حين يحرص مسؤولون سوريون على فرملة التوقعات والتقليل من حجم النتائج المتوخى صدورها عن المؤتمر الوشيك لحزب البعث في سورية، فهذا يعني أحد أمرين: الأول، ان هناك من يعوّل كثيراً على المؤتمر العتيد في اتخاذ قرارات غير مسبوقة، من منطلق انه آن الأوان لإحداث نقلة نوعية في مسار الأحداث تقطع مع السياق التراكمي للأخطاء السابقة، ولمجمل الحياة السياسية في سورية. والثاني، ان من الخطأ الذهاب بعيداً في الآمال والوعود كي لا تكون الخيبة كبيرة، وهذا يحتمل، بدوره، تفسيرات وتأويلات شتى. فقد يعني ان حزب البعث، ليس هو الطرف المؤهل والقادر، للمراهنة عليه في المبادرة الى التغيير المنتظر، وقد يوحي بأن قرار التغيير والاصلاح على رغم التأخير فيه لم ينضج بعد في مطبخ صنّاع القرار السوري، وهو قد يوحي كذلك ان السلطة السورية لا ترى، أساساً، ما يستوجب التغيير، خصوصاً ذلك الذي تأمل به وتتحدث عنه أوساط المعارضة السورية. وفي الواقع، من البديهي جداً أن يهجس كثير من السوريين، على مختلف مشاربهم وأطيافهم، بحلم التغيير، وأن يعوّلوا أيضاً على المؤتمر القطري العاشر في المبادرة اليه، انطلاقاً من أنه يشكل فرصة ومحطة مناسبة للشروع فيه، خصوصاً أن الرئيس بشار الأسد كان أشار الى ذلك في خطابه أمام مجلس الشعب، الذي أعلن فيه قرار سحب القوات السورية من لبنان. ويتساءل المهتمون بالأمر، اذا لم يبادر النظام السوري الى البدء بالتغيير المنشود الآن، فمتى سيبادر اليه اذاً؟ كما يتساءل المواطن السوري، وحتى بعض البعثيين أنفسهم: تُرى هل سيكون المؤتمر مناسبة لوقفة نقد ومراجعة جريئة مع النفس، تجيب عن سؤال رئيس: ما الذي فعله حزب البعث بعد أكثر من 40 سنة على استلامه السلطة سواء بالنسبة لأهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية، أم بالنسبة لقضية تحرير الأرض ناهيك عن القضايا الداخلية مثل التنمية والخدمات والتعليم... ويقترن السؤال والتساؤل بكثير من الشك والقلق حيال المستقبل لدى كثير من السوريين. فسورية، في نظر هؤلاء، أحوج ما تكون، دولة ومجتمعاً، الى التغيير وصوغ علاقات جديدة بين السلطة والمجتمع، تمثل مظلة الحماية الوحيدة المتبقية لها، والتي يمكن أن تدفع عنها نُذر الغيم الأسود التي تلوح وتتجمع في سمائها. وسورية، كما يعتقد هؤلاء، تأخرت كثيراً في البدء بعملية التغيير والاصلاح، ومواكبة التطورات الدولية والاقليمية، ليس بالقياس الى بقية الدول غير العربية حتى لا نقول المتقدمة، لأن الدول النامية جميعها تقريباً، بما فيها الأفريقية والاسلامية، سبقتنا الى ذلك بحسب تقارير التنمية البشرية الصادرة عن الهيئات التابعة للأمم المتحدة بل بالقياس الى الدول العربية ذاتها، بدءاً من دول الجوار القريب، وانتهاء بالدول المغاربية الأبعد. فمصر، على سبيل المثال، بادرت الى تعديل المادة الدستورية الخاصة بانتخابات الرئاسة، منهية الاستفتاء الصوري عليها، ومفسحة المجال للتنافس بين اكثر من مرشح لمنصب الرئاسة مهما كانت درجة التحفظات عن التعديل المقر ونوعيته. اضافة الى ان في مصر، اصلاً، قانوناً للأحزاب، وصحافة مستقلة عن الدولة، وهامشاً للحياة السياسية النسبية، قبل هذا التعديل بسنوات طويلة. وكانت تونس سبقت مصر في ما يخص انتخابات الرئاسة، والمغرب سبق الجميع بحجم الخطوات المتخذة على صعيد الحريات السياسية، اذ بات هناك شكل من اشكال تداول السلطة مع احتفاظ القصر أو المخزن ببعض الوزارات السيادية. وفي بادرة نوعية لم تقم بها إلا دول قليلة في العالم، قام المغرب بسابقة تشكيل"هيئة الإنصاف والمصالحة"منذ اواخر العام الماضي، والتي كلفت فتح ملف الاعتقال السياسي والبحث في الاضرار المادية والمعنوية لضحايا ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، بما يتكفل بتمكين المغرب، في عهد الملك الشاب محمد السادس، من إفقاء دملّة الماضي، وعدم ترك سمومها تنخر في جسد الدولة والمجتمع. وسورية، كما يرى هؤلاء، في حاجة الى اعادة الروح الى مجتمعها، وتمليكه دينامية وحرية المبادرة والعمل لتقرير مصيره ومستقبله، وهذا يلزمه حفز وتشجيع مثقفيه وسياسييه ومختلف فئاته للاهتمام بالسياسة مجدداً والمشاركة في صنع القرارات. فمجتمع الحزب الواحد اشاع حالة من السلبية والعزوف عن العمل السياسي، وغابت لدى غالبية الافراد والجماعات المبادرة الذاتية والتفكير المستقل، وباتوا يعتمدون على الدولة في كل شيء، وحصلت حالة من القطيعة بين عموم أفراد المجتمع والنخبة السياسية، في السلطة والمعارضة معاً، بعدما بطشت السلطة بكل ما أوتيت من قوة بقوى المعارضة وأماتت أي تعبير او مؤشر على حياة سياسية طبيعية من دون ان يعفي هذا احزاب المعارضة من مسؤوليتها وأخطائها. وأفضت حالة الانفصال والقطيعة الى انتاج التكلس والتخشب ومراكمته في مفاصل المجتمع والسياسة، وإيجاد بنية مجتمعية راكدة وآسنة ألقت أي حافز للاجتهاد والابداع، وأعادت إحياء روابطها البدائية من عشائرية وطائفية وغيرها. ومن الصحيح ان هذا كله قد يسهّل انتاج واعادة انتاج البنية المسيطرة، مهما زادت في ركودها وتأسنّها، لكنه يعوق وسيعرقل كثيراً امكانات التخلص من هذه الحالة والانتقال منها الى حال جديدة. وهو بالقدر الذي يسهّل فيه كذلك، للسلطة الحاكمة عموماً، استمرار سيطرتها وتحكمها بزمام الامور، فإنه يوفر ايضاً فرص ومناخات الاختراق وإمكان تدخل القوى الخارجية. من هنا تأتي المسؤولية الكبرى على عاتق الحزب الحاكم للمبادرة في تجاوز هذا الواقع المتردي، مما يتطلب اتخاذ قرارات في منتهى الحزم والشجاعة، سواء في محاربة الفساد، الذي صار جزءاً لا يتجزأ من بنية النظام العام ككل، ام في فتح الامكانية الفعلية للمراقبة والمحاسبة. وسورية في حاجة ايضاً، خصوصاً الاجيال الشابة فيها، الى من يهتم بأمرها، ويؤمن فرص عمل لها وحداً أدنى من شروط الحياة المقبولة والكريمة، في وقت تتزايد معدلات البطالة بإطراد وتسير المؤشرات الاقتصادية تلقائياً في شكل معاكس تماماً لما هو مطلوب، الامر الذي يعد بمثابة قنبلة موقوتة في قلب الاقتصاد والمجتمع السوري، كما عبر نبراس الفاضل، مستشار الرئيس الاسد، الذي أعفي من مهماته اخيراً. وكما أفاد حسين العماش مدير هيئة مكافحة البطالة، الذي أزيح هو الآخر من منصبه قبل شهور عدة، فإن البطالة تزداد بمعدل 200 ألف عاطل سنوياً، وفي العام 2001 كان الحديث عن 440 ألف عاطل، الآن وبكل المعايير حتى المحافظة منها تتكلم الحكومة عن 700 ألف فما فوق، فيما تشير تقديراتنا الى 812 الفاً. وكما اتفق الفاضل والعماش، وهما مسؤولان سابقان، وليسا من المعارضة على اية حال، فان الضغط الكبير على سوق العمالة يتطلب امتصاصه نسبة نمو بنحو 6 في المئة، في حين ان"نسبة النمو، ومنذ 8 سنوات لم تزد عن 2 في المئة، اضافة الى افتقار الحكومة لوجود"رؤية مستقبلية وبرنامج متكامل وشامل ومعلن، يترجم في الاعوام المقبلة كيفية مواجهة التحديات الخطرة التي تعترض مسيرة التنمية". والافتقار الى"البرنامج والرؤية المستقبلية"لا ينحصر في الجانب الاقتصادي وحده، بل يشمل مختلف الانشطة والقطاعات الاخرى، الاجتماعية والثقافية والتعليمية والحرفية... وأهمها وفي مقدمها السياسية، والا فكيف نفسر هزيمة الديبلوماسية السورية، وتناقضاتها التي يرثى لها، على وقع التطورات الاخيرة التي عصفت في المنطقة، وفي لبنان على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، ما الذي كان يمنع مثلاً من طرح التقارير السياسية والاقتصادية والاجتماعية المقدمة للمؤتمر على النقاش العام وأخذ ملاحظات الجميع عليها، ما دام تأثير القرارات التي سيخرج بها المؤتمر لن ينحصر في البعثيين فقط، بل سيمتد ليشمل عموم افراد المجتمع السوري وفئاته؟ وسورية في حاجة ايضاً وايضاً، وعلى نحو اهم من كل ما سبق، الى التحرر من ربقة السيطرة الامنية على مختلف مؤسسات الدولة واجهزتها، وعلى مفاصل الحياة السياسية والمجتمعية كافة، حيث بات حضور الأمن والخوف من أجهزته، يحتل المقام الاول في حياة السوريين. ولم ينجح حزب البعث نفسه من الهيمنة الامنية فتراجع دوره وصار في رأي الكثيرين مجرد واجهة مدنية لأجهزة السلطة لا اكثر. ولكي يستقيم الحديث عن امكان انتقال"البعث"الى لعب دور المشرف والمراقب لمؤسسات السلطة واداراتها، فهذا يحتاج اول ما يحتاج الى انتشال نفسه وتخليصها من سيطرة الاجهزة الامنية، فهل سيقوم المؤتمر المزمع للبعث بنقد صريح وعلني لتجاوزات الماضي وسلبياته التي طاولته ايضاً، مما يمكنه من اعادة جزء من الصدقية المفتقدة تماماً له ولدوره في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية السورية؟ وعلى اية حال، لن يقيض له ابداً لعب دور الاشراف والمراقبة ما دام ذلك محصوراً به وحده، من غير ان يمتد ليشمل كل الاحزاب السياسية والجمعيات الاهلية وعموم افراد المجتمع. فمثل هذا الدور، وكما دلت مختلف تجارب البلدان، اما ان يكون مباحاً للجميع او لا يكون متيسراً لأحد. فالاباحة مع استقلالية المؤسسات التشريعية والقضائية والاعلامية هي التي توفر الآلية القمينة بإمكان الاشراف والمراقبة. وفي عكس ذلك تنعدم أية آلية امام أي حزب للعب دور مؤثر في الواقع... لربما من هنا تتأتى اهمية وضرورة تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري، التي تنص على ان"البعث هو القائد للدولة والمجتمع". - هناك العديد من النقاط التي يجدر الوقوف عندها ولا يتسع المجال لها، وبعضها يتعلق بفكر حزب البعث وعقيدته، لعل من اهمها موقفه من القضية القومية والاقليات، اذ يستوجب الامر ضرورة اعادة النظر بمفهوم العروبة والانتقال من"عروبة استبدادية"تغمط حقوق الاقليات القومية ولا تعترف بها، وكان اسطع تمثيل لها نظام صدام حسين السابق، الى"عروبة رحبة وديموقراطية"يتسع صدرها لتلك الأقليات، وتقر إمكان منحها الحقوق الثقافية او السياسية او القومية، وهذا ينسحب على موقف البعث من اكراد سورية والحقوق التي يطالبون بها، وفي مقدمها منح الجنسية السورية الى نحو 200 ألف من المحرومين منها. لكن, وعلى رغم كل ما سبق ذكره، فليس ثمة ما يوحي، حتى هذه اللحظة، بعقد عزم مؤتمر البعث، على الشروع بعملية الإصلاح والتغيير، سواء ما تعلق منه بحزب البعث نفسه، ام ما تعلق منه بالحياة السياسية السورية ككل. والخطوات المتخذة, او التي تسرب الحديث عن امكان اتخاذها في المؤتمر لا تشكل، في أي حال، تلك الانعطافة النوعية المرتجاة. فحين يطرح مثلاً، اصلاح الحياة السياسية برمتها، وإطلاق نشاط الأحزاب وفك اسرها، لا يصبح ذا قيمة كبيرة ضم الحزب السوري القومي الى الجبهة الوطنية التقدمية، خصوصاً انه يلتقي، ومنذ سنوات طويلة، في معظم مواقفه وخطه السياسي مع حزب البعث والسلطة السورية. وعموماً فإن ضمه الى الجبهة هو شأن خاص به وبالجبهة وحدها، ولا بأس بذلك، وحبّذا لو تنضم احزاب الجبهة المختلفة الى حزب البعث، فما خلا استثناء واحد تكاد الفروقات السياسية والفكرية بينها لا تذكر ابداً. اما حين يتعلق الأمر بأحزاب المعارضة عامة، فهذا يتطلب إقرار قانون للأحزاب، يتيح لها جميعها حرية العمل والنشاط على قدم المساواة، من دون تمييز بين حزب وآخر، وهذا ما لا يمكن ان ينسجم او يتوافق ابداً مع بقاء احد هذه الأحزاب قائداً، على إطلاقه، للدولة والمجتمع، وهو ما لا يمكن ان يتفق ايضاً مع استمرار العمل بقانون الطوارئ والمحاكم والقوانين الاستثنائية، بما فيها، اضافة للقانون الرقم 49 للعام 1980، المرسوم رقم /6/ المتخذ منذ اواسط الستينات من القرن الماضي، والذي يمكن ان يُحكم استناداّ إليه، بعقوبات تصل حد الإعدام، لكل من يناهض اهداف حزب البعث بالوحدة والحرية والاشتراكية، حتى لو كان ذلك بنواياه فقط. وفي الآونة الأخيرة، برز بعض المؤشرات التي لا تدعو الى التفاؤل، وأهمها ما حصل للكاتب والضابط البعثي محمد ابراهيم العلي، اثر ظهوره في برنامج تلفزيوني محلي وتوجيهه انتقادات لممارسة البعثيين، ومثل هذه الواقعة اعطت مؤشراً واضحاً الى ان هناك عدداً من البعثيين ممن ضاقوا ذرعاً بما يحصل، ولم يعودوا راضين به او قادرين على السكوت عنه. لكنها اثبتت في المقابل ان المراكز المتحكمة بالقرار داخل الحزب والسلطة ما زالت قادرة على منع هؤلاء من الكلام. وثمة اشاعات بأن العديد من الأصوات الإصلاحية، بمن فيهم عدد من الوزراء، امتنعوا عن ترشيح انفسهم لعضوية المؤتمر، ولنا ان نخمّن الأسباب او الظروف التي دفعتهم لاتخاذ هذا القرار وهل هو محض قرار ذاتي ام ماذا؟ وعلى هذا النحو تبدو رغبة المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث وقدرته على اجتراح التغيير والإصلاح في سورية اشبه بصناعة المعجزة المستحيلة، وكأن الإصلاح المنشود يحتاج الى عصا سحرية لا يعرف احد من الذي يمتلكها في هذا البلد! * كاتب سوري.