الجمهور الغفير الذي توافد إلى"خان أسعد باشا"في وسط دمشق القديمة، لحضور معرض يوسف عبدلكي، العائد إلى البلاد بعد غياب نحو ربع قرن، أراد أن يعبّر عن تضامنه مع هذا التشكيلي السوري البارز، الذي طالما حضرت أعماله وغاب هو عن حضورها اضطرارياً. ولعل اختياره يوم افتتاح معرضه في ذكرى"عيد الشهداء"لا يخلو من دلالة رمزية، تضاف إلى سينوغرافيا المعرض الذي استضافته"غاليري أتاسي". فما أن يدخل الزائر إلى بهو الخان الأثري، ويتجول وسط السواد، حتى يفاجأ بأن"البحرة"التي تتوسط المكان، تعوم بالأحمر، وكأن مذبحة حدثت للتو. وهذا التضاد الصارخ بين الأحمر والأسود، هو ما سوف يتبقى في ذاكرة المتلقي، فلا بد من أن تتناهبه مشاعر وارتباكات متناقضة، وسط عالم مضطرب بالاحتمالات والاشارات التي تقترحها كائنات يوسف عبدلكي، بالأبيض والأسود، وهو بذلك يغادر تماماً، منطقة قديمة، كان اشتغل فيها على موضوعة"الأحصنة"، و"الطغاة"، قبل أن يكتشف ببهاء وبذخ، أن روح الجمال نائمة في الأشياء المهملة، وأن المقاومة الصلبة، ليست في صرخات الاحتجاج، وانما في ادراك أهمية العناصر التي لا تسترعي الانتباه، مثل تفتح برعم صغير في غصن مقصوف، أو في فردة حذاء، أو في آنية زهور، فيما يعوض خسارته الأخرى في الاشتغال على مفردة"السمكة"، سواء كانت على شكل رأس مقطوع، او في طبق، أو في جمجمة، بقصد كشف حجم الدمار الذي يحيق بأرواح الكائنات، والمصير التراجيدي الذي آلت إليه، هذه الأرواح، في عالم قائم على الفزع والتدمير المنهجي للداخل، بتحويله إلى مجرد هيكل عظمي. لكن رهان يوسف عبدلكي الأساسي ينشأ من إعلاء شأن ما هو خارج جدرانه السود الكتيمة والصماء. فالعنصر الذي يسيطر على فضاء اللوحة بمفرده، يشكّل إحالة بصرية صريحة، إلى حياة كانت تنبض قبل قليل في هذه المساحة الصامتة، فهناك ما هو مؤجل على الدوام، تقترحه ظلال الأبيض والأسود بأطياف لا مرئية، تتكثف بإيماءة صغيرة، تذهب باتجاهين متناقضين، هما الحضور والغياب، مثل السكين الحادة التي قطعت رأس السمكة، أو وحشية السمكة ذاتها وهي تواجه مصيرها المحتوم. فأسماك يوسف عبدلكي، ليست مجرد مناظر، وإنما تحيل إلى الفضاء الذي كانت تسبح فيه، قبل أن تختنق في صندوق أو علبة سوداء كتيمة. وفي السياق السردي ذاته، يمكن النظر إلى العناصر الأخرى، ولكن من زاوية نظر شعرية صرفة، خصوصاً في ما يتعلق بمجموعة الأحذية النسائية وتشكيلاتها البصرية المتعددة، فهي على رغم دقتها الواقعية، تحيل إلى نص يحتشد بالشهوة ووطأة الغياب، وكأنه باشتغاله على الهامش، يسعى بإصرار على إزاحة هذا الهامش نحو موقع المتن والتحكم بالمركز، بالحذف والاختزال اللذين هما روح هذه البلاغة التشكيلية، من دون ان يهمل جوهر المعنى. متتاليات يوسف عبدلكي تضيء لحظة مفتقدة، أطاحت بها قسوة العيش وسطوة الخراب الروحي، والانشغال الاضطراري بما هو خارج صبوات الحياة الأليفة التي تليق ببشر سويين. وفي هذا المعنى المضمر، فإن أعمال هذا التشكيلي، هي صرخة استغاثة واحتجاج لاستعادة ما هو مفتقد ومنهوب، مثلما هي مرثية لجيل السبعينات الذي ينتمي إليه، هذا الجيل الذي وجد نفسه حبيساً في صندوق كتيم ومغلق على أحلام لم تتحقق على الإطلاق. أشياء أو كائنات يوسف عبدلكي في عزلتها ووحشتها، تؤكد من ضفة أخرى على جسارة تقنية عالية، تستند إلى حس غرافيكي في تشكيل فضاءات وظلال واقعية، تكاد تقترب في بعض نماذجها من تقنية الصورة الفوتوغرافية، في طبقتها الأولى. لكن رهافة قلم الفحم، لا تتوقف عند بهجة الاكتشاف والرصد، إنما تحلّق عالياً في إعادة الاعتبار إلى الفراغ، والمراهنة على إضاءة الكتلة المركزية بخطوط صارمة ومتقشفة، تمنحها بريقاً إضافياً، وتكشف عن إيقاعاتها الداخلية. ووفق ما يقول عادل السيوي فإن هذا الفنان"طبّاخ ظلال ماهر، يعرف أولاً تلك المنطقة التي تشعل الظلال فيها العواطف وتخطف العين، ولكنه يدرك أيضاً، أين تقع تلك النقاط التي يشتبك عندها النور بالظلمة، بعيداً من تصادم الأضداد". في لوحته"جلسة شاي"يرسم يوسف عبدلكي ابريق شاي، يتوسط فضاء اللوحة، فوق رقعة شطرنج، وإلى يساره كوبان فارغان، ووعاء للسكر وملعقة مائلة فقط. قد لا تثير هذه العناصر الثانوية ريشة فنان آخر، لكن هذا التشكيلي يذهب في مغامرته إلى حدودها القصوى، في تناغم هذه المفردات وأنسنتها، بتوزيع الظلال في فضاء هذه الجدارية، مراهناً كالعادة على ما تهجس به العين خارج اطار اللوحة. فعنوان مثل"جلسة شاي"يحيل المتلقي إلى افتراض وجود شخصين، كانا هنا قبل قليل، وتبادلا حديثاً طويلاً، من موقعين مختلفين، مثلما توحي رقعة الشطرنج التي تتأرجح بين الأبيض والأسود، وفي الامكان استعادة دفء الشاي وحلاوة مذاقه، والانتهاء بصدمة الغياب، هذه الصدمة التي نجدها أيضاً في متتالية"أحذية"التي تقترح غياباً أكثر حدة، وسرديات بصرية لا تحصى. تبعاً لمرجعيات عين المتلقي وإحالاتها الذهنية والحدسية، ففردة حذاء أنثى مخلوع على عجل، هي بحد ذاتها قصيدة مرئية. ولعل ما تنبغي الإشارة إليه هنا، حضور الرائحة كعنصر سيكولوجي متمم لمناخات هذا الفنان. فهناك رائحة سرية تنبعث من عمق اللوحة، رائحة عطر امرأة، أو رائحة عفونة سمكة، أو عبير زهرة تتفتح للتو، أو رائحة شاي مخدّر على مهل، وكأن يوسف عبدلكي لا يغادر لوحته، قبل ان يطمئن الى حياة كائناته في عزلتها وجحيمها وتوقها للتنفس خارج هذا العالم الكتيم، العالم الذي وصفه الشاعر الفرنسي آلان جوفروا بقوله:"كل شيء يجري، كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان".