يجب تسجيل الآتي:
باستثناء العامل السوري فإن العوامل الاقليمية والداخلية لم تكن لصالح نبيه بري ولا تعمل ايجاباً لاعادة اطلاق حركة"أمل"في ظل غياب الصدر من جهة وانتقال شمران الى ايران من جهة ثانية. لكن نبيه بري استطاع بسرعة كبيرة كسر الحواجز المنتصبة في وجه أمل: فعندما وافق على الدخول في ما سمي لجنة الانقاذ في آخر عهد الرئيس الياس سركيس الى جانب وليد جنبلاط وبشير الجميل، استطاع ان يدفع بأمل الى آفاق وطنية لبنانية ورفضها الانعزال في اطار مذهبي مناطقي. وحتى قبل غزو اسرائيل للبنان واخراج منظمة التحرير الى تونس، كانت حركة"أمل"بدأت توطد موقفها كفصيل لبناني وطني. وجاءت مقاومة الغزو لتحولها الى الرقم الاول ليس على مستوى الشيعة فقط بل على الصعيدين اللبناني والعربي. وروى احد الدبلوماسيين العرب ان احد الملوك العرب غير المشرقيين ارسل ورقة بيضاء موقعة منه على ان يضع عليها نبيه بري مطالبه واحتياجات العمل المقاوم. وبغض النظر عن صحة الواقعة فمجرد ورودها على لسان ذلك الدبلوماسي, وهو غير متعاطف مع"أمل"او مع بري, تظل امرا له دلالته على المكانة التي بلغتها الحركة وزعامة الرجل في النصف الاول من العقد الثامن من القرن الماضي.
اذاً يحق ل"أمل"ان تقول انها اول مقاومة شعبية مدنية مسلحة عربية بعمق اسلامي واجهت احتلالاً اجنبياً مباشراً منذ ثورة الجزائر 1954- 1962، وانها قامت بدورها من دون اسناد مادي من نظام عربي او اقليمي باستثناء الدعم السياسي والمعنوي الذي تلقته قيادة بري من الراحل حافظ الاسد، الامر الذي اسس لعلاقة بين"أمل"وسورية تقوم فعلياً على التحالف الميداني والتوافق الاستراتيجي. هذا التحالف لعب دورا متصاعدا في رسم مستقبل القوى السياسية في الساحة اللبنانية. في هذا الوقت كان عامل اقليمي مستجد يتحرك على الساحة اللبنانية في غير صالح استراتيجية"أمل"واحيانا كثيرة في تصادم معها، نعني بذلك عامل الثورة الاسلامية في ايران. في هذا الاطار نمت داخل"أمل"- بري ثلاثة اتجاهات
لاول تيار الادارة اللبنانية وهو الذي يرى في الحركة واحداً من ثلاثة شركاء كبار في ادارة الدولة اللبنانية سنة - شيعة - موارنة او واحدًا من خمسة شركاء كبار سنة، شيعة، موارنة، ارثوذكس، دروز. ومثل هذا التيار اعطى الاولوية للخلاص من الزعامة الاسعدية التي ظلت لعقود ثلاثة الشريك الشيعي الابرز في الدولة، وهذا الفريق يضم كثرة من موظفي الدولة في السلكين المدني والعسكري وفي دوائر القضاء, وطبقة من التجار والمغتربين وبعض متوسطي الحال من اصحاب المناصب الادارية على مستوى المحافظات والقائمقاميات والمجالس الاختيارية, وحتى بين المهن الحرة: اطباء ومهندسون ومحامون... الخ.
الثاني تيار الحركة الشعبية اللبنانية الذي رأى في"أمل"- بري البديل او الشريك عن الاحزاب والقوى اليسارية والتقدمية. وهذا الفريق يضم طلبة في الثانويات والجامعات واطارات مارست العمل السياسي في الاحزاب اليسارية والمنظمات الفدائية وفوجئت بحجم المؤثرات المذهبية التي تعشعش في هذه الاحزاب حتى في اعرقها علمانية, او تلك التي رأت في الحركة السبيل الاقرب للوصول الى حالة جماهيرية واسعة، مع شعور بصعوبة الوصول الى مثلها من خلال الانخراط في صفوف التيارات اليسارية اللبنانية والمنظمات الفلسطينية.
الثالث التيار الاسلامي الشيعي الوارد من حركات اسلامية ظهرت باكراً في النجف وامتدت الى لبنان والبحرين وبلاد الخليج الاخرى مثل"حزب الدعوة", او الوارد من فئات وعناصر استقطبها الى الجانب الاسلامي، انتصار الثورة في ايران. وكانت"أمل"بالنسبة الى هؤلاء واولئك الوعاء الجاهز لاستيعاب الجزء الاعظم من هذه الحالة.
والشاهد ان حركة"أمل"مع كل مرحلة ومستجد سياسي كانت تشعر بتوتر العلاقة مع فريق من هذه التيارات الثلاثة. مرة مع تيار الانخراط في الدولة. فعند توسع حضورها في الادارة اللبنانية كان التوتر يسود صفوفها الداخلية والمحيط القريب منها بسبب خيارات قيادة بري في هذا المجال والتنافس الشديد بين المنتسبين للحركة من جهة كما بين الذين ينتمون للمحيط المتعاطف معها، والمحصلة في هذا المجال ان نبيه بري دفع الى المراكز العليا في الادارة اللبنانية بعدد مهم من الاسماء المتحدرة من اصول ريفية او مدنية والذين يجمع بينهم انهم من ابناء بسطاء الكسبة والفلاحين او صغار التجار والموظفين, بل ربما كان بعضهم انحدر من اصول لا سابقة لها ليس فقط بالوظيفة العامة بل بمجرد التعلم ونيل الشهادات. فقد يكون الكادر الاداري الجديد هو الوحيد المتعلم بين عشيرة تصغر او تكبر, ومن بلدة صغيرة او متوسطة, مع ذلك فإن دورات التوسع الاداري ترافقت مع اعتكاف عدد من اعضاء الحركة او المتعاطفين معها من الذين كانوا يطمحون الى دخول جنة الادارة من بوابة"أمل", فلما لم تتوافر لهم فرصة لذلك انكفأوا واعتزلوا الحركة وتخلوا عن تاريخهم معها.
التوتر مع عناصر التيارين الثاني والثالث ارتبط مع نمو ظاهري لتيارات الاسلام السياسي بعامة ودخول"حزب الله"الى المسرح السياسي اللبناني بخاصة. وقد جرى في مراحل عدة ان انتقلت كادرات وعناصر من صفوف حركة"أمل"نحو صفوف"حزب الله"والدوائر المحيطة به.
اذا قطعنا السياق هنا سنجد ان قيادة بري لحركة"أمل"خيضت ضدها ثلاث مواجهات من داخل الصف"الوطني - الاسلامي". المواجهة الاولى وكانت مبكرة في اوائل الثمانينات مع التيار البعثي العراقي في الحركة الوطنية اللبنانية وذلك بعد مقتل السيد محمد باقر الصدر على أيدي النظام العراقي برئاسة صدام حسين. وقد فجر هذا الاغتيال سلسلة من الصدامات والاغتيالات والاغتيالات المضادة على الساحة اللبنانية كان بعضها يستهدف حركة"أمل"او عناصر قيادية فيها. كما كانت ابواب معسكرات"أمل"مفتوحة لتدريب عناصر تنتمي الى التيار الشيعي في العراق. ويذكر كثيرون من علماء الدين الشباب وكادرات الحوزة في النجف انهم خضعوا لدورات تدريبية في صفوف"أمل"باكرا في اواخر السبعينات ومطلع الثمانينات.
وتتابعت هذه المواجهة بين"أمل"والحركة الوطنية اللبنانية. لكن هذه المرة بفصائلها التي تنتمي للتيار اليساري الذي حاول محاصرة وجود الحركة في اكثر من موقع في جنوب لبنان. اما المواجهة الثالثة فكانت عندما زُجّتْ أمل في"حرب المخيمات"الفلسطينية في ثمانينات القرن الماضي, والتي الحقت اذىً كبيراً بقيادة نبيه بري وبسمعتها على الصعيد العربي، فاستعمل ضدها خطاب تحريض مذهبي تغذى من مناخات الحرب العراقية - الايرانية ومن التوترات العراقية الداخلية. مع ذلك لم تكن هذه الصراعات تشكل خطورة كبيرة على حركة"أمل"وعلى الساحة الشيعية اللبنانية كتلك التي شكلها الصدام مع"حزب الله"في اواخر الثمانينات, والذي دخل كل بيت شيعي في الجنوب والضاحية والبقاع. والذي حكمت آثاره مناخات السياسة في هذه المناطق حتى سنوات قريبة عندما انتصرت روح التقارب بين"أمل"و"حزب الله"على روح النزاع والتصادم. ويسجل هنا دور ايجابي للقيادة السورية متمثلة بالراحل حافظ الاسد لانجاز المصالحة وتطويق الصراع الداخلي، ومثل هذا الصراع، بخلاف الصراع مع اليسار اللبناني تارة والفلسطيني تارة اخرى، له موارد كثيرة كان يمكن أن تجعله قابلاً للانفجار اذا ما تراخت صمامات الأمان التي تمنع وقوعه:
- مورد مناطقي: جنوبي بقاعي, اذ لم تكن صدفة ان قيادة الصراع من جانب"حزب الله"كانت بقاعية, وعناصر الدفع في"أمل"نحو الصراع كانت جنوبية.
- مورد اجتماعي: ف"أمل"ترسخ وجودها في المدن الشيعية, في حين كانت عناصر"حزب الله"تأتي من البلدان الوسطى والصغرى في البقاع والجنوب. وليس غريباً في ما بعد ان سجل الحزب تفوقاً في الضاحية الجنوبية في حين استمرت مدينة صور حصن"أمل".
- مورد فقهي - ايديولوجي، فقد اعتبرت الخمينية اكثر ثورية من الصدرية، التي تذهب في لبنان الى الامام المغيب السيد موسى الصدر في حين كانت تذهب في العراق الى الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.
- مورد سياسي, لبناني واقليمي. اللبناني تمثل في ان"حزب الله"تأسس على رفض مزدوج للنظام اللبناني وللكيانية اللبنانية, في حين تأسست حركة السيد الصدر منذ البداية على الاعتراف بلبنان وطنا نهائيا لابنائه وعلى التعاطي مع النظام من منطلق اصلاحه واخذ الدور الملائم للشيعة فيه. اما الاقليمي فتمثل بداية في رفض"حزب الله"سياسات النظام العربي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية في حين كانت"أمل"تزاوج بين التوافق مع الموقف العربي انطلاقاً من بوابة دمشق والمبادئ التي عززها الصدر في فتواه الشهيرة"اسرائيل شر مطلق". وانعكس ذلك في ساحة الجنوب:"أمل"تدعم وجود القوات الدولية وتطالب بتنفيذ القرار 425, و"حزب الله"يرى في هذه القوات حماية لاسرائيل وفي القرار تنازلاً خطيراً امام الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
من الصدام الى التآلف
ويمكن ان نرصد تحول العلاقة بين"أمل"و"حزب الله"من الصدام الى التآلف مع تطورين:
الاول: مقتل اسحق رابين، وتعثر عملية التسوية بين اسرائيل وسورية من جهة وبين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة ثانية.
الثاني: انتصار التيار الاصلاحي في الانتخابات الايرانية, حيث بدا ان الحركة والحزب أخذا يعودان الى جذرهما المشترك, دور الامام الصدر الذي عمل الحزب على تظهير موقف متبن لذلك الخط، وعمل على تبني قضية الكشف عن مصير الامام المغيب.
مع ذلك لا بد من الاشارة الى ان هذا الصراع الاملي - الحزب اللهي تجاوز مرحلة الحرب الساخنة الى الحرب الباردة التي وسمت الساحة الشيعية في لبنان بسمات ما زالت تحكم الوضع الشيعي في لبنان حتى اليوم. وان تغلبت التوافقات الانتخابية في المجال البرلماني. فقد برزت التنافسات في مجال البلديات، ولعل هذا الصراع منعكس في مجالات مثل نقسام علماء الدين الى فريقين وان كانت الحدود تظل بينهما متداخلة وغير واضحة:
1- العلماء من خريجي المدرسة الحوزوية التقليدية في النجف اساسا وحتى في قم قبل الثورة وبعدها,وهؤلاء كانوا اقرب في نظرتهم الى حركة"أمل". واللافت اليوم ان زعامة نبيه بري تتمتع بعلاقات جيدة بأبرز ثلاثة علماء من هذه المدرسة التقليدية على ما بينهم من تفاوت في الرؤية واختلاف في الرأي, نعني بهم كل من المرجع السيد محمد حسين فضل الله ومفتي مدينة صور السيد علي الامين وامام مدينة النبطية الشيخ عبد الحسين صادق. طبعاً بالاضافة الى علاقته الوثيقة مع نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الامير قبلان.
2- رجال الدين الشباب، اذا صح التعبير، وهذه الصفة لا توضح حقيقة الانقسام, بل ان هذا الانقسام يشير الى انقسام اشد عمقاً بين رجال الدين المنبثقين من تكوين حوزوي تقليدي وكثير من اعضاء شورى"حزب الله"من هذا التكوين، وآخرين ينبثقون من تكوين المدارس التي تأسست بعد الثورة في ايران والتي اصبحت مهمتها اقرب الى تكوين اطارات دينية لقيادة العمل النضالي بوجوهه المختلفة.
- اصطباغ الساحة الشيعية في الجنوب والبقاع بانقسام حاد ثنائي الاستقطاب واضعاف القوى الاخرى الى حد الغائها او تحييدها. ويتبع ذلك تبلور قرى وبلدات تخص "أمل"واخرى تخص "حزب الله"وثالثة يتقاسمها الفريقان.
- يتمظهر الشارع الجنوبي بصورة خاصة بنوع من حرب الصور التي يمثلها حشد صور الشهداء عند مداخل البلدات وفي ساحاتها مما يؤشر الى حضور هذا الفريق او ذاك.
- معظم المؤسسات المحلية المدنية والصحية والتربوية والانمائية والاجتماعية في مجال تنافس حاد بين الفريقين, ويطال ذلك اسماء الساحات والشوارع في قرى لم تعرف هذه العادة اليها سبيلاً قبل العقدين الاخيرين.
والاهم من ذلك ان قيادة نبيه بري، بغض النظر عن الاجتهادات المختلفة في النظرة اليها، حققت لابناء جبل عامل في جنوب لبنان معظم بنود البرنامج المطلبي الذي كانوا يقدمونه على مدى نصف قرن من الاستقلال قبل الطائف، لبكواتهم من آل الاسعد والخليل والزين وعسيران, وملخص المطالب: طريق مسفلت ومدرسة, وهو ما لم يكن الزعيم الوائلي احمد بك الاسعد، في عز زعامته, قادراً على تلبيته, ولعل مأساة عجزه وحاجتهم تتلخص بحكاية الهاتف غير المربوط بخط والذي اجرى منه عشرات المكالمات يطلب ويتوسط ويأمر ويقرع!
طبعاً"الاستاذ"لم يكن فقط الاكرم, بل الاقدر ايضاً. فأنشأ من المدارس الابتدائية والثانوية ما يفوق الاحتياج حتى ان بعضهم اعتبر ان في الامر هدراً، وشق الطرقات المعبدة، فلم تبق زاوية قريبة او بعيدة الا وعرفت نعمة الاسفلت.
وقد لا تكون زعامة نبيه بري بحجم زعامة الاسعد الأب والجد ولكن من الواضح ان الشيعة أيام بري تحولوا صناعاً للسياسة في لبنان، وربما سيكون انجازه التاريخي, ليس فقط في تعزيز دور البرلمان في النظام اللبناني وجعل رئاسة المجلس تنتخب لمرة واحدة في كل دورة برلمانية, بل مارسته الشراكة في القرار وجعل البرلمان ورئيسه الرقم الاول في السياسة اللبنانية, وهذا ما يعكس بدرجة معقولة مكانة الطائفة الشيعية وحضورها ليس الديمغرافي فقط بل النوعي بانجازها التاريخي في تحرير الارض من الاحتلال الاسرائيلي وفي تأكيد وحدة لبنان وكونه وطناً نهائياً لابنائه دون ان ينتقص ذلك من عروبة لبنان وموقعه في العالم الاسلامي.
في نهاية احداث ال1958 لم يتردد حاكم لبنان آنذاك، وهو المفترض انه الاكثر عدالة بين حكامه، في تشكيل حكومة رباعية توزعت حقائبها على السنيين رشيد كرامي وحسين العويني والمارونيين بيار الجميل وريمون اده، من دون التفات الى تمثيل الشيعة, كبرى طوائف لبنان. الصورة اليوم، وعلى رغم أن الكثير من الشيعة يعتقدون ان هذه الطائفة لم تعط كامل حقوقها بعد، تشي بأن الشيعة في قلب معادلة البلد, بل هم بمثابة عمود الخيمة او على الاقل الركن الاول لها. وهذا ما يؤشر بوضوح الى حجم الانقلاب الذي قاده نبيه بري وحركة"أمل"بمساندة قوى كثيرة اخرى، وهي فعل حيوية داخلية اولا وثمرة ظروف اقليمية ودولية ثانياً.
اذ تقف هذه المقاربة عند أواخر تسعينات القرن الماضي فذلك لأن تطورات كبرى حصلت منذ العام 2000 تجعل الوضع كله في محطة مختلفة جذرياً لما سبقها وتحتاج الى مقاربة مستقلة, تعنى بخاصة بظاهرة"حزب الله"ودوره المميز في الشأنين اللبناني والعربي وفي الحال الشيعية بخاصة. وبموازاته لا بدّ من رصد دور بعض علماء الدين وبصورة محددة دور المرجع آية الله السيد محمد حسين فضل الله الذي كان له دورٌ حاسمٌ وثريٌ في رسم الشخصية المسلمة الشيعية في لبنان بخاصة وفي العالم العربي بعامة. والملاحظة الاخيرة ان ما لحق بسلبيات بمسيرة"أمل"ونبيه بري لا ينبغي ان تشوه وتغطي الوجهة الاساسية الايجابية التي عليها تبنى مرحلة الاصلاح والتصحيح المطلوب انجازها.
* رئيس تحرير مجلة النور - لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.