تعيّن يسرى مقدم القسم الأول من كتابها"مؤنث الرواية"دار الجديد بالمطارحات في قضايا شتى، وهو كذلك حقاً بما تعنيه المطارحة من السجالية ومن تناوب أو تنوع زوايا التناول وطبيعة التناول التي تفسح للذات بقدر ما تتطلب من المكنة العلمية. والمطارحة التي يصنفها بعضهم بهجين المراجعة والمداخلة والسجال والدرس الأكاديمي، نادرة في المشهد النقدي العربي. والمطارحة لا تعلو إلا بقدر ما يتوافر لصاحبها/ صاحبتها من النظر العميق ومن الثراء والإحكام. ولعل للمرء وربما عليه أن يعجّل بالإشارة إلى ما اتسمت به مطارحات يسرى مقدم من كل ذلك، ابتداء بما هو بمثابة مقدمة عنوانها"شبهة الكتابة". وقد تعلقت هذه البداية بالرجل القارئ الذي تقدر المؤلفة أنه يدخل في الغالب الأعم إلى نص المرأة للتلصص أفضّل على هذا المصطلح العلمنفسي: البصبصة على عالم الأنثى. فكتابة المرأة لا تنفصل لدى مثل هذا القارئ عن جسدها. والرجل الذي يحسب أنه يمتلك القوامة على الذات والعالم يسيء الظن بفنية الكتابة الأنثوية، ولا يفرق فيها بين واقع ومتخيل، لذا تكون كتابة المرأة عرضة للشبهة دوماً. على هذا النحو تصير الكتابة/ الشبهة عند الرجل القارئ مساءلة للمرأة عما أنجزت وأضافت. وإزاء ذلك كله تسجّل المؤلفة أن الكتابة الأدبية تُلبس التجربة هوية متخيلة تُسقط شبهة الهوية الحقيقية للكاتبة، ليرتقي النص إلى شرط الفنية المنشودة، متوسلاً التخييل. وهذا ما سيتتوج بمقاربة المؤلفة للكتابة الإبداعية النسائية كما ترى إليها المرأة، حيث لا تخشى في كتابتها قوامة ولا تحذر من رقابة، وليس كما يراها الرجل القارئ أو الكاتب وحسب. والمطارحة الأولى في ما هو بمثابة المقدمة لكتاب"مؤنث الرواية"تتعيّن إذاً بالقراءة المطابقة أو المغرضة، والتي أمضي إلى أنها لا تنحدّ فقط بما سبق، بل تؤذي بإغراضها أي نصّ، أكان لرجل أم لامرأة. وسوف يتثنّى في المطارحات التالية بعض ما سبق، ويتفرّع بعضه، كما ستتعالق بعض المطارحات التالية، لتتركز شواغل"مؤنث الرواية"في المحصلة باللغة والبلاغة وبما بين الكتابة وجنسوية الإبداع. فتحت عنوان"لغة الظل"تأتي المطارحة الثانية لتجلو ورطة المرأة في الكتابة/ المأزق، إذ تكتب ما تعلمته من المتسلطن بسبقه على عرش الكلام، غافلة عن أن النقل مخادع يختزلها إلى كينونة فرعية، ومتوهمة أن الصورة هي الأصل. وهكذا كانت لها لغة الظل"اللغة المحكومة بالاتباع والطاعة". وسيتوالى تعميق وتفتيق هذا القول في مطارحة أخرى عنوانها"مساءلة اللغة وإبداع المرأة"تبدأ بمساجلة عبدالله الغذامي، حيث يقرّ في كتابه"المرأة واللغة"بالانقسام بين مصطلح الفحولة والأنوثة في الكتابة الإبداعية، ويرى أن المرأة أقصيت عن المساهمة في تكوين اللغة وإنتاجها، ويتساءل عما إذا كان تم تذكير اللغة نهائياً أم أن هناك مجالاً للتأنيث. لكن يسرى مقدم تدفع النمذجة لذلك بالجارية في"ألف ليلة وليلة"التي تماهت بإبداع الرجل. وتمضي المؤلفة في تحديد موقفها بعيداً من التورط في نزعة سلبية منحازة، تتطرف في معاداة الآخر/ الذكر فتجعله غريماً وتدعو إلى مناهضة الإبداع الذكوري المتسيد، وتحرض على انتفاضة يمسي فيها التابع متبوعاً وبالعكس. وبالتأسيس على ذلك تدفع يسرى مقدم بالسؤال عن كيفية انعتاق الكاتبة من محبسها، وتقترح للجواب أن تلتفت الكاتبات إلى سبيل آخر غير سبيل المحاكاة، وأن ينتجن خطاباً يشتغل على مناهضة العنصرية الجنسوية. وفي نزوع تبشيري تدعو مقدم إلى نجاة الكاتبات من سلطة شهريار العصر، لتبشيره بمعجم لغوي يفك أسر الدلالة المغلولة. وما يضيئ ويعزز اقتراح مقدم توكيدها على أن كل خصوصية تضمر الاختلاف، وعلى أنه لا مفر للكتابة من نافذة للذات على الذات، شريطة أن تكون مواجهة للذات ومرتبطة بحتمية الالتفات إلى الآخر/ الرجل. وفي هذا السياق تأتي مساجلة الكاتبات اللواتي تطفح كتاباتهن الروائية بالاحتجاج والقهر. كما تلح مقدم على أن هرب الكاتبة إلى كنف الخطاب الذكوري هو خوف من الحرية، وتلح مقدم أيضاً على اعتراف الكاتبة بدءاً بتواطئها فيما آلت إليه كتاباتها المتعثرة، باعتبارها شريكاً سلبياً أسهم بوجه من الوجوه في تكريس الدونية والتبعية. وفي المقابل ترى مقدم أن بعض الكتابات النسائية يلوح ويرهص باختراق خطوط الحجر وقول منازع الذات، مؤسسة لقول نسائي خاص"مغيَّب من ضمير اللغة"لا يتعارض بالضرورة مع"قول الآخر المختلف أو ينافسه أو يزيحه، بل يتكامل معه ويكتمل به لتبرأ اللغة من أحادية القول المستبد". ولا تعلق المؤلفة سؤال اللغة على النحو والصرف وحسب، بل تدفع به إلى النظر في أحكام الدلالة نظرة المتأمل في ما آل بنا إلى"تصحر لغوي"يتأسس في"تصحر الفكر"ويورثنا"شبهة حياة". وترى مقدّم أن بين واقع اللغة وواقع المرأة في هذه المطارحة مشاكلة. فاللغة تشبه ضعفاء الأرض والنساء منهم ويتهددها المحو لتتعظم"صنمية المعجم اللئيم والمستبد". وقد سبقت ذلك في مطارحة"بلاغة المقموعين: مراوغة الصورة أم الذات"مساجلة جابر عصفور إذ يعقب على من يعلق الحضور الإبداعي للمرأة في الكتابة بمشاركتها في موقع القرار، فيرى أن الإبداع يواجه المجتمع بمرواغات السرد وحيل التمثيل الكنائي الذي هو سلاح بلاغة المقموعين، ومنهم المرأة. لكن المجاز في متابعة المؤلفة تراثياً ابن الأثير هو فرع والحقيقة أصل، والمجاز القاصر إذن كالأنوثة المقصية، فهل في بلاغة المقموعين ما يجيب عن السؤال: من يعبر عن من؟ ومن يراوغ من؟ تعرّف يسرى مقدم الكتابة الإبداعية في مقارنتها"الكتابة وجنسوية الإبداع" على أنها بديل افتراضي من العالم، تتوسل الدواخل كتعبير فني عن الذات يملك قواسم مشتركة بين كاتب وكاتبة، لكنه يقر بالاختلاف. ويتتوج ذلك في هذه المطارحة بالاعتراض على أي ادعاء بانعدام الفوارق بين إبداع ذكورة وإبداع أنوثة، وبنقضها دعوى المساواة، ليلحظ في التكامل معنى أدق، إذ لا مناص للكتابة الإبداعية من التورط في ثنائية جسديه تضفي بتنوع خصوصياتها واختلافاتها القيمة على الوحدة الإبداعية. وهذا القول، بالجهارة نفسها أو بدرجة أو أخرى من التصريف الخفي، ينادي أنموذج الاثنين المختلفين لدى إيريغاراي بديلاً للنموذج الكلي القدرة، الواحد والكثير، وتخليصاً للاثنين من الواحد والكثير، حيث المع وليس التعدد/ الواحد في تشتته. وسواء في هذه المطارحة، أم في سواها، أم في علن وفي طيات المقاربات النقدية في القسم الثاني من كتاب مؤنث الرواية، يترجّع نداء أطروحة إيريغاراي في المتخيل الأنثوي الذي يناقض فكرة الواحد، مقابل المتخيل البصري الموسط دوماً بالرمزي، والذي يقابل تاريخياً تكوين الجسد الذكري. على أن نداءات الكتاب لإيريغاراي تتفاعل مع غيرها من نداءات النقد النسوي. وتشغّل يسرى مقدم النداءات والعنديات في السؤال عن إنجاز الكاتبات لواقعة الاختلاف أو الخصوصية، وفي السؤال عما أسست له وعنه مدعيات الإبداع في أدب السياسة والاجتماع والفكر. وستتعيّن المساجلة مع هذا كله ومع سواه في المقارنة الأخيرة"صوت الكتابة أم أصواتها"والتي تبدو ألصق بالقسم الثاني من كتاب"مؤنث الكلام". أما التعيين فمنه ما في نفي أسيمة درويش لخصائص إبداعية ذكورية أو أنثوي، مما تسميه يسرى مقدم بالعمى المعرفي، ومنه ما تراه في استبطان روايتي هدى بركات أهل الهوى ورشا الأمير يوم الدين للآخر/ الرجل، وكتابته بقلم امرأة، تعويضاً لانكتابية مزمنة، تطمح من دون أن يتحقق طموحها إلى كتابة هذا الآخر. وفي تعيينات المطارحة الأخيرة أيضاً ما تأخذه المؤلفة على لينا الطيبي في انتحالها لسان المذكر في شعرها. وكذلك انتقاد محاولة بعض النساء إعادة كتابة التاريخ بأقلام النساء، إذ ترى مقدم أن هذا الهروب إلى هذا التحدي هو إيغال نسائي في تجاوز الأسباب الفعلية التي آلت إلى استفراد السلطة بتدوين التاريخ كما بالمعرفة. بالانتقال إلى القسم الثاني من كتاب"مؤنث الرواية"تشغّل المؤلفة قدراً أو آخر مما انطوت عليه مقاربات القسم الأول في قراءاتها لروايات رشا الأمير وهدى بركات وإلهام منصور حين كنت رجلاً أنا هي أنت ونوال السعداوي سقوط الإمام وعلوية صبح مريم الحكايا وأحلام مستغانمي عابر سرير وحنان الشيخ إنها لندن يا عزيزي وأخيراً: نص صباح زوين"لأني، وكأني، ولست". وبينما تأتي قراءة هذا النص كنصّ عليه، يحتفي بلغته المتشظية وبهطله الهذياني وبالزوبعة الكتابية التي يثيرها إذ يعيث في اللغة التباساً متعمداً، فإن قراءة الروايات السابقة، إذ تميل إلى النقد التطبيقي، تُجدد القول بالمطارحة، حتى ليصح القول بالمطارحة النظرية في القسم الأول من الكتاب مع التذكير بقلقلة المطارحة الأخيرة وبالمطارحة التطبيقية في القسم الثاني. وهنا، قد يكون للمرء أن يتساءل عن حرارة الاحتفاء بجرأة إلهام منصور، أو عن المقارنة الواجبة بين كتابة الرجل للمرأة ككتابة المرأة للرجل، وتأنيث ضميره كتذكير ضميرها، لا امتثالاً للكتابة خارج الذات، ولا تمويهاً لذكورته جنسه بلبوس الأنوثة، أو دفعاً لعقدة اضطهاد جنسه للآخر/ الأنثى. وامتدحت مقدم في رواية"يوم الدين"الالتفاف الدائري الذي يماكر تعاقب الزمن، وهي اللعبة الروائية المألوفة. كما امتدحت عدم تسمية الرواية لفضائها الجغرافي، وهي اللعبة الروائية المألوفة التي أدعوها باستراتيجية اللاتعيين. وبالتالي، قد يكون على امتداح الرواية أن يبحث عن إنجاز آخر، وهو ما لعله يصح في امتداح لعبة الميتارواية في رواية علوية صبح"مريم الحكايا". وبخلاف ما وسم كتاب"مؤنث الرواية"من تدقيق، يبرز فيه الحكم القاطع بأن خلع القلوب وانتعالها سلوك ذكوري لا مراء وبامتياز، تعقيباً على قول رواية أحلام مستغانمي بالمرأة التي"تخلع قلوب الرجال كما تنتعلهم". وبصدد هذه الرواية أيضاً، وبمثل هذه"النسوية"، يأتي الحكم القاطع بالفصل بين الكاتبة وبطلتها إلا في السيرة الذاتية، ففي رواية الرجل لا مناص أيضاً من الفصل بين الكاتب وبطله. على أن ما قد يتلامح هنا من وطأة الحماسة والانحياز لرواية أو أخرى، يحدده ما أخذته يسرى مقدم على رواية"سقوط الإمام"من قصور في الرؤية ومن إيغال في نزعة نسوية مفرطة ومن تمويه لجذر العلة بصراع تخوضه الأنثى في وجه الذكر ويؤسس لصراعات مثيلة. وإذا كان جلّ ذلك الامتداح أو المؤاخذة يتعلق بمحمولات الروايات، ويتراجع فيه الدرس الفني، فقد تألق هذا الدرس فيما أخذ على رواية"أنا هي أنت"من الاستفاضة والتكرار والتقريرية والجنوح إلى البحث ونتوء الوعي. كما تألق هذا الدرس في تبصّره في رواية"مريم الحكايا"كجدارية صاخبة بحق. وعلى أية حال، وبالنظر إلى وحدة المطارحات النظرية والتطبيقية، يبدو كتاب"مؤنث الرواية"اقتراحاً لمؤنث النقد، يبرأ من ترجيع الناقدة المعهود لصوت الناقد، فيثري النقد بخصوصيته، تحفيزاً لإثراء المؤنث للرواية وليس تيمناً على سبيل إثراء الكتابة بعامة بكل ما هو جديد ومختلف. روائي وناقد سوري