نقف نحن اللبنانيين اليوم - أي بعد ما استثاره اغتيال رفيق الحريري من غضب في ساحاتنا وعبْر العالم - على أهبة للخروج من الحقبة المهينة ويبدو أملنا في كسب الولاية على أنفسنا قريبا من متناول اليد. إن للبنان اليوم أن يعدّ نفسه موعودا بالاستواء دولة مستقلة. ولكن الشرط الأول لنجاز هذا الوعد هو أن يحمله جمهور اللبنانيين الأوسع على محمل الصدق وأن يرتبوا له مقتضاه. وأولى الخطى إلى تحقيق هذا الشرط أن تكفّ الطبقة السياسية اللبنانية عن التفاخر والتنافر في شأن سيادة الدولة اللبنانية على بلادها أرضا وشعبا ومؤسسات. وهذا موقف يحتاج اتخاذه شيئا من ذاكرة وشيئا من توبة. وتفيد الذاكرة أن الأكثرين من هؤلاء السادة لم يصونوا عفتهم عن بيع السيادة تلك بثمن ما، طائفي أو شخصي أو غير ذلك، إن لم يكن في هذا الظرف ففي ذاك وإن لم يكن لسيد يبدو الآن على أهبة الرحيل فلسيد مضى على رحيله أمد ولعله تراوده شهوة العودة. لذا لم تكن السيادة مادة صالحة، تاريخيا، لمحاسبة الساسة اللبنانيين بعضهم بعضا في هذه اللحظة أو في سواها. بل هي قد لا تكون مادة صالحة لمحاسبة جمهور اللبنانيين ساسته. ليس لجمهور اللبنانيين أن يدعي لنفسه البراءة من دم السيادة هذه، ولا يكون إلا تدليسا منا عليه أن ندعيها له. وما نرانا ونحن منه نخشى عليه وعلى أنفسنا شرا من نقد النفس بل نخشى عليه ونحن منه من ندرة النقد أو غيبته. وأما التوبة فمؤداها اجتراح لقاء وطني حول فرصة اليوم ونحو أفق الغد. لا يجترح اليوم شعب بريء من أوزار تاريخه ولا تجترح اليوم طبقة سياسية جديدة. الشعب باق اليوم وغدا والطبقة السياسية يفترض أن تثبت أو تتحول في صناديق الانتخابات، إن لم يكن قريبها فالبعيد. ولكن يجترح اليوم لقاء وطني حول فرصة الدولة المستقلة. ومؤدى هذا عمليا أن يقرّ"الموالون"بأن مرابطة قوات النظام السوري في البلاد ومعها مكاتب استخباراتها وعُدد تدخّلها في نسيج السياسة والاجتماع اللبنانيين قد بلغت ختامها وأن يبنوا على هذه الواقعة وليس على وهم مناطحتها ولا على ما هو أدنى منها. فهذه واقعة لم تنشأ ضرورة البناء عليها من مفاعيل الحملة الدولية وحدها على رغم الوطأة الحاسمة لهذه المفاعيل. وإنما جاءت مسندة إلى كون أي جيش ترفض بقاءه في بلاد ما مثل هذه النسبة وهذه المروحة من أهل البلاد يمسي عاجزا عن مواصلة العسكرة السلمية فيها ولا يبقى أمامه غير أن يرحل. ومؤدى التذكر والتوبة، من جهة"المعارضين"، أن يقرّوا بعجزهم الكلي عن الانفراد بحكم البلاد حكما مستقرا تستقيم به أمورها ولا يجعل"الدولة المستقلة"، ما إن تولد، أثرا بعد عين. فهذه البلاد كان ولا يزال وسيبقى فيها قوى وازنة ترى في المحيط العربي فضلا عن تمسكها بسوية للعلاقات اللبنانية السورية تحلّها في مقام الثابت الوطني قطبا لا بديل منه لمواجهة مساع للهيمنة - تمثلها الولاياتالمتحدة اليوم ومثلها غيرها في ما مضى - على هذا الإقليم من أقاليم العالم. إن أخطر ما يلوح في أفق هذه المرحلة إنما هو ما ذكرنا من"ترجمة فورية"تحيل موازين المعركة السياسية الجارية إلى موازين قوى طائفية. فهل سنظل نرتضي أن نرى كل مواجهة بين أقطاب السلطة أو على قانون من قبيل قانون الانتخاب أو على مطلب سياسي ولو كان مطلب الاستقلال نفسه أو على صيغة للإصلاح تُجاري تطور الموازين السكانية أو الاجتماعية-الاقتصادية أو تطور الذهنيات في البلاد أو على صيغة للتحرير أو لردّ العدوان عن البلاد تؤوّل فورا - فيما وراء صور بسيطة أو معقدة من الإنكار والمداورة - على أنها مواجهة طائفية ترفع من شأن طائفة أو أكثر من طوائف البلاد وتحطّ من شأن طائفة أو أكثر؟ هل سنظل نوزّع بين كفتي ميزان السلطة هذا أو بين كفّاته الكثيرة مكوّنات المجتمع اللبناني التاريخية، وهي التي يفترض أن يحمي القانون حقوق أفرادها بما هم مواطنون وحقوقها بما هي جماعات مذهبية وشبكات اجتماعية؟ هل تطيق بلادنا أن تبقى مناسبات تداول السلطة والصيغ المعتمدة لتكوين مؤسسات الدولة ولسياساتها الداخلية أو الخارجية مطايا لارتفاع هذه الطائفة ولانحطاط تلك وأسبابا لغبطة هذه ولهلع تلك؟ ... فيبدو الأمر وكأن في البلاد طائفة أو طوائف متخصصة في الاستقلال وأخرى متخصصة في مكافحة الحرمان أو مقاومة العدوان والاحتلال وثالثة ضليعة، دون غيرها، في الانتخابات الحرة والنزيهة! أي كأن اقتسام الدولة الذي استشرى مع نهاية الحرب ينحو نحو الاكتمال بتوزّع مقوّماتها الأصيلة واختصاصاتها الجامعة. اتفاق الطائف ذاك أمر نراه مدعاة لاستذكار اتفاق الطائف الذي اعتمدته الجهتان المتواجهتان اليوم سقفا وخيمة. وهما أعلنتا أحيانا رضوخهما لبنوده كافة. وكان تطبيق هذا الاتفاق قد بقي مفتوحا على التنازع السياسي-الطائفي ناهيك بحضور راعٍ خارجي أو غياب آخر، شأنه شأن عمل مؤسسات الدولة وشأن القوانين وشأن الدستور نفسه، أي شأن كل ما يفترض أنه حدٌّ للتنازع السياسي أو الطائفي لا مسرح له. وهذه حال يسّرت على الدوام تقاسم كل ما هو عام في البلاد بين القوى السياسية الطائفية وشدّه قطعا تذهب كل منها إلى جهة أو"صاحب"بالمعنى الذي كان يقال فيه، في قرون غابرة،"صاحب الشرطة"أو"صاحب الخراج". وكان مؤدى هذا ضرب وحدة مجال الدولة وعموميته. هذه حال يسرت، على الدوام أيضا، نشوء شبكات خفيّة بمقدار ما هي مشهورة تقبع تحت مؤسسات الدولة، متحللة من المنطق القانوني لعمل المؤسسات على رغم النسبية البارزة لنفاذ هذا المنطق أصلا. فكانت هذه الشبكات سبيلا إلى إطلاق العنان لمنطق النفوذ والقوة المعتد بالزعامة الطائفية هنا وبحماية الشريك الخارجي هناك وبحصانة المنصب الرسمي هنالك أو بجميعها معا. وكانت مصالح هذه الشبكات موضوعا لتواطئها على هتك المؤسسات أحيانا ولمبارزات علنية بينها تعرقل أعمال الدولة وتبطئ إجراءات تمليها الضرورة أو تنحرف بها عن سكة المصلحة العامة أو تمنعها أحيانا أخرى. من بين هذه الشبكات تلك التي هتك تقرير"بعثة الأممالمتحدة لتقصي الحقائق"ما كان بقي من ستر لعجزها عن أداء وظيفتها الأصلية. وهي وظيفة محصورة بأمن الدولة والمواطنين بدت، في التقرير وفي الوقائع، وما تزال تبدو، في أعمال التفجير المتلاحقة، فارغة ممن يملأها. بل إن التقرير قرن إلى إثبات العجز إشارات مهولة الوقع إلى أفعال مرجحة لشبهة التواطؤ، فضلا عن فقدان النية والإرادة للقيام بعبء المسؤولية في مواجهة الجريمة. فكان من هذا التقرير أنه نقل مطالبة المعارضة ب"إقالة رؤساء الأجهزة الأمنية"من حال المطلب المعنوي إلى حال الضرورة العملية لإجراء هيكلي مركّب يتناول وضع الأجهزة برمّتها، تنظيما وأداء وطبيعة التزام. ... في كل حال، كان اتفاق الطائف قد لبث نصا دأبت الأطراف اللبنانية على إحداث خروق فاغرة في نسيجه. فوجد من كان قد نسي أعواما - على رغم كثرة المذكّرين - أن الاتفاق قال بالانسحاب السوري ونظّمه. ووجد من نسي نسيانا شاءه مؤبدا أن الاتفاق نفسه نص على آلية للخروج من الطائفية السياسية. ووجد من تذكر هذا النص أحيانا ولكن ليتخذه سكينا يهدد به الخصوم المذكّرين بلزوم انسحاب القوات السورية وقيام الدولة السيدة. وكانت صفة السكين متحققة فعلا، موافقة لغرض التهديد، لأن تجاوزا للطائفية يلعب بموازينه الراعي السوري كان سيؤول إلى كارثة للبنان. يبقى مع ذلك أن الشعور اللبناني بضرورة هذا التجاوز بقي قائما من دستور 1926 إلى ميثاق 1943 إلى اتفاق الطائف. وها إن"الترجمة الفورية"التي ذكرنا وقبلها عورات أخرى كثيرة لهذا النظام يكاد لا يتسع لها مقام تردّنا إلى ضرورة ذلك التجاوز... فهل سيتذكر هذه الضرورة أحد ممن يتخذون اتفاق الطائف غطاء وسقفا في هذه الأيام على ضفتي الموالاة والمعارضة ويؤكدون، من حين إلى حين، حرصهم على بنوده"كافة"، ولكن لا يستذكرون، بالتحديد، إلا ما يهمهم منها؟ ليؤذن لنا بالشك في أن يتعظ بأزمات هذا النظام وبما ترتبه على البلاد من كُلَف وتزجها فيه من مهالك، من هم ثمرات هذا النظام ونسل أزماته، على التخصيص. ولكن ليؤذن لنا أيضا بالقول إنه ما لم تتوقف"الترجمة الفورية"، بانصراف اللبنانيين عن عتادها وتقاناتها والمختصين بها إلى منطق آخر لنظامهم، فإن صون المكسب من كل معركة يخوضونها سيكون متعذرا وإن مصير بنيانهم الوطني سيبقى رهينة لانفجار أو لانهيار قد يأتي أدهى من الانفجار أو يكون بين أسبابه. وفي الاتفاق أيضا رسم لمعالم الموقع الإقليمي اللبناني تقع في صدارته العلاقات المميزة بين لبنانوسوريا ورفض توطين اللاجئين الفلسطينيين نهائيا في لبنان. وهذان إلزامان يستجيب أولهما لروابط ومصالح أصيلة ليس لأية من الدولتين أن تحيد عن مسالكها، ويبعد لبنان، بخاصة، عن إغراء الخضوع لضغوط أميركية إسرائيلية ظهرت بوادرها، وهي تؤول إلى زج لبنان في موقع من الصراع الإقليمي مناوئ للموقع السوري. هذا ويجب ألا تعني محاذرة هذا الفخ رهنا مجددا لسيادة البلاد ولا، على التخصيص، خوض حروب بالسخرة، نيابة عن النظام السوري: حروب تفضي، لا إلى تحقيق المصلحة المشتركة، بل إلى خراب لبنان لا غير. هذا الإلزام المتصل بالعلاقات اللبنانية السورية يحمي أيضا وحدة اللبنانيين. وأما إلزام رفض التوطين فهو يحمي هذه الوحدة أيضا ويرد عن البلاد أشباحا للتقسيم محتملة التجدد، وهي نفسها أشباح الحرب الأهلية. وهو - أي الإلزام - يجب ألا يكون حائلا دون مساواة الفلسطينيين، لجهة الحقوق المدنية والاجتماعية، بكل من هو مقيم شرعا على أرض لبنان من غير اللبنانيين. وفي المساواة هذه ما يمهد لتنسيق مع السلطة الوطنية الفلسطينية حالَ الراعي السوري زمنا طويلا دون حصوله وما يسهل، بالتالي، جمع السلاح من المخيمات... فهذا السلاح قد أمسى، من زمن طويل أيضا، عدّة اقتتال وإرهاب أهليّين لا أكثر ولا أقل. هذه المسائل كلها يرعى معالجتها اتفاق الطائف. وهو يرعى أيضا معالجة موضوع المقاومة اللبنانية المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. هو يرعاها من جهتين: أ- جهة الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي 425. وكان هذا الجلاء في الأفق السياسي للرعاية الدولية التي حظي بها الاتفاق عند إقراره. ولكن الجلاء لم يتحقق إلا بعد عشر سنوات وأشهر من هذا الإقرار اتصلت في أثنائها المقاومة اللبنانية للاحتلال وشهدت لحظات إقدام وظفر باهرين. وهي حظيت أيضا بتضامن واسع من سائر اللبنانيين، على رغم انحصارها طوال التسعينات في جناح واحد من طائفة واحدة. وحظيت، أخيرا - والبلاد معها - بحماية دولية فاعلة وصلت إلى أوجها مع إقرار تفاهم نيسان 1996. هذا وليس خطأ القول إن الانحصار المشار إليه زاد من سعة التضامن، من جهة، وأدخل فيه التفاوت وحدّ من درجته، من جهة أخرى. فقد كنا أمام حالة غير معتادة بأي مقياس، هي نيابة جهاز ووسط حزبيين موسومين بانتماء طائفي وحيد، في أعمال المقاومة، عن الشعب كله وعن سائر الطائفة المقاومة أوّلا. وهذا مع ما في الشعب من كثرة جماعات طائفية وتنظيمات سياسية انحصر دورها وانحصرت كلفة المقاومة على كل منها في مهمة التأييد. وهو ما لا يبطله كون البلاد، شعبا ودولة، قد تحملت الكلفة العامة لحرب المقاومة، على كل صعيد. ولم يتحقق هذا الحصر من تلقاء نفسه ولا كان بمنأى عن ضغوط المواجهة الإقليمية في صورتها حينذاك، وأخصها ضغط الحلف السوري الإيراني. فجاء الحصر ثمرة لمواجهات حزبية دامية تعددت ميادينها والأطراف وكانت من عداد فصول العنف الأهلي الأخيرة التي شهدتها نهايات الحرب. ب- ثانية الجهتين في معالجة اتفاق الطائف موضوع المقاومة المسلحة هي نص الاتفاق على حل المليشيات. وهو نص علّق تطبيقه على المقاومة بحكم تأخر المجتمع الدولي عن إلزام إسرائيل بتطبيق القرار 425. وكان هذا التعليق مساويا للنص المذكور بنصوص أخرى من الاتفاق أرجئ إنفاذها أو صرفت عن غايتها لأسباب مختلفة، ولكنها لم تبطل. بل هي بقيت كلها واجبة الإنفاذ بحكم العقد الذي ارتضاه اللبنانيون ورَعته الشرعيتان العربية والدولية. اليوم مضى على حصول التحرير نحو من خمس سنوات. وكان أول تحرير لأرض عربية احتلتها إسرائيل لم تصحبه إملاءات إسرائيلية من أي نوع. وكان الفضل فيه لأعمال المقاومة التي تولاها، على الجملة، مقاتلو حزب الله ولم يبخلوا فيها بتضحية. وكان لهم الجميل بذلك على أهل الجنوب المحتل وهم أهل كثرة منهم وعلى سائر اللبنانيين. وكان الفضل ثانيا للحنكة المؤكدة وللحكمة الإجمالية اللتين وسمتا مسلك قيادة حزب الله في هذا الصراع المعقد. وكان الفضل ثالثا لارتضاء اللبنانيين، شعبا ودولة، كلفة التحرير على الصورة التي ذكرنا لهذا الارتضاء. وكان الفضل رابعا للدعم الذي لقيه حزب الله من سورياوإيران. وهو دعم حملهما عليه موقعهما من الصراع الدائر في الشرق الأوسط وحاجتهما الأيدلوجية-السياسية، في داخل حدودهما وفي خارجها، إلى حرب لم تخوضاها مباشرة بل أدرجتاها في مواجهتهما مع إسرائيل ووظفتاها في الصراع العام على المنطقة كلها مع بقاء كلفتها ومؤونتها عليهما في حدود مرسومة. وكان الفضل خامسا لما حاط المقاومة ولبنان من حماية سياسية دولية ظللتها شرعية الأممالمتحدة ولجمت تكرارا عدوانية القوة الإسرائيلية وحدت من مفاعيل تفوقها العسكري. وكان الفضل أخيرا لما استنهضته المقاومة من مبادرات الدعم عبر العالم. وهي مبادرات متنوعة عمد إليها أفراد وجماعات، لبنانيون وغير لبنانيين، مسلمون وغير مسلمين. المقاومة بعد التحرير اليوم تبدو أركان هذا الوضع الذي استظلته المقاومة وقد تهاوى بعضها فعلا وأدرك البعض الآخر ضعف متفاقم. وأول أركان الوضع المذكور، بل أساسه، إنما هو الاحتلال نفسه. لم ينس اللبنانيون بعدُ أن السلطتين اللبنانية والسورية استقبلتا التحرير، حين لاحت بشائره، بحرَج مريب، وكأنهما عدّتاه حدثا مشؤوما. ولم ينس اللبنانيون بعدُ ما تكشف من بَعد، وهو أن السلطتين المذكورتين لم تغادرا هذا الحرج إلا حين وجدتا مخرجا لاستدامة الوظيفة الإقليمية للمقاومة - أي وظيفة"الورقة"- هو مسألة مزارع شبعا. ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن الدولة السورية كانت قد بسطت"سيادتها"الأخوية على هذه المزارع اللبنانية من غير أدنى شك قبل حرب حزيران 1967 بنحو من عشر سنوات. ويعلمون أن مجلس الأمن الدولي أدرج وضعها تحت القرار 242 حين احتلتها إسرائيل في أعقاب تلك الحرب، معتدّا ب"السيادة"السورية المشار إليها. ويعلم من يعلم من اللبنانيين أن السلطتين السورية واللبنانية بذلتا وسعهما، بعد تحرير الجنوب المحتل وقبله أيضا، حتى يتعذر تحرير مزارع شبعا مع إنفاذ القرار 425. فكان أن أحجمتا إحجاما مريبا عن ترسيم الحدود في تلك المنطقة وإيداع الأممالمتحدة ما تحتاج إليه من وثيقة وخريطة مصدقتين لتدرج"المزارع"في الجهة اللبنانية من الخط الأزرق: خط القرار425 وخط التحرير والخط الذي يجب أن يطابق الحدود اللبنانية. ويذكر اللبنانيون أن الأممالمتحدة كانت جادة في فرض الرسم القانوني لهذا الخط إلى حد مكّن لبنان من استرداد أراض كانت إسرائيل قد قضمتها سنة 1948... يذكر اللبنانيون أيضا أن مسألة المزارع كانت مستغرقة المشهد كله حين أعلن حزب الله استمرار المقاومة. ويذكرون أن الحزب لم يعمد إلى تصدير أهداف من قبيل الحماية وردّ العدوان وتحرير الأسرى إلا حين أخذ يبدو، بين حين وآخر، أن إسرائيل قد تعمد، من جهتها، إلى الانسحاب من مزارع شبعا طلبا لتسكين جبهتها اللبنانية وتلطيفا لضيق رأي عام دولي أغضبته أو أحرجته أفعال أخرى تقوم بها إسرائيل في ديار أخرى. أما حماية الأرض وردّ العدوان وتحرير الأسرى فيعلم حزب الله و يفترض أن يعلم سائر اللبنانيين أنها من بين اختصاصات الدولة السيدة. وهذه اختصاصات لا يجوز للدولة أن تحيلها إلى تنظيم مسلح تدعه مرابطا على حدودها ولا تعدّ نفسها ولا يعدّها القانون الدولي، ومن ورائه الرأي العام في الداخل والخارج، مسؤولة عن أفعاله. وإنما هي ملزمة والبلاد معها، وهي في حال عراء قانوني تام، بتحمل تبعات هذه الأفعال وعواقبها، لا من جهة إسرائيل وحسب مع أن هذه يجب أن يحسب حسابها بل من جهة الأممالمتحدة ومجتمع الدول أيضا. ثمة حالة حرب بين لبنان وإسرائيل وثمة اتفاق لبناني إسرائيلي صدّق سنة 1949. وحين لا يبقى من احتلال لا يبقى غير هذا الاتفاق متوجب الإنفاذ من الجهتين وتصبح الدولتان مسؤولتين مسؤولية تامة عن كل حامل بندقية يطلق طلقة عبر الحدود، عسكريا كان أم مستوطنا في الجهة الإسرائيلية أم"مقاوما"في الجهة اللبنانية. فأي عمل يسع المقاومة أن تقوم به إذ ذاك ولا يعرّض الدولة ويحد من غائلة الرد على البلاد؟ إن كان هذا العمل حماية للحدود ودفاعا عنها فهو مهمة الجيش ليس له غيرها إلا استثناء ولا يسوّغ وجوده غيرها أصلا. وإذا جاز للدولة أن تسلح قوة شبه عسكرية من الأهالي تؤازر الجيش عند الضرورة وتسمى"الحرس الوطني"، على سبيل المثال فالدولة مسؤولة عنها وعن أفعالها مسؤوليتها عن الجيش نفسه وعن أفعاله. مثل هذا جائز، حين تثبت الحاجة إليه. ولكن سيكون متعذرا إقناع اللبنانيين ناهيك بغيرهم أنه يجوز للدولة إيكال هذه المهمة إلى تنظيم حزبي، وحيد الطائفة فوق حزبيته، يسلّحه غير الدولة ويفترش، في مباشرته مهمته، شبكة من العلاقات الخارجية والداخلية، السياسية وغيرها، لا تلمّ الدولة بأوائلها ولا بأواخرها. سيكون متعذرا، في هذه الحالة، إقناع اللبنانيين وغيرهم ابتداء من إسرائيل نفسها وانتهاء بالأممالمتحدة بأن دولة هذه سيرتها هي... دولة. اليوم يضع حزب الله"مشروع الدولة"في موضع الصدارة من تناوله حاضر البلاد المحتدم ومستقبلها المرتجى. وهذا كلام جدير بكل تقدير إذ هو يشير إلى شوط طويل طواه هذا الحزب في عشرين سنة مضت على بروزه إلى العلن: شوط أوصله من"جهادية"خمينية القدوة، عابرة للحدود الوطنية في الثمانينات، رافضة، في أواخرها، لاتفاق الطائف، إلى مشاركة في المؤسسة البرلمانية، ابتداء من مطلع التسعينات... وهي مشاركة شهدنا فيها النزعة إلى حماية عمل المقاومة بتأطير الوسط الذي نمت فيه وتحقيق الغلبة فيه وبتحييد نوازع التجاذب في المحيط الوطني وقد غلبت النزعة المقابلة إلى الضلوع الشامل في سياسة الشؤون العامة. إلى أن وصل الحزب اليوم من الشوط نفسه إلى شعار"مشروع للدولة"يراه متوجب الحماية... والحال أننا اليوم في ظرف يوجب مصارحة الحزب بأن مشروع المقاومة المستمرة بات مفتقرا إلى كل ما حاطه بالحماية حتى اليوم: أي إلى مواءمته مشروع الدولة في نظر اللبنانيين أوّلا وإلى الشرعية الدولية التي انطلقت في لجمها القوة الإسرائيلية من واقع الاحتلال ومن قرارها القاضي بجلاء المحتل. هذا فضلا عن أن المسلكين السوري والإيراني في الصراع على الشرق الأوسط عادا لا يمثلان نموذج المجاهد الذي لا تلين له قناة ويصح أن يأتم به مجاهدو الأقطار المحيطة في هبّة واحدة شاملة. هما لا يبدوان ممثلين لهذا النموذج إذا اعتبرنا بالاختبارين الأفغاني والعراقي وباختبار إيران في موضوع الطاقة النووية وباختبار سوريا في الموضوع اللبناني أخيرا. واللبنانيون ذوو حق في أن ينظروا في تلك الاختبارات ويتبينوا فيها بعضا من منطق الدولة ناهيك بمنطق"مشروعها". ولا يقولن لنا الحزب إن هاتين دولتان ونحن"حركة شعبية". هذا يصح ما دمنا في حدود موقف سياسي يتوجه به إلى الدولة. وأما حمل السلاح فلا نراه شائعا في سوريا ولا في إيران بالنيابة عن الدولة وخارج مسؤوليتها أمام الداخل وأمام الخارج. فهذا لا يستقيم إلا في دولة محتلة أو في دولة مستضعفة، وقد كانت الدولة اللبنانية، إلى عام 2000، جامعة الصفتين معا فلم يبق منهما اليوم إلا الثانية. بل إن فلسطين، وهي لا تزال رازحة كلها تحت أعتى احتلال في عالم اليوم كله، راحت المقاومة المسلحة فيها تتجه، بفصائلها الرئيسة، نحو تسليم أمر التحرير إلى السلطة المنتخبة مقرّة لها بالحق في سياسة هذا الأمر سياسة لا يعترضها العنف المقاوم أو المعارض فتكبو عند كل محطة. فكيف سيسع حزب الله أن يجمع ما بين التعويل على استضعاف الدولة اللبنانية والحرص على مشروع الدولة من غير إدخال للبلاد في ظلمات انفجار أو انهيار لا ينجو من أيهما هو ولا الدولة ولا البلاد؟ اليوم بتنا مظللين بالقرار 1559، وهو قرار شقّ صفّنا بعد أن نعمنا زمنا طويلا بظل القرار 425 وكان مشتدا به أزرُنا. وكان عجزنا عن مباشرة أمورنا بأنفسنا، ونحن تحت ربقة النظام السوري، هو ما جرّ علينا وبال الاقتحام الدولي لساحتنا. فإن التمديد لرئيس الجمهورية الحالي، ولا شيء غيره، وكان عرْضا سخيفا للقوة السورية في"ساحتنا"ولقدرتها على إذلال ساستنا حالا والمقايضة بنا مآلا، هو ما نقل أوروبا من موقف إلى موقف حيال مسألتنا وجعل منا بابا لتجديد ظهورها موحدة في الشرق الأوسط، بعد انقسامها حول المسألة العراقية. فنُقلنا، بالتالي، من"قانون محاسبة سوريا"وكانت مداراته محتملة الكلفة إلى القرار 1559، وهو باب مفتوح لسلبنا مقاليد أمورنا مرة أخرى ولجعل بلادنا - إذا أسلسنا القياد - قدوة أو عبرة لمن اعتبر، بالأحرى في نظام شرقٍ أوسط تحكمه أميركا وتتصدره إسرائيل. ونحن لا يلائم دور القدوة هذا سلامة علاقاتنا في ما بيننا ولا مصالح بلادنا في محيطها القريب. نحن محتاجون إلى ردّ هذه المواجهة الرهيبة عن شعبنا: المواجهة بين شطرين من شعبنا والمواجهة بين بلادنا ومجتمع الدول، وهما ستكونان، إن أعوزتنا الحكمة، مواجهة واحدة. ونحن نعتقد أن في يدنا فرصة للنجاح بشرط الحكمة. هذه الفرصة هي نفسها الفرصة الوحيدة لمشروع الدولة وهي فرصة استوائنا دولة مستقلة. وهي فرصة أدى رفيق الحريري حياته ثمنا لها. فكان أن أخرجت الجريمة اللبنانيين من بيوتهم وأعمالهم ومدارسهم مانحين بلادهم فرصة هي هذه لا يجوز أن يضيعها السياسيون. وكان أن أدركت صورة انطلاق اللبنانيين من قمقم الصمت والمهانة أطراف عالم أخذ ينظر ويصغي، لا بحكوماته ومرجعياته الدولية وحدها، بل ببشره عامة. أواخر آذار مارس 2005 مثقفون لبنانيون اتفقوا على كتابة هذا النص الموحد الذي اخترنا نشر أبرز فقراته.