ان يكون الشاعر قتيلاً ومظلوماً، كما هو لوركا على سبيل المثال الذي طلب رؤية القمر قبل اعدامه في اسبانيا، فهذا يدفع الى السخط والتضامن، سخط على القتل وتضامن مع الشاعر، علماً ان الموت بحد ذاته لا يخلق قيمة للإنسان لكنه يرسم فسحة للتأمل والكشف. الظلم هو المستفز والمحرض على الغضب. فماذا يكون الحال اذا كان القتيل المظلوم هو شاعر، وما يحيط بالشعر من رقة ورومانسية وجذب. اما ان يكون الشاعر قاسياً... ظالماً... وقاتلاً مطلوباً للعدالة، فهذه صورة مغايرة لما هو متوقع ومتخيل من الشعر والشاعر. ما يدفع الى الصدمة والذهول والتساؤل الرومانسي عندما يُفجع الإنسان بالواقع ومفارقاته. مثل هذه المشاعر والأفكار انتابتنا ونحن نشاهد برنامجاً بثته محطة"العربية"الفضائية عن رادوفان كراجيتش، الزعيم الصربي المختفي والمطلوب للعدالة من محكمة العدل الدولية، ويوصف بأنه المطلوب الرقم 2 بعد اسامة بن لادن. نسمع قصيدة عن النار والقتل والدمار وفي الوقت ذاته نشاهد بناء ضخماً تلتهمه النيران يأخذ في التفسخ والانهيار. القصيدة كتبها رادوفان كراجيتش قبل عشرين عاماً، كأنها النبوءة، او نزوع كامن الى القتل والتدمير في لا وعي هذا الشاعر! ام كراجيتش تقول عنه بأنه البهجة الأولى ابنها البكر واسمه يدلل على ذلك اسم رادوفان باللغة الصربية مشتق من كلمة"رادوست"وتعني: سرور، بهجة، وتذكر ما بين افتخار واحتجاج بأن ابنها شخص مميز... والآن هو مطلوب! شقيق الشاعر الأصغر يقدم شهادة مشابهة. لقد اعتدنا في هذا العالم سماع شهادات عن جلادين وطغاة يقدمها افراد من"العائلة"تربطهم قرابة الدم لا قرابة الإنسان! اما ناشر كتب كراجيتش الصربي فيقول ان طبعات كتبه تنفد بسرعة، وقد تلقى طلبات عدة من دور نشر في الخارج للحصول على حقوق نشر كتبه. ويخبرنا هذا الناشر الذي لا يخفي اعجابه بكراجيتش بأن هذا الأخير يكتب الآن للأطفال، يكتب لأحفاده الذين لا يستطيع رؤيتهم بسبب الاختفاء. ثمة شهادة وحيدة مغايرة هي الأهم، تأتي من جهة الإبداع والثقافة، وتذكرنا كما يقال ب"أن الدنيا ما زالت بخير"... الشهادة لكاتب يعرف رادوفان كراجيتش جيداً، شاهدناه يدخن بعصبية وهو يقول كيف انه سمع كراجيتش يأمر احد اتباعه:"اقتلوهم جميعاً... جميعاً!". يخبرنا هذا الكاتب كذلك كيف ان زوجة كراجيتش كانت تهين زوجها وتضربه بالحذاء، ثم كيف اخرج الوحش من داخله دفعة واحدة. كأن هذا الشاعر كانت له صورة معينة تبدلت الى صورة اخرى. انفصام... او مفاجأة... ونسمع هذا الكاتب المصدوم بزميله يردد ويردد: اقتلوهم جميعاً... جميعاً! هنالك شخصيات ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية في"يوغوسلافيا سابقاً"وقدمت الى محكمة العدل الدولية وصدرت بحقها احكام بالسجن. "الوعي الجمعي"للبشرية في عالمنا لا يستغرب صدور جرائم من جهة العسكريين او السياسيين، لكنه يُفاجأ ويستهجن ويُصدم عندما تصدر الجريمة من جهة فنان، مبدع، مثقف او كاتب، خصوصاً اذا عرفنا كيف تتموضع هذه القيم: الحق، الخير، الجمال! انها احدى مفارقات الحياة، صورة من صور التناقض، عندما تبرز الإشكالية بين الفن وحامل الفن، كما هي الإشكالية بين الفكر وحامل الفكر. إنه مثال وربما درس. انتماء شخص ما الى مهنة معينة، او حمل صفة معينة لا يشكل بعد ذاته حصانة اخلاقية له، حتى لو كان فناناً، مبدعاً، او شاعراً. يحدث ذلك عندما ينحصر المرء في جنسه, قومه، طائفته، او دينه فقط، يرى ذاته ويتضامن مع صورته فقط، في حين لا يكون المرء خصباً وحقيقياً وخيراً وجميلاً، إلا اذا انفتح على الآخر واعتبر نفسه مواطناً عالمياً،"احد افراد العائلة الإنسانية"، وانجذب الى الخالق اكثر مما ينجذب الى المخلوق. من جهة نحن امام شاعر مطلوب تنفد كتبه بسرعة، ومن جهة اخرى مطلوب للعدالة... من الغريب ان يكون القاتل جذاباً... أليس كذلك!