المستديرة بنفسجية. مئات من الأزهار الصغيرة تتمايل تحت الشمس الحارقة، على وقع نسيم خفيف، من دون أن تنشر عطرها. إنه وقت الربيع في بلاد الفصول الأربعة، يمرّ من دون احتفاء مؤثّر في دبي، المدينة التي اعتادت أن تحتفي بكل شيء في الأوقات كلها: التسوّق، الورش، السياحة، الفنادق، الشواطئ، الجزر، الأبراج، الحانات... هناك أيضاً ما يشبه"التقديس"ليوم البيئة وأسبوع الشجرة في كل عام. اذ اعتاد المسؤولون على التصريح بالانجازات التي حققتها الإمارة في مكافحة التصحّر وزيادة الرقعة الخضراء، واعتاد الناس على المشاركة في سلسلة من الأنشطة البيئية التي تحتضنها الحدائق والجمعيات الأهلية والأحياء السكنية. لكنّ الربيع، بما يتجاوز معناه كوقت محدد من السنة، إلى كونه صمّام"الأمان الجمالي"للطبيعة، وضمان للإنسان، مفقود هنا."أشتاق كثيراً إلى أن يحضنني ربيع"، تقول رولا المقيمة في دبي منذ اعوام ثلاثة. جميلة تلك الأزهار، راقدة في صحن المستديرة عند تقاطع شارع الشيخ زايد مع شارع الشيخ راشد، حيث نصبت مسلّة تذكارية تذكّر باستضافة دبي يوماً ما ل"فرسان"صندوق النقد والبنك الدوليين. لكنّ درجة الحرارة التي تفوق الأربعين في هذه الظهيرة، تغلّف الجوّ بذلك السراب الذي يجعل العين تزوغ في تحديقها. السراب، هناك عند آخر خط مستقيم من الإسفلت، يتلاعب بالنظر كدخّان طالع من موقد أطفئ لتوّه، وهو أيضاً موجود على حفاف الزهرة. يحيط بها، فتبدو للناظر أشبه بأن تكون اصطناعية منها طبيعية. لكنّها في مطلق الأحوال زهرة، وموجودة. مرتّبة ونظيفة ومحميّة بفضل"نربيش"ماء خاص يندسّ تحت جذرها. لكلّ زهرة"نربيش": هل تدلل الأزهار بهذا الشكل في أي مكان آخر من العالم؟ الزهرة محميّة أيضاً بفضل قوانين صارمة تفرض غرامات مالية باهظة على كل"من تسوّل له نفسه أن يعبث بها". وذلك الرجل، الذي يرتدي نظارة سوداء وينظر من خلف زجاج سيّارة ركنت إلى جانب المستديرة، ليس سوى"مفتّش الأزهار"الذي سيوبّخك، وربما أكثر من ذلك، لو أهنت البقعة البنفسجية. جدية بيئية هناك الكثير من الجديّة التي تصدّرها دبي في تعاطيها مع الموضوع البيئي، وتحديداً التشجير. في جعبة البلدية، القوّة التنظيمية الحاضرة بقوّة في شؤون الشارع والمجتمع، تماماً كما يقتضي أن تكون البلديات وكما تفعل عملياً في بلدان الغرب المتحضّر، مشاريع وأنشطة لا تنضب:"استراتيجيتنا تقتضي أن تكون 8 في المئة من مساحة دبي الحضرية مساحات تكسوها الزراعة بحلول العام 2012". معنى هذا، أن المساحة المزروعة في دبي ستصل إلى 4 آلاف و383 هكتاراً بعد أقل من سبع سنوات، وهو رقم يمثّل إنجازاً حقيقياً لمدينة عمرها الحقيقي لا يتجاوز 35 عاماً، تقع جغرافياً في قلب الصحراء."خطتنا أن تكون حصّة كل فرد من سكان الإمارة 25 متراً مربعاً من إجمالي المساحة المزروعة، واستطعنا تحقيق أكثر من 3,20 متر مربع لكل فرد"، يقول مسؤول في البلدية. "في هذه المدينة، شاهدت أشجاراً أكثر مما فعلت في بيروت نفسها. حين زرت حديقة الخور للمرة الأولى، لم أصدّق أن دبي قد تقتني حدائق على هذا الاتساع. كنت مبهوراً وسرعان ما نسجت علاقة مميّزة مع الحديقة وحدائق أخرى كثيرة"، يقول علي الذي وفد من بيروت قبل عشرة اشهر ليستقرّ في الإمارة. الحدائق للجميع في دبي، المدينة الصغيرة، هناك أكثر من 28 حديقة و25 ساحة شعبية مزروعة. تمثّل الحديقة تلك التجربة المثالية التي تذكّر بحدائق القصص وكتب القراءة في المرحلة الابتدائية حيث هناك مساحات مخصصة ل"حفل الشواء"يوم الأحد، وأخرى يرتع فيها الأطفال حاملين بالوناتهم وكرات السكّر المنفوش الزهرية. شقراء بقماش أبيض خفيف تتمدد على العشب طامعة"بلون الشمس". مقاعد خشب تنتظر قراء الكتب الهانئين. أشجار مختلفة، بحر قريب و"تليفريك"للراغبين بجولة في الهواء على امتداد الحديقة الواسعة. الكثير من الزهور والأسماك ونوافير المياه. مناطق ألعاب الأطفال مزروعة في كل مكان. ويوم الجمعة، سيأتي للحديقة ذلك الحشد الكبير الذي في وسعك ان تلمح بينه فقراء وأغنياء، وافدين ومواطنين، شيوخاً وأطفالاً، عشّاقاً وفرادى.. الحدائق في دبي للجميع، طالما الجميع يحترم الشجرة ويتعاطى مع الزهرة بلباقة. الجديّة والتصميم اللذان يجعلان من المشروع التشجيري في دبي أولوية لا يعتريها لبس، يهيئان لمشاريع مستقبلية على درجة عالية من الابتكار، قد تشكّل مفاجآت حقيقية:"سمعت أنّ هناك مفاوضات حالية مع علماء بيئة يابانيين بشأن محاولة وضع خطط لتغيير الوضع المناخي في الدولة". في العام 2012، وربما قبل ذلك، قد يزهر ربيع حقيقي في دبي، بعد أن يكون قد غسل المستديرات قبله... ثلج!