شُغفت باربارا كاسان بالمصطلحات الأوروبية للفلسفة، فأخرجت ما سمته"المعجم الأوروبي للفلسفات"بالتعاون مع داري النشر الفرنسيتين Seuil وLe Robert للعام 2005. وقد ساهم المركز الوطني للكتاب بالاعداد لمجلدٍ يقع في ما يجاوز الألف وخمسمئة صفحة من القطع الكبير. هذا المجلد الموسوعي اذ يصدر في فرنسا الأنوار فإنه يرد الى العرب السؤال: متى يصير لهم - ما كان لأفلاطون صاحب الأكاديمية ولأرسطو تلميذه الذي سماه أفلاطون بالعقل - ثقافة للأسئلة تنهض بالأخلاق وبمفاهيم الحق والخير والسعادة والجمال؟ أسئلة عقلية لا غيبية يعانيها الانسان في ظواهر الكون الفيزيائي الذي هو فيه، قبل أن يساءلها في أزلٍ ميتافيزيقي يجهله ويصبو الى معرفته! والفلسفة اذ تقوم بالجدل لأن العقل جدلي هي علم"الحكمة"الذي يتقاطع مع الشريعة في تفسير نشأة العالم وفي الأخلاق وعلم الفضيلة الذي حرّم سقراط جهله اذ قال: المعرفة هي الفضيلة، وأردف: اما قانون أو لا قانون وهو قابع في زنزانته ينتظر تجرّع السم. واذا سُئل: هل أنت مع القوانين ان جارت؟ قال: اما قانون أو لا قانون! وكانت خشيته عظيمة من غياب قوانين العقل وصرامة الأخلاق التي تحكمه بعيداً من بلاغة الكذب، وحرفية الدساتير التي صارت كالمحرمات القدسية، تنأى بنفسها عن العقل، وتتدرأ بالتاريخ! وقد شارك في"القاموس غير القابل للترجمة"علماء انسانيون من كل البلدان الأوروبية، يجيدون اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية، وعلوم العفة والتأويل والصرف والنحو، وعلوم النفس بما فيها من اضطراب وقلق وشك وتصدع وانشقاق! فإذا كانت الفلسفة هي علم الحكمة، فإن اليونانيين هم الذين تربعوا فوق عرشها، وقد أخذ العرب عنهم المبادئ الفلسفية، وحاذروا آداب اليونان الجميلة التي كان منها فنون الملاحم والمآسي والملاهي حيث تعدد الآلهة وتصارعها في ما بينها وبين أبنائها الذين شابهتهم الى حدّ التماهي بهم: آلهة للحب، وأخرى للجمال، وأخرى للحروب! واذ غابت ترجمة الآداب الجميلة، فقد عُني التراجمة البيزنطيون المسيحيون الذين تثقفوا بالثقافة السريانية بنقل بعض حكم هوميروس دونما عناية بترجمة الأوديسية والألياذة! أما أوروبا فكانت الوحيدة التي احتفت بهذا التراث وخصوصاً بشعر فرجيل وأوفيد. واذ ترجم التراث اليوناني الى اللاتينية فإن شيئاً لم يترجم من اللاتينية الى العربية، حتى ان القانون الروماني بقي في القرون الوسطى، يُدرس في الشرق المسيحي باللغة اللاتينية! هذه الترجمات الغائبة أشار اليها ريمي براغ في مقارنته بين الترجمات اللاتينية والأخرى العربية من"القاموس غير القابل للترجمة". وقد ذكر براغ ان التابع الفرنسيسكاني روجر بيكون عندما توجه الى البابا كليمانس الرابع في العام 1265م طالبه بإنشاء مدارس لتعليم اللغة اليونانية واللغات الشرقية قائلاً:"ان حكمة اللاتين هي حكمة مستمدة من لغات غريبة عليها: فأرسطو لن يكون نفسه الا باليونانية، والتوراة لن تكون هي هي الا بالعبرية. فإنه ولو قامت ترجمات كثيرة لروائع النصوص، تبقى لذة الأصل باللغة الأم"! فإشكالية الترجمة التي أثارها روجر بيكون منذ القرن الثالث عشر، لا تزال في تراثنا العربي اشكالية تغرق المجامع العلمية في متاهاتها ودهاليزها، خصوصاً في مجتمعات تقوم على استهلاك الفكر لا انتاجه أو ابداعه أو ابتداعه! غير ان ذاك اليسر في حرية الترجمة والتعليم مارسه في الشرق اليهود والمسيحيون اذ كتبوا"العربية"بلغة"ثالثة"ليست هي لغة"الوحي"ولا لهجة محلية من اللهجات، وانما"بثالثة"تقرب بنثرها من الشعر، وتتضرع بالبخور وتضيء العتمات بالشموع ترتفع فوق المذابح بلآلئ تذيب بها شيئاً من كثافات العتمة! ولما صارت الترجمة قضية عالجها الغرب بفتح المدارس لتعلم اللغات القديمة أقبل ريمون ليل على تعلّم العربية في العام 1316م ليعظ بها لا ليقرأ أعمال الفلاسفة المسلمين! أما في أرض الإسلام فكانت لغات الأمم غير المسلمة، تقتصر في تعلّم اللغات الغريبة عن أرضها، على ندرة كان منها البيروني 1408م الذي تعلم السنسكريتية ليقرأ بها أديان الهند، هذا مع العلم أن أحداً من المسلمين قديماً لم يتعلم اليونانية، ناهيك عن اللاتينية كما يؤكد ريمي براغ. لذا اقتصرت أعمال الترجمة على المسيحيين من ذوي الثقافة السريانية أو اليونانية التي كانت عند بعض الارستقراطية تقليداً عائلياً! واذ أجاد بعض العلماء الأوروبيين اليونانية والعبرية والعربية الى جانب اللاتينية فإنهم حاذروا ترجمة"لفظة الفلسفة"الى اللغات الأوروبية، وأخذوا بلفظها اليوناني بعد أن اعتبروا انها"بامتياز"مما لا يُترجم. هذه الأمانة الدقيقة هي التي أوحت لباربارا كاسان عنوان قاموسها الموسوعي الضخم والاعتراف بحق اليونانين على فتح الفكر في أوروبا واقامة مملكته! وهكذا بقيت الفلسفة تنتقل بلفظها اليوناني حتى كان القرن الثامن عشر اذ تجرأ كانت 1763 على ترجمتها ب"حكمة العالم الدنيوي". ولما جاء فيخته أكد أن على الألمان استعمال لفظة"علم المعرفة"الذي اقترحه في مؤلفه:"خطابات الى الأمة الألمانية"وفيه قال:"ان أي مساس بحق الحرية يزلزل انسانية الإنسان، لأن الحرية نابعة من الداخل لا آتية من الخارج، وأي اضرار بها يُفسد تعبير الانسان وبخاصة الأخلاقي ويحول دون اكتمال انسانيته لأن هذا الاكتمال الانساني لا يتم الا في التعبير عنه"! فالمؤسسات برأي فيخته ليست ازلية وانما أصلها عقود! أما الفلسفة في أرض الإسلام فبقيت بلفظها اليوناني بغير ترجمة ولو أن الفارابي حاول أن يفسّر نشأتها. وفي القرن الخامس عشر اختار ابن خلدون أن يستخدم اللفظ السامي"الحكمة"الذي اعتبره وسيطاً بين منطق أرسطو وعلم الكلام وشطحات المتصوفة! فاللفظة اليونانية التي انشغل بها الفلاسفة والمفكرون الأوروبيون قال فيها ابن طيبون اليهودي 1213، لا بد أن تبقى هي نفسها لأنها تعني"دليل الضالين"! والفلسفة اذ حافظت على لفظها راحت تتوسع بمعانيها بحيث صارت"المعرفة"هي المعنى الأكثر طغياناً عليها ومثله أسلوب الحياة وفلسفة العيش أكان ايماناً أم الحاداً أم عبثاً أم سريالية! أما في المسيحية الكلاسيكية فكانت الفلسفة تعني الحياة النسكية حتى انها في بيزنطية عنت بلفظة الفيلسوف الراهب المتنسك. وكان للفلسفة من التعريفات المذهلة في القرن الحادي عشر واحد قال به ميشيل بزللوس اذ رد الفلسفة الى اصولها الوثنية ليؤكد في ما بعد:"ان الفلسفة ليست من اختصاص واضعي قوانين مصائر الأحياء ينقبون فيها ويحكمون عليها، وليست من اختصاص واضعي قوانين الطبيعة، ولكنها من اختصاص الذين"يسخرون"من هذا العالم ليحيوا مع"كائنات"تعيش خارج ضفافه"! فبالفلسفة تتعين ثقافة المرء، الذي ينظر اليه أصحاب النفوس الصغيرة بقلّتهم وكثير حسدهم، لأنه ابداً المتعالي الذي ينتمي الى طبقة"العقول"المسيطرة! وهكذا رأى ريمي براغ الى فرادة اللغة اليونانية التي انتجت من نفسها قاموساً فلسفياً لنفسها مذ عرّفت الهيولى والصورة، ومبدأ السببية، ومبدأي القوة والفعل، ومبادئ الأخلاق والسعادة والذاكرة والمخيلة! فالحيوية التي نبعت من داخل اليونانية نفسها أعادت الفكر التجريدي من عالم الآلهة الى أرض الحقيقة والبشر! بغير أن تزعج رجل الشارع في اليونان أو تجعله ينحاز الى سخرية لاذعة كانت لأرستوفان من مصطلحات الفلاسفة والفلسفة! فمسرحيات ارستوفان الساخرة ونقده الذي سفّه به"وكان سقراط العاقلة"، لم يثنِ فلاسفة اليونان من اعادة النظر في لغتهم وفي البنى النحوية التي منها تشكلت الميتافيزيقيا التجريدية! فمن اعادة النظر مصطلحاً وبنية راحت الفلسفة اليونانية تتطور في خط امتدادي لا يقرّ ب"ديمومة ثابتة"خارج نطاق العقل!! وتلك صارت معضلة الثابت والمتحول التي نهض بمعالجتها شُرّاح الأفلاطونية الحديثة الذين أيقنوا أن"الديمومة الثابتة"تبقى مكّارة وخادعة في معارج العقل! ولما راحت اليونانية المكتوبة تبتعد عن اليونانية المحكية انعزلت طبقة الفلاسفة، وعانت اليونانية انشقاقها بين علو نخبتها، وعادية عوامها، ولكن بقي للفلاسفة عرش لم يكن للعوام مثله! ولما حاول اللاتين الكتابة عن الفلسفة اليونانية بدأ بذلك لوكريس في العام 55 ق.م وشيشرون في العام 43ق.م ثم لحق بهما سينيك في العام 65 للميلاد. وكان هؤلاء يتذمرون في كتاباتهم من فقر اللاتينية وعجزها حتى قال شيشرون مدافعاً عنها:"ليس للاتينية ان تحسد اليونانية"فهو مذ قام يعالج الفلسفة الرواقية أيقن أن لكل لفظ يوناني ما يعادله في اللاتينية شرط أن تقوم اللاتينية على الاشتقاق والنحت أي التقطيع ومنه نحت الجبل أو تقطيعه كما في التنزيل العزيز:"وتنحتون من الجبال بيوتاً آمنين". فإذا كان الجبل لأمان السكنى فمثله اللغة لأمان العقل والرؤيا وما كان وما سيكون! واذ يتناول ريمي براغ اهتمام العرب بالفلسفة يرى أن هؤلاء لم يترجموا ارث اليونان الفلسفي الا ابتداء من القرن التاسع للميلاد. وذاك كان هم أجيال من التراجمة المسيحيين الذين عنوا بدقة المصطلح وألفاظه: كمثل الهيولى والصورة، والعلة والمعلوم وواجب الوجود، وممكن الوجود!! وكان المترجمون الأوائل كلما تعثر الواحد فهم ازاء عبقرية اليونانية استعان بالفارسية في تصويب ألفاظه! وعلى رغم الجهود التي بذلها المترجمون، بدت لغة الفلسفة بنظر علماء النحو لغة اقرب الى"البربرية"، حتى تنازع فيها أبو بشر متى بن يونس والنحوي المسلم أبو سعيد السيرافي في العام 932 للميلاد. وقد دوّن أبو حيان التوحيدي سنة 1023 للميلاد أخبار تلك المنازعة في الليلة الثامنة من كتاب الامتاع والمؤانسة. وكان علماء النحو يؤكدون أن ليس بإمكان علوم المنطق أن تتجاوز علوم النحو، وهكذا أخذوا بكتاب سيبويه الفارسي ومنطقه، خشية أن تعوزهم علوم المنطق! وأخيراً يذكر ريمي براغ اليهود الذين كانوا في أرض الإسلام ليؤكد ان هؤلاء كانوا يستخدمون العبرية لغايات دينية، والعربية لمعالجة الفلسفة.