التعاون مع الديموقراطيات الغربية المتطورة بما فيها الولاياتالمتحدة شكّل دائماً واحداً من التوجهات الاساسية للسياسة الروسية. لكن، اضافة الى ذلك، لدى روسيا توجهات اخرى، بينها مثلاً احياء علاقات الشراكة التقليدية مع بلدان الشرق الاوسط. وكما اظهرت نتائج القمم الروسية - الاميركية السابقة فإن معظم أهداف سياستنا الخارجية يمكن التوفيق بينها بنجاح كبير. العلاقات الاميركية - الروسية تمر حالياً بمرحلة يمكن وصف العديد من جوانبها بأنها ليست سهلة بالمرة. فمن جانب، وعلى مدار السنوات العشر الاخيرة، تمكنت موسكو من بناء علاقات وثيقة مع واشنطن، ومد جسور اتصالات متواصلة، والتأسيس لمواقف متقاربة حيال غالبية المسائل. ويمكن القول اجمالاً ان اكثر الاتصالات الثنائية على مستوى الهيئتين الاشتراعيتين او الحكومتين او حتى على مستوى رئيسي البلدين، غدت لقاءات عمل تقليدية متواصلة. لكن، من جانب آخر، فإن كل المنظومة السياسية الدولية تغيّرت، وروسيا كلاعب عالمي لا يمكن ان يرضيها الدور الذي منحته لها واشنطن خلال السنوات العشر الماضية مثلاً. فروسيا اليوم ليست ذلك البلد الذي يمكن التعامل معه بلغة الزجر والوصاية، بل انه غدا شريكاً متساوياً، ولاعباً كامل الحقوق على الخريطة الدولية. كثيرون في واشنطن لا يرضيهم ذلك، واعتقد انه لوقت طويل مقبل لن تتراجع حدة الهجمة المعادية لروسيا هناك، والحملات ضد ما يوصف بأنه تراجع عن الديموقراطية او ما الى ذلك. لكن، على سبيل المثال، كانت النتائج الاساسية للقمة الاميركية - الروسية الاخيرة في براتسلافا اظهرت استعداد الرئيسين لبناء قاعدة من الشراكة المتكافئة بغض النظر عن حملات العداء لروسيا في الولاياتالمتحدة ومثيلاتها في روسيا ضد الولاياتالمتحدة. الاختلافات في التوجهات العامة للسياسة الخارجية عند البلدين لا تصل الى ما يعرف باسم النقطة الحرجة التي يمكن ان تسفر عن تفجير العلاقات الثنائية، بل هي تباينات طبيعية لوجهات النظر بين دولتين تنتهجان سياسات مستقلة ضمن الالتزامات والاتفاقات الدولية الموقعة. ويمكن القول على وجه العموم ان غالبية الاختلافات في وجهات النظر بين روسياوالولاياتالمتحدة، تتمحور حول مسائل التعاون مع دول منطقة الشرق الاوسط والاقاليم المتاخمة لها، ويمكنني ان اقسم هذه الخلافات الى مجموعات رئيسة عدة: تقييم الوضع في العراق، اسرائيل والاراضي الفلسطينية، لبنان وسورية، ايران، ليبيا، السودان، المملكة العربية السعودية وعدد من الدول الاخرى. وكما هو معروف، فإن روسيا عارضت بقوة الحرب في العراق، ما أثار بدون شك عدم رضا من جانب الولاياتالمتحدة، والآن بعدما غدت الحرب المنتهية امرا واقعا وحقيقة تاريخية. يمكن القول ان مواقف البلدين بدأت في التقارب، لكن هذا لا يعني انه لا يوجد الكثير من الاحجار تحت المياه الراكدة ، فموسكو تتعامل بتحفظ شديد مع جهود واشنطن لمنح صفة شرعية لمؤسسات الديموقراطية الناشئة في العراق ،ولا تشعر روسيا بالكثير من التفاؤل حيال الانتخابات الاخيرة هناك، كما انها تنظر بحذر كبير الى افاق اقرار الدستور الجديد المفصل ليرضي جميع الاطراف. وفي المقابل فإن موسكو مهتمة بدرجة لا تقل عن اهتمام واشنطن بأن تسير عجلة الاستقرار ودمقرطة الاوضاع في العراق بكامل طاقتها، وقد يختلف البلدان في شأن الآليات والوسائل الممكنة لتحقيق ذلك، لكن حقيقة ان الهدف مشترك هي امر ايجابي ومرضي. لا شك ان العراق أمامه طريق طويل ومتعب نحو السلام والاستقرار والديموقراطية. ومن الخطأ السير بخطوات متسرعة جداً لأن هذا سيلحق الاذى بمصالح جزء كبير من العراقيين. وعندنا مثال واضح هو نتائج الانتخابات بالنسبة الى السنّة. وعلى رغم ذلك، وبغض النظر عن المشكلات الصارخة، لا يمكن ان لا نعترف في شكل اجمالي بالتقدم الايجابي الذي تحقق في العراق، والذي رغم انه لم يسفر عن انهاء المواجهات المسلحة، والنشاط الارهابي، لكنه يسهم ببطء نهوض البلد من اوضاعها السابقة. والتقييم نفسه يمكن سحبه على الوضع في فلسطين، اذ خلال الزيارة الاخيرة لم يكن من الممكن ان لا نلاحظ الخطوات الكبرى التي قامت بها السلطة على طريق الديموقراطية والاستقرار، لكن ايضاً هنا تحاول واشنطن تسريع الاحداث بشكل كبير، وهذه العجالة التي تعمل بها كوندوليزا رايس، لحلحلة الاوضاع، ليست موضوعية من وجهة نظري. لا شك ان تقديم المساعدات المالية للفلسطينيين والاسرائيليين واجلاء مواقف الطرفين حيال غالبية الملفات الخلافية هي امور ضرورية ومبررة، لكن لا يمكن تجاهل انه ما برحت ثمة مشكلات بين محمود عباس وقادة المنظمات الارهابية وتحديدا حماس وحزب الله، وكذلك لا يمكن تجاهل الوضع العام غير المستقر في المنطقة. عموماً اعتقد انه لا بد من اجراء تقييم هادئ ومتوازن للموقف بدلاً من التسرع في الخطوات، والتدخل السافر والمباشر ان كان من جانب واشنطن او موسكو قد يكون له نتائج غير متوقعة، فمثلاً، الدعم القوي الذي حصل عليه عباس من جانب واشنطن قد يكون له آثار سلبية لاحقاً نظراً الى مشاعر الكراهية للولايات المتحدة في المناطق الفلسطينية ويلحق اضراراً بالرجل الذي يعتبر الجميع انتخابه خطوة ايجابية مهمة. وفي السياق ، فإنني اعتقد ان موقف موسكو التي ما برحت تلعب دور المراقب النشط اكثر صحة فالوضع ما برح يتطلب مزيداً من الشفافية والقدرة على تجنب المفاجآت للقيام بتدخل اوسع. أما ما يتعلق بتطورات الموقف في لبنان وسورية فإن مساحة الخلاف في وجهات نظر موسكووواشنطن اوسع بكثير. المهم بالنسبة الى روسيا ان عدم السماح بتحويل المنطقة كلها الى بؤرة صدامات، فالعراق من جانب واسرائيل والفلسطينيين يواصلون المساعي للخروج من هذه الدائرة، واذا دخلت سورية ولبنان في دوامة عدم الاستقرار ستكون المنطقة كلها مهددة بالاشتعال، ومع مراعاة الروابط القوية في المنطقة فإن اي تدهور على هذا الصعيد سيهدد بنسف كل النتائج الايجابية في العراق او على الصعيد الاسرائيلي الفلسطيني. وفي هذه المسألة يفكر الاميركيون بطريقة مختلفة، فالمهم بالنسبة اليهم الآن هو نشر الديموقراطية في العالم، واذا امكن تحقيق ذلك بكبسة واحدة على الزناد، وما دامت القوات الاميركية موجودة في المنطقة، لحسن الحظ من وجهة نظر الاميركيين، فيجب القيام بذلك. وهذا هو السبب الاساسي وراء الضغوط المتواصلة على سورية ولبنان، ويتم ذلك حتى من خلال ثقل وتأثير المملكة السعودية، وعبر استخدام لهجة التحذير لروسيا من جانب الاسرائيليين، وغير ذلك الكثير من عناصر الضغط ، نحن لا نعتقد ان هذه السياسة صحيحة. ومرة اخرى نحن نتفق هنا مع الاميركيين بضرورة التدخل الدولي وتوجيه الامور في لبنان نحو الديموقراطية وضمان الاستقلال السياسي والاقتصادي له، لكننا مرة اخرة نختلف في وسائل تحقيق ذلك، وهذه المرة نختلف جذرياً، اذ ينبغي ان لا ننسى مع اتفاقنا على اهمية الانسحاب السوري الكامل، الدور المهم الذي لعبه السوريون لانهاء الحرب الاهلية وضمان الاستقرار في المنطقة. وهناك نقطة خلافية كبيرة في السودان ايضاً، على رغم ان الهدف واحد، ويتمثل في دفع الديموقراطية في السودان وقطع الطرق على عمليات استخدام الاراضي السودانية من جانب المنظمات الارهابية. فواشنطن تفضل التعامل بالوسائل التقليدية مثل العقوبات، وترى امكان اللجوء الى استخدام القوة وعناصر الضغط المختلفة، أما نحن فنرى ان جذر المشكلات في السودان يكمن في مستويات الفقر المأسوية، وهنا تدعو روسيا الى عدم استخدام وسائل الضغط، بل على العكس من ذلك، مساعدة السودان على حل مشكلاته الاقتصادية الاساسية، ونعتقد ان ذلك وحده سيسهم في تحسين المناخ السياسي هناك. في مقابل المسائل الخلافية تتفق مواقفنا تماماً مع الاميركيين حيال مسائل انتشار الارهاب في الشرق الاوسط. وحول هذه النقطة فإن موسكووواشنطن تعتقدان انه لا يمكن السماح بذلك في اي حال، ويوحدنا موقف ثابت حول ضرورة استخدام كل الوسائل الممكنة للحيلولة دون ذلك حتى عبر استخدام اساليب الضغط والقوة لعرقلة النشاط الارهابي. وعلى رغم ان موسكو تفضل عدم اللجوء مباشرة الى الضغوط وتدعم اساليب الحوار حتى استنفاد كل الفرص، إلا أنها بحسب اعتقادي مستعدة للاعتراف بضرورة استخدام القوة في حالات معينة تلبي المصالح المشتركة في مواجهة مخاطر الارهاب. لكن هناك نقطة مهمة، اذ يجب عدم الخلط بين خطر الارهاب ومشاعر"عدم الرضا"عن نظام سياسي ما ، كما يحدث مع الاميركيين ازاء ايران وبرامجها النووية، ولحسن الحظ فإن القمة الروسية - الاميركية الاخيرة اظهرت انه حتى في هذا الملف الحساس والحاد فإن موسكو قادرة على التفاهم مع شريكتها وراء المحيط، فروسيا حرصت دائماً، مثل الولاياتالمتحدة، على تأكيد موقفها حيال ملف عدم انتشار اسلحة الدمار الشامل، واعتقد ان واشنطن باتت مقتنعة بأن مشروع بناء محطة بوشهر بمشاركة روسية موجه حصراً لخدمة أهداف مدنية، والتفاهم بيننا كبير حول هذا الموضوع الى درجة غير مسبوقة. عموماً يمكنني القول ان مصالح روسياوالولاياتالمتحدة المشتركة اكبر بكثير من تلك المساحات الخلافية بيننا، وبعيداً عن الشرق الاوسط لدينا خلافات تتعلق بالتطورات الكبيرة في اوكرانيا وجورجيا ومولدافيا، وحيال الموقف من الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا ومناطق اخرى عدة، لكنني لا اعتقد ان هذه الخلافات جذرية أو أنها وصلت الى منطقة اللاعودة. لأن مسائل الديموقراطية، ومشاكل الارهاب، ومنع انتشار اسلحة الدمار، والحرب على الفقر، وتحسين الاوضاع الاجتماعية، كل هذه جزء بسيط من ملفات عالمية تتطابق فيها وجهتا نظر روسياوالولاياتالمتحدة، واعتقد ان لذلك اهمية قصوى تفوق كثيراً مساحة الخلاف. رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس السوفيات الشيوخ الروسي ورئيس منظمة التضامن الروسية مع بلدان اسيا وافريقيا.