يختلف محمود عباس ابو مازن، الرجل الذي اختارته المؤسسات والشعب الفلسطيني ليخلف ياسر عرفات، اختلافاً جذرياً عن هذا الأخير، وإن كان يشبهه في مجال اساسي. وإذا اعطى توّلي ياسر عرفات سدة الرئاسة شكلاً للكيان الفلسطيني المعاصر، فإن وفاته قد تغير هذا الشكل. ف"ابو عمار"كان زعيماً مستقلاً، تكيّف في شكل ملحوظ مع الظروف التي واجهها شعبه، عشية حرب 1948، المهزوم والمشتّت والمحروم من دولة قادرة على احتوائه، ومن استراتيجية سياسية قادرة على توحيده. وتختلف مقاربة أبو مازن للأمور اختلافاً جذرياً عن مقاربة سلفه. ففي حين شكّل عرفات رمزاً وطنياً من طريق تماهيه مع كل مجموعة او حزب سياسي، اصبح ابو مازن رمزاً وطنياً من دون التماهي مع احد. ومع وفاة عرفات، كان لا مناص للسياسة الفلسطينية من الانتقال من حقبة مرحلة الثقل والوطأة الى مرحلة انعدام الجاذبية. العنف خيار غير منطقي وأبو مازن رجل سياسي ذو قناعات، أي انه ليس سياسياً حقيقياً. فهو ليس من الصنف الماكر، وأفعاله مرآة تعكس غالباً شخصيته وطبعه. وهو مسلم متدين، لكنه ضد مزج الدين والسياسة. وفوق هذا، يتشبث بعدد من المبادئ ويتردد في تلطيف صرامتها ويرفض التخلي عنها. ففي خريف 1999، عقب انتخاب ايهود باراك رئيساً للوزراء، قدّم ابو مازن للمسؤولين الأميركيين اقتراحاً بسيطاً يهدف الى اتفاق نهائي: دولة فلسطينية ضمن حدود 1967، مع القدسالشرقية عاصمة لها، والاعتراف بحق عودة اللاجئين. وضمن هذه الثوابت، والتناغم مع القانون الدولي، كان يترك مجالاً للنقاش. وعلى رغم خيبته من مجرى المفاوضات التي سبقت قمة كامب ديفيد في تموز يوليو 2000، كان ابو مازن يعارض اندلاع الانتفاضة المسلحة التي تلت. فهو يرى منذ مدة طويلة، ان العنف خيار غير مجد وغير منطقي في آن. ويدعو الى استئناف الحوار مع المجموعات الإسرائيلية المختلفة، وتبنّي خطاب تفهمه واشنطن، وحشد العالم في صف القضية الفلسطينية. ويملي بلوغ هذا الأمر ان يعيد الفلسطينيون الاستقرار والنظام الى وطنهم، ومراقبة الميليشيات المسلحة، وإرساء مؤسسات شفافة ومركزية، ووقف العمليات ضد اسرائيل خصوصاً. فينبغي، على ما يرى، ان تكون الوسائل والغايات واحداً. الذي يتوقع ان تلقاه. اعادة بناء المؤسسات اولاً ادى الوضع الى تقارب غريب في وجهات النظر. فالحذر بين سكان الضفة الشرقية الذين كانوا يخشون ان يقطع الانسحاب الإسرائيلي الوشيك التواصل مع غزة وسكان غزة الذين كانوا يخشون ان يقوم سكان الضفة الشرقية بالمستحيل لمناهضة الانسحاب ما انفك يزداد. لكنهم أجمعوا على"ابو مازن"ورأوا فيه رجلاً حيادياً يقف على مسافة واحدة منهم. فهو، تالياً، لا يشكل خطراً. وفي الوقت عينه، يتشبث مناصرو عرفات القدامى الذين يحرصون على الحفاظ على امتيازاتهم ووضعهم اعضاء اللجنة المركزية في"فتح"في المقام الأول ب"ابو مازن". وهم يرونه حاجزاً قوياً امام الطموحات المتعجّلة للقادمين الجدد. فحركتا"حماس"و"الجهاد الإسلامي"تعرفان ان"ابو مازن"يعتمد على الانتخاب الحرّ، وليس القمع شأنه. وانطلاقاً من اقتناعهما بأن اسرائيل لن تمكنه من وسائل النجاح، فإنهما مستعدتان، في حال الضرورة، للتريّث حتى تندلع المواجهات من جديد. وأما الولاياتالمتحدة الأميركية، وإسرائيل وأوروبا والعالم العربي، فترى ان ابو مازن يمثل الأهداف التي تسعى إليها وهي وضع حد للمواجهات المسلحة، وتعزيز المؤسسات الفلسطينية وحكم القانون. ويتمتع"ابو مازن"، اليوم، بهامش نسبي من حرية الكلام والتحرك، وهو هامش من الحرية لم يتوقعه، أو يتوقعه المراقبون. فالجماعات الفلسطينية التي كانت في ما مضى، تمارس ضغوطاً على ياسر عرفات، ويحاول عرفات تلبيتها، بقيت صامتة. والقوى الفاعلة السابقة تبدو اليوم كأنها تغط في سبات، ولا تقدر او هي لا تريد بناء معارضة منظمة وفعّالة. ويعزى وضع ابو مازن الى انه اكثر من اي مسؤول آخر حالي يواجه مرحلة انتقالية مع الأولويات الفورية للشعب: الأمن، والعودة الى حياة طبيعية خالية من الخوف، واستئناف الأنشطة الاقتصادية، وإمكان التحرك من جديد متحرراً من الحواجز ومنع التجول وغيرها من الممارسات المهينة. والمفارقة الأخيرة هي ان الفلسطينيين يتوقون الى العودة الى الوضع الذي كان سائداً عشية انتفاضتهم. ويبدو ان"ابو مازن"قادر على اعادة هذا الوضع. والرئيس الفلسطيني لا يراهن على اتفاق نهائي مع السيد شارون. فأمور كثيرة تفرّقهما. ويأتي في مقدمها تفضيل رئيس الوزراء الإسرائيلي اتفاقاً موقتاً وجزئياً، على الأمد الطويل، في اطار مناقشة المسائل الحساسة جداً ? الحدود، ووضع القدس، ومصير اللاجئين ? المرجأة الى وقت لاحق. وفي هذه الظروف لن تكون المرحلة الآتية والقريبة مرحلة الاتفاقات الثنائية، بل مرحلة القرارات الآحادية، أي انسحاب اسرائيل من غزة وشمال الضفة الغربية وترتيب الفلسطينيين وضعهم. الانسحاب من غزة والهدف الأخير لأبو مازن يبقى مناقشة سلام دائم، لكنه لا يعتقد ان اسرائيل مستعدة لهذا الأمر. وعبر إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية والحركة الوطنية، وتجديد الصلة بالمجتمع الدولي وملاحقة مطالب الفلسطينيين الثابتة وغير القابلة للمساومة، يعتقد ابو مازن انه يستطيع تحضير مرحلة ما بعد شارون، والإفادة من الهدوء الذي يتوق إليه. وهذا الأمر، من غير ادنى شك، رهان شجاع. فالدعم الذي يحظى به ابو مازن كبير مقدار ما هو هش. وهو ناتج عن الظروف الخاصة اكثر منه عن موافقة صريحة على شخصه او برنامجه. ولن يدوم الخوف والقلق والإرهاق الى الأبد. فكلما مرّ الوقت اشتدت صعوبة الخيارات، وزاد عدد اعداء أبو مازن الصريحين. وقد يتخلى عنه بعض الذين يدعمونه دعماً فاتراً، ويزداد الانجذاب الى مقاومة منظمة وفاعلة، وتلقى الدعوة الى النضال المسلح آذاناً صاغية. ويأمل"ابو مازن"في احراز تحسن ملموس في حلول هذه المرحلة، أي الاستقرار والنظام وتحسن شروط العيش، وحرية التنقل، فيعوض خسارة دعم البعض بتعزيز دعم الآخرين. والمكسب الثانوي هو مواجهة الرئيس جورج بوش بتعهداته. اذ اعلن الرئيس الأميركي اكثر من مرة انه اذا توصل الفلسطينيون الى السيطرة على الجماعات المسلحة، وإدخال الديموقراطية الى نظامهم، حصلوا على دولة دائمة وذات سيادة. ورهان ابو مازن بسيط: اذا ما احترم الفلسطينيون تعهداتهم، فيجب على الدول ان تحترم تعهداتها ايضاً، وتمارس ضغوطاً على اسرائيل. ويراهن ابو مازن ايضاً على التغيرات المقبلة في اسرائيل، آملاً في ان تدفع العودة الى الهدوء مواطنيه الى فرض سلام شامل وإذا بلغ هذا الطور في مدة قصيرة نسبياً، يعتقد"ابو مازن"انه قادر على السيطرة على نفاد الصبر الشعبي، وتجنب العودة الى النضال المسلح. وخلاصة الأمر انه يريد انتزاع مبادرات من اسرائيل والأسرة الدولية قبل ان يرهق الشعب الفلسيطيني، المرهق اصلاً. وهوخسر هذا الرهان اثناء توليه رئاسة الحكومة من 29 نيسان ابريل الى 7 ايلول سبتمبر 2003. وتلوح عقبتان مهمتان في الأفق: تكمن العقبة الأولى في الانسحاب المنتظر من غزة. فهو مبادرة لا يمكنه معارضتها: فإسرائيل تعيد اراضي للفلسطينيين وللمرة الأولى منذ اندلاع الصراع، وتجلو مستوطنات عن الأراضي الفلسطينية، وعند تحررها يمكن ان يعاد بناء غزة لتكون مثالاً للأراضي المحتلة الأخرى. إلا انها عملية لا يمكن ان يحتفى بها فكثيرون من الفلسطينيين يخشون ان يساعد الانسحاب وانصراف انتباه العالم الى غزة، شارون في بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربيةوالقدس، وفي استئناف بناء الجدار الفاصل. أما العقبة الثانية فهي اقتراح اسرائيل إقامة دولة فلسطينية داخل حدود موقتة لغزة وبعض اجزاء الضفة الغربية. وتحمل رغبة جامحة في إحراز تقدم وبناء مؤسسات جديدة، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي،"ابو مازن"على القبول بالأمر. وكذلك الأمر بالنسبة الى الدول العربية التي ترغب في استقرار الوضع بأي ثمن. إلا ان ما يراه كلهم تنازلاً اسرائيلياً يبدو فخاً ل"ابو مازن"او محاولة لخفض مستوى الصراع ونزع الطابع الانفعالي عنه. ولكن، في الوقت الحاضر، يبدو"ابو مازن"مشروع رغبات كثيرة ومتناقضة في معظم الأحيان. فهو الحامي والمخلّص، وهو امل اخير لجيل كامل، وشيطان في نظر بعضهم وأقل شيطانية في نظر آخرين. وعند معاينة مساره، لا بد من ان يتساءل المرء من اين خرج هؤلاء الذين يعتمدون اليوم عليه؟ وكم من الوقت سيبقون الى جانبه، وما الذي فعله ليستحق رفقتهم الثقيلة الوطأة؟ حسين آغا وروبرت مالي، نيويورك ريفيو أوف بوكس، شباط فبراير 2005