كان من المفترض أن تحيي مؤسسة البابطين"ملتقى الكويت للشعر العربي في العراق"السنة الفائتة، لكن الظروف القاسية التي شهدتها"أرض"ما بين النهرين حالت دون احيائه. ولو قدّر لهذا الملتقى الفريد الذي يمكن تشبيهه ب"مربد"صغير، أن يعقد قبل سنة لاكتسب بعداً آخر نظراً الى مصادفته الذكرى الأربعين لرحيل بدر شاكر السيّاب الذي يمثل الرمز شبه الوحيد الذي يلتقي حوله شعراء العراق، على اختلاف أجيالهم وانتماءاتهم وتجاربهم. فشاعر"أنشودة المطر"أسلم روحه في أحد مستشفيات الكويت سنة 1964 وسلكت قافلة جثمانه الطريق التي جاء منها الشعراء الى الكويت انطلاقاً من البصرى، مستقلين الباصات. جمعت مؤسسة البابطين نحو مئة عراقي، من الداخل والخارج، شعراء ونقاداً وأدباء واعلاميين، عطفاً على عدد كبير من الأدباء العرب، بغية اسباغ طابع"المهرجان"على هذا الملتقى الذي يحصل للمرة الأولى، تكريماً للشعر العراقي. وان كان من عادة العراق أن يحيي"مربده"الشهير داعياً"جمهرة"هائلة من الشعراء العرب، فان الكويت ممثلة بمؤسسة البابطين شاءت أن تخصّ الشعر العراقي بمثل هذه البادرة الجميلة التي أجمع كل المدعوّين والحاضرين على أهميتها وعلى فرادتها وعلى"المعاني"التي تضمرها في مرحلة عصيبة يجتازها العراق والثقافة العراقية والشعر العراقي. ولم يكن ترحاب أدباء الكويت من مثل عبدالعزيز السريع أمين عام مؤسسة البابطين وليلى العثمان ويعقوب السبيعي وسليمان الشطي وطالب الرفاعي واسماعيل فهد اسماعيل، بزملائهم الشعراء والأدباء العراقيين الا دليلاً على مضيّهم في طيّ الصفحة السوداء بين البلدين التي أرساها النظام الدكتاتوري السابق عبر غزوه الكويت. وقالت ليلى العثمان في هذا الصدد:"ان القول بترميم العلاقة بيننا وبين الشعب العراقي قد يُفهم منه أن هذه العلاقة متصدعة، فيما ليس بيننا وبين الشعب العراقي أي مشكلة لا سيما الأخوة شعراء العراق وأدباؤه". الا ان"الملتقى"بدا بمثابة أول جسر يصل بين العراق"الجديد"أو عراق ما بعد البعث، والكويت التي كانت احدى ضحايا السلطة السابقة. بل ان هذا الملتقى كما أصرّ على وصفه عبدالعزيز سعود البابطين يهدف الى اعادة اللحمة بين العراقوالكويت"بعدما حاول بعضهم تمزيقها". أما الأمين العام للمجلس الوطني الكويتي بدر الرفاعي فاعتبر أن"الأوان حان لمد الجسور الثقافية مع المثقفين العراقيين خصوصاً أن قريحة الأدباء في العراق لم تجفّ بل انها كانت أحد الأسلحة المستخدمة لمقاومة الدكتاتورية...". ولم يكن مستغرباً أن يصف بعض الشعراء العراقيين وبعض الأدباء الكويتيين هذا الملتقى بالخطوة الأولى نحو"التطبيع"الثقافي الذي لا بد من أن يقود الى"التطبيع"السياسي، على رغم ما يعتري هذه الكلمة التطبيع من التباس سياسي لا تحتمله العلاقة بين العراقوالكويت ما دام النظام الدكتاتوري قد سقط نهائياً. أما أطرف ما وصف به"الملتقى"فهو"الاجتياح"الشعري، كما قالت الشاعرة العراقية بلقيس حميد حسن. مئة شاعر وناقد وصحافي اذاً وفدوا من"الداخل"العراقي ومن"المنفى"الذي لا يزال وطناً موقتاً وربما"أبدياً"للكثيرين من العراقيين، والتقوا طوال ثلاثة أيام، نهارات وليالي، بعضهم يعرف بعضهم، وبعض أهل"المنفى"لا يعرفون بعض أهل"الداخل"والعكس عكساً... لقاء جميل ومؤثر ما كان الشعراء العراقيون يتوقعون حصوله خصوصاً في بلاد تدعى الكويت. شعراء"عموديون"وشعراء"تفعيليون"وشعراء"نثريون"التقوا جميعاً ولم يختلفوا على طريقة الكثيرين من الشعراء العراقيين ولم يتشاجروا مثلما يحصل في اللقاءات عادة، الا ان بعضهم عبّر عن شيء من الاحتجاج على غياب بعض الأسماء الكبيرة وعلى دعوة أسماء مجهولة أو شبه مجهولة ولا مواقع لها على الخريطة الشعرية العراقية. وفعلاً بدت أصوات كثيرة،"عموديّة"الانتماء على مقدار من الركاكة والضعف، ناهيك ببعض الأصوات التي أصرّت على قصائد المناسبات وقصائد المديح وكلها غدت خارج الزمن الشعري لا لأنها"عمودية"بل لوقوعها في التصنع والتكلّف والنظم. لكن بضع قصائد"عمودية"استطاعت أن تنجو من الركاكة والاسفاف وفرضت نفسها على الجمهور وبعضها ألقاها شعراء غير عراقيين. غير ان الطابع"العمودي"غلب على معظم القصائد التي ألقيت في"الملتقى"مرخية ظلالها على الأمسيات. وسعى بعض شعراء"قصيدة النثر"أن يرفعوا صوت قصائدهم التي كان لها جمهورها أيضاً، لكنهم لم يتمكنوا من مزاحمة الشعراء العموديين. وثمة شعراء محدثون تهرّبوا من الالقاء مكتفين بالاستماع الى الشعر في أحواله كلها. وعمد الشاعر صلاح حسن الى قراءة بعض من قصائده النثرية في احدى الزوايا من بهو الفندق وكان جمهوره"نخبوياً"واستمع اليه وقوفاً. ولعل مثل هذه المبادرات الصغيرة أضفت على"الملتقى"جواً أليفاً وطريفاً. واللافت ان السجال الذي لم ينته عربياً بين الشعراء"العموديين"أو المحافظين أو"التقليديين"وشعراء قصيدة النثر لم يعرفه"الملتقى"على رغم المواقف السلبية المضمرة أو غير المعلنة. إلا أن المدعوّين العرب كان في امكانهم أن يلاحظوا أن هذه اللقاء العراقي ? العراقي لم يكتمل تماماً، فالشعراء"المجهولون"أولاً كانوا أكثر كثيراً من الشعراء"المعروفين"لئلا أقول المشهورين، ثم ان غياب بعض الأسماء البارزة مثل سعدي يوسف وسركون بولص وفاضل العزّاوي وسواهم، اضافة الى بعض شعراء الستينات، ترك فراغاً في"الملتقى"وجعله مجحفاً في حق الشعر العراقي الجديد وغير معبّر عن راهن هذا الشعر في تياراته المتعددة و"مدارسه"وأصواته... وقد لا يكون واجباً على أي لقاء أن يختصر مشهداً شعرياً بأكمله خصوصاً اذا كان هذا المشهد هو المشهد العراقي الذي شتتته المنافي والحروب علاوة على النظام الدكتاتوري الذي اضطهد المعارضين وفي طليعتهم الشعراء. وهذا المشهد لا بد من اعادة قراءته بعد أن تبعثر واتسع، شاملاً من الأصوات ما لا يحصى وخالطاً حابلها بنابلها كما يقال. وكم بدا الشعراء الآتون من الداخل مختلفين عن الآتين من المنافي على رغم الحزن العراقي الذي يسمهم جميعاً. تشعر حيال شعراء الداخل بتعب ما يسكن وجوههم وبمزيج من القلق والكآبة يخالج عيونهم. وتظن أن بعضاً منهم قادم من ماضٍ هو ليس بالبعيد، لكنه ماضٍ، ماضٍ ملؤه اليأس والخوف والأسى. أما الشعراء الآتون من المنافي العربية والأوروبية فهم أشد ميلاً الى الحياة والمغامرة مع أنهم منهكون ومسكونون بالحنين الدائم الى أرضهم الأولى، تلك الأرض التي يصرّ بعضهم على عدم العودة اليها أو الى ما تبقى منها. لم تغب الندوات عن الملتقى وجرت كلها حول الشعر العراقي. وقد تناول الناقد وليد خالص"روّاد الإحياء في الشعر العراقي الحديث"متطرقاً الى تجارب شعراء نهضويين مثل الزهاوي والرصافي والنجفي والجواهري وحافظ جميل. وتناول الناقد عبدالواحد لؤلؤة"رواد التجديد في الشعر العراقي المعاصر"وأشار في مستهل مداخلته الى ان الحديث عن روّاد التجديد الشعري يجب ألا يوحي بأن التجديد كان وقفاً على شعراء العراق. ورأى أن الحديث عن هذا التجديد يبدأ عادة في الكلام عن السيّاب، لكن الانصاف يدعو الى الكلام أيضاً عن السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وبلند الحيدري فهم من جيل واحد. وكان من المفترض أن تشارك الناقدة سلمى الخضراء الجيوسيّ في الندوة وتتناول"شاعرات العراق: نازك الملائكة وأترابها"الا انها تغيّبت مثلما تغيّبت أيضاً الشاعرة لميعة عباس عمارة. لم يدم"ملتقى"الشعر العراقي أكثر من ثلاثة أيام، لكنه غدا لقاء فريداً اجتمع خلاله شعراء الوطن الواحد على أرض الكويت، فتشاركوا في الأمسيات وتعرّف بعضهم الى بعضهم وتحدّثوا طويلاً. أما الضيوف العرب فلم يكونوا غرباء عن هذا اللقاء، فهم بدورهم تعرّفوا إلى زوايا يجهلونها من المشهد الشعري العراقي.