كان يوماً لا يشبه الأيام، في وحشة الرحيل غارقاً، خاشعاً كالغروب، وحزيناً مثل الفراق، وكانت تمطر بعد ان حجب الغيم وجه الشمس بيديه، فقد رفضت بأن تراه راحلاً وهي رفضت التصديق بأنه مسافر... إنه في الجوار وفي المساء سيعود وسيشربان القهوة كالعادة سوياً! وفي المساء كان هو في الفضاء محلقاً على جناحي طائرة تجهل بأنها تحمل على متنها المعدني قلبها الرقيق كملمس الحرير لحظة حياكته، طازج مثل حبها له وعلى احدى مقاعدها يجلس وبكل اناقة ذاك الحبيب الذي لا معنى للحياة من دونه فخشعت تصلي له بتضرّع راهبة، خائفة من ان يسلب منها ايمانها! فمن يبرر وداع أكثر ما قد نحبه في حياتنا؟ لكم يمضي الليل حزيناً وهو بعيد هكذا وبهدوء مثير للبكاء زاحفاً الى فجرها كسلحفاة، فمن تنتظر عند النافذة؟ ولمَن ترفع الستائر؟ لترقب تحركه من السيارة بأناقة غزال، وخفة عصفور متسلقاً لحظات عمرها وكأنه أمير. الشتاء قاسياً والبرد في الخارج قارس وركوة القهوة تغلي على الموقد وهي تنتظر... انها تسمع وقع خطواته بين أنفاس الرياح، فلو يقرع الباب لكنّ الباب لا يقرع والكرسي الذي كان يجلس عليه جامد لا يهتز كأنه أبو الهول... رُغماً عنها تفتح الباب فيعانقها الصقيع، ترمي بذاتها لمعانقته فتسقط في الفراغ! فتعود الى الداخل تبكي غيابه وتشرب من كوبه مرّ الفراق وتبتلعه بلذة ألم لأنه من يد الحبيب! ولكم تفتقده وبكثافة الحب المترامي على جدران الغرفة الحاضنة لهما، فجلست تتذكره وبقلب مفطور وبيد راجية أخذت تفتح كل الأبواب التي دخل منها الى حياتها، تسأل عنه لكن لا جواب... ثم راحت تناديه بحرقة ام أضاعت وحيدها وتنام للمرة الأولى من دونه، فراحت تغني له أغنية كان يحب سماعها قبل ان ينام. آه لو يرحمها الليل لو يحنّ على حرقتها! آه لو لا يزال هنا، سيد اللحظة وملك المكان. الى كل مكان كان حب الجلوس فيه تلجأ وتقبل الأريكة التي كان يركن اليها ثم تزور المكتبة تبحث عن لمساته بين صفحات الكتب التي أحبها وتضمها... وفناجين القهوة أجل كيف نسيَت فهرعت تبحث فيها، عله ترك لها على طرف احداها همسة او حتى قبلة! انها تسمع صوته يناديها، انه معها، في مكان قريب جداً لكنها لا تراه فقط تشعر به وتتّحد معه. يا لغرابة الحياة، فلكم نحن قادرون على تقيّم الأشخاص بقوة أكبر بعد ان يغادروا! ولماذا يغادرنا الأحباب لتبقى لنا الأمكنة فتذكرنا بكل ما كان... تساءلت؟ فأضاءت شمعة كي لا تعلن ظلام الفراق، فإن ما جمعته من مؤونة منه وهو قريب لم يكن كافياً ليروي شوقها اليه وهو بعيد عنها... ورد هايل هاني [email protected]