أواخر سنة 1978 انتخب كاردينال كراكوف كارول فويتيلا، حبراً أعظم خلفاً للبابا يوحنا بولس الأول. ورأى الشعب البولوني في هذا الانتخاب نصراً معنوياً يساعده على دعم حركة الاحزاب العمالية التي كان يقودها"ليش فاليسا"من مدينة غدانسك. كما رأت الكنيسة البولونية ان هذا الاختيار يعزز موقفها المعارض للسلطة الحاكمة التي منعت الصحف الكاثوليكية من نشر صورة البابا على اكثر من عمود. وأمر زعيم الحزب الشيوعي ادوار غيريك الشرطة السرية بمراقبة الكنائس لأن الأساقفة رفعوا حدة المواعظ الداعية الى حرية التعبير وحرية الضمير. وفي ذكرى مرور 900 سنة على وفاة القديس ستانسلاف، لبى البابا يوحنا بولس الثاني دعوة رئيس أساقفة بولونيا لمشاركة المواطنين في الاحتفالات الشعبية. وعندما وطأت قدماه أرض بلاده 2 - 6 - 1979 ركع ليقبل تراب الوطن، ثم حمل طفلة قدمت له باقة من الورد، وسألها: أين تقع بولونيا؟ وارتبكت الطفلة عندما سلطت عليها أضواء الكاميرات، ولاذت بالصمت. عندئذ رفع البابا سبابته واشار الى صدرها قائلاً: بولونيا هنا... في القلب! وسُمعت على الأثر هتافات المستقبلين الذين رددوا بصوت واحد: والبابا في قلوب البولونيين. نريد الله في منازلنا... نريد الله في مدارسنا. وتوجه الحبر الأعظم بعد ذلك الى مقبرة الأسرة في كراكوف حيث دفن والده كارول، الذي خدم كضابط في الجيش النمسوي - المجري، ووالدته اميلي وشقيقه آدمون. ووضع على المقبرة اكليلاً من الزهور الحمر والبيض كرمز للونين يشكلان العلم البولوني. وكان من الطبيعي ان تتخوف السلطة من الوقع السياسي الذي تركته مواعظه الدينية على شعوب أوروبا الشرقية، خصوصاً عندما أشار الى ان زيارته هي لكل المؤمنين في الاتحاد السوفياتي. وبخلاف حركات التمرد التي شهدتها المجر وتشيكوسلوفاكيا ورومانياوالمانياالشرقية، فإن حركة العصيان في بولونيا تميزت بدعوتها الى الحرية والرغيف معاً. ولقد نجح البابا في هذه الزيارة بإعلان دمج العنصرين معاً، مشيراً الى الانحطاط الذي بلغه الانسان من جراء تحويله الى أداة للانتاج والاستهلاك فقط. وودع أخيراً أبناء وطنه باستلهام كلام المسيح لتلاميذه قبل ان يسلمه يهوذا الاسخريوطي، فقال بلهجة التحدي: لا تخافوا... كونوا أقوياء بقوة الإيمان. وانتشرت هذه العبارة انتشار النار في الهشيم. واستخدمها العمال والمعارضون والمنشقون كنشيد للاضرابات المتواصلة، وظلت كلماتها عالقة في الحناجر الى ان أقلقت أصداؤها زعماء الكرملين. بعد مرور سنتين على تلك الزيارة أقدم شاب تركي يدعى علي أقجا على اطلاق النار على البابا في ميدان القديس بطرس فأصابه بجروح بالغة 13 ايار/ مايو 1981. ومع ان الصحف في حينه اتهمت موسكو بالوقوف وراء تلك العملية، إلا ان الزعيم السوفياتي بريجنيف استنكرها وارسل برقية الى الحبر الأعظم يتمنى له الشفاء العاجل. وظلت هذه المسألة الغامضة موضع جدل بين المحللين، الى ان ظهرت تفاصيلها في أرشيف استخبارات المانياالشرقية عقب انهيار المنظومة الاشتراكية. وأظهرت الوثائق ان ال"كي جي بي"الاستخبارات السوفياتية هي التي أمرت بالاعتداء، بينما تولت الاستخبارات البلغارية عملية التنفيذ مجندة من أجل ذلك علي أقجا وارهابيين آخرين. أما دور المانياالشرقية فقد اقتصر على شن حملة اعلامية مضللة بهدف تمويه الأدلة وبلبلة التحقيق. وفي كتابه الأخير:"الذاكرة والهوية"يعرب البابا عن اقتناعه بأن علي أقجا لم يكن أكثر من أداة تنفيذية تختبئ وراءها جهات اخرى خططت لعملية الاغتيال. ومن المؤكد ان الكرملين تضايق من الدور المؤثر الذي لعبه البابا في مناهضة الايديولوجية المادية وتحدي النظام الشيوعي عبر زياراته المتكررة لبولونيا وبلدان أوروبا الشرقية. لذلك قرر التخلص منه لأن مواعظه اصبحت رسائل خطرة معادية للحكم الشمولي. بعد سقوط النظام الماركسي والسماح للكنائس والجوامع في أوروبا الشرقية بممارسة الطقوس الدينية، استقبل البابا الرئيس ميخائيل غورباتشوف وأجرى معه مصالحة تاريخية لم توافق عليها الكنيسة الارثوذكسية في روسيا. ثم أجرى بعد ذلك محاولات عدة بهدف محو آثار الخلاف العميق الذي نشأ بين الكنيستين منذ سنة 1200م، أي منذ الحملة الصليبية الرابعة. ثم تطور الخلاف عقب سقوط القسطنطينية، عاصمة الامبراطورية البيزنطية، وبعد ان اتهمت الكنائس الشرقيةالفاتيكان بأنه تقاعس عمداً عن دعوة المقاطعات الدائرة في فلكه، بأن تسارع الى صدّ حملة محمد الفاتح. علاقة البابا يوحنا بولس الثاني بالولايات المتحدة كانت دائماً محكومة بعوامل مختلفة، أهمها انحياز البيت الأبيض الى اسرائيل، واستخدام نفوذه من أجل الحصول على تنازلات سياسية بشأن مستقبل القدس والاماكن المسيحية في الأراضي المحتلة. وقد وظف الرئيس جيمي كارتر هذا النفوذ يوم هدد بمراجعة وثائق تاريخية ادعى انها تكشف النقاب عن عملية اخفاء كمية كبيرة من الذهب تخص الفاشيين الكروات. وقال وزير خارجية الفاتيكان جان لويس توران يومها ان الرئيس الاميركي يستعمل سلاح الابتزاز والتشهير بهدف اضعاف سلطة البابا لدى اكثر من بليون مسيحي. اضافة الى هذه الأسباب، فإن انفتاح الفاتيكان على كوبا شكل عاملاً آخر من عوامل الخلاف مع واشنطن. وهذا ما دفع البابا الى توجيه انتقادات قاسية الى الادارات المتعاقبة أثناء جولته في الولايات المتحدة. ففي كل خطبه كان يردد لازمة مفادها ان"رغبة أميركا في الحصول على مبتغاها، لا تمنحها الحق في الحصول عليه". ويبدو ان هذه القناعة شجعت البابا على تحدي ارادة اميركا، فإذا بزيارته لكوبا تؤمن الانفراج الاقتصادي لبلاد عانت من الحصار الاميركي مدة 37 سنة. ومن المؤكد ان زيارة كاسترو للفاتيكان خريف 1996 أثمرت انفراجاً في العلاقات بحيث ان الحكومة الكوبية سمحت بدخول أربعين راهباً كلفوا بتعزيز الابرشيات الكاثوليكية في الجزيرة. كما حصلت الابرشيات على حق اصدار الكتب والمنشورات الخاصة بها وتوزيعها على المواطنين. مطلع الألف الثالث للميلاد، صرح الناطق باسم الفاتيكان يواكيم فالز، ان البابا يرغب في القيام بزيارة للشرق الأوسط تشمل في جزئها الأول العراق. وارسلت حاضرة الفاتيكان وفداً الى المنطقة لترتيب برنامج الزيارة المرتقبة الى بغداد والقاهرة وفلسطين. وكان البابا عازماً على القيام بالرحلة التاريخية ذاتها التي قام بها النبي ابراهيم من"أور"جنوب العراق حيث ولد ومن"أور"يغادر الى مصر حيث يزور دير"سانت كاترينا"في سيناء. ومن بعدها ينتقل الى بيت لحم ومدينة الناصرة. ولكن واشنطن اعترضت على زيارة العراق لأن ذلك يعتبر نصراً ديبلوماسياً كبيراً ودعماً لصدام حسين المحاصر بعقوبات دولية منذ تسع سنوات .ورد البابا بانتقاد سياسة واشنطن لأن الزيارة حسب قوله، مخصصة لرفع المعاناة عن شعب العراق .وظلت العلاقات متأزمة بين أكبر دولة في العالم وأصغر دولة، الى ان كسر الرئيس جورج بوش الابن حدة الخلاف، وقام بزيارة الفاتيكان قبل معركته الانتخابية كي يستميل الناخبين الكاثوليك الكثر. سنة 1996 استقبل البابا الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي دعاه لزيارة الاراضي المقدسة. وبعد سنة تقريباً قام رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو بزيارة الفاتيكان ووجه الى البابا دعوة رسمية .وكانت اسرائيل قد استقبلت مطلع سنة 1994 وفداً من الفاتيكان برئاسة المونسنيور كلاوديو تشيلي، نائب وزير الخارجية للعلاقات الدولية، وجرى البحث في حينه مع وكيل الخارجية الاسرائيلية يوسي بيلين حول مسألة تبادل السفراء وتطبيع العلاقات .ووضع الفريقان الاسس العملية لتبادل الاعتراف الديبلوماسي، علماً أن الفاتيكان كان قد أعلن اعترافه باسرائيل سنة 1965، ولكنه أرجأ قرار تبادل السفراء الى حين التوصل الى اتفاق ينهي نزاع الشرق الاوسط .وربما توقع من الولايات المتحدة قبول مشاركته في المفاوضات نظراً الى أهمية دوره في رسم مستقبل القدس، خصوصاً ان الفاتيكان رفض نقل مقر سفارته من تل ابيب، لأن القدس في نظره، يجب ان تكون مدينة مفتوحة لكل الشعوب باعتبارها تمثل المركز الروحي للديانات السماوية الثلاث .وقال الوزير توران للمفوض العام الفلسطيني عفيف صافية، ان الفاتيكان يعتبر ضم القدس لاسرائيل عملا غير قانوني .وفي رأيه ان الفاتيكان يتطلع الى المؤسسات المسيحية كجزء من الاراضي المحتلة التي ينطبق عليها القرار 242. خلال رحلاته التي بلغت 143 داخل ايطاليا و102 خارجها، استطاع البابا يوحنا بولس الثاني ان يكسب شعبية عالمية غير مسبوقة في تاريخ البابوية .ولقد تعدت هذه الشعبية النطاق الكاثوليكي، خصوصاً بعدما زار معبداً لليهود في روما والجامع الأموي في دمشق .ولكن علاقته مع اليهودية ظلت تتسم بالحذر والتأني بسبب الحملات الشرسة التي شنتها الصهيونية ضد البابا بيوس الثاني عشر متهمة إياه بالصداقة مع هتلر وبالسكوت عن قتل اليهود خلال الحرب العالمية الثانية .واستغل يوحنا بولس الثاني زيارته لالمانيا 1987 ليعترف بأن الكنيسة هي الأخرى كانت ضحية للملاحقات النازية .وفي خطب اخرى شجب البابا كل أشكال قتل الشعوب واكتفى بالاشارة الى كارثة الهولوكوست، بأنها واحدة من كوارث كثيرة اخرى .وعندما سأله اليهود في البرازيل عن هذا الموضوع اجاب:"يجب ألا ننسى ان في العالم كوارث كثيرة عانت منها شعوب كثيرة".وهكذا حوّل الكارثة الى حدث بولوني - مسيحي ايضاً .ولكن التنظيمات اليهودية العالمية ردت عليه بطلب نقل موقع دير كاثوليكي أسس سنة 1983 في"اوشفيتز"قرب معسكر الإبادة .وبعد نقل الدير قامت الكنيسة البولونية ببناء دير الى جانب المعسكر النازي السابق احياء لذكرى ضحايا"اوشفيتز"من الكاثوليك .واحتجت الجالية اليهودية على هذا العمل، خصوصاً ان تصميم البناء يشبه غرف الغاز معمارياً، كما ان حجر الزاوية أخذ من جدار في معسكر الابادة. خلاصة القول ان يوحنا بولس الثاني كان اول بابا عمل في مجال الاصلاح الديني العالمي بحيث حرك الفاتيكان بطريقة غير مسبوقة .وهو اول بابا تطأ قدماه التراب البريطاني منذ حركة الاصلاح الديني قبل 450 سنة .وبعدها بأربعة شهور اثار انتباه العالم باستقبال ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وهو بالتأكيد سينزل في كتب التاريخ كعنصر أساسي ساهم في تدمير النظام الشيوعي .ولكنه من جهة اخرى لم ينجح في تثبيت الحركة المسكونية .ففي سنة 1999 اتفق اللوثريون والكاثوليك على موقف مشترك في شان التبرئة بالايمان، الأمر الذي أدى الى تقسيم الكنيسة إبان حركة الاصلاح .إلا ان البابا لم يحضر حفل التوقيع. سئل الاب توماس ديس، مؤلف كتاب"داخل الفاتيكان"عن تقويمه لدور البابا وما اذا كان التاريخ سيسجله في عداد الرعاة المصلحين لدور الكنيسة، فأجاب: ان البابا لا يقيس أعماله حسب استطلاعات الرأي، فهو يقول ما يؤمن به انه حق .ولهذا السبب نال اعجاب الناس، انه في نظرهم انسان جريء وأمين حتى لو لم يتفقوا معه .وهذا هو سر قوته! كاتب وصحافي لبناني.