يستحضر الاستخدام الراهن لمصطلحي"يمين"و"يسار"عدداً من الاستدراكات لا تقل عن تلك التي يستحضرها"الشرق"و"الغرب". وقد غدت أسباب الاستدراك معروفة، مصادرها في التحولات التي شهدها العقدان الأخيران وخلخلت معظم المعطيات التي دار المصطلحان حولها وقاما عليها. فإذ تراجع الاقتصادي والطبقي، في"الغرب"، أمام المجتمعي والقيمي، هاجرت صناعات ووحدات انتاج بأمها وأبيها من ذاك"الغرب"الأميركي والأوروبي الى"الشرق"الصيني والهندي والروسي. كذلك طغى الخدمي، لا سيما في المعلومات وتقنياتها، على الصناعي بمعناه الموروث عن القرن التاسع عشر، ما انعكس على معاني الطبقات وخرائطها، وفي الصدارة منها الطبقة العاملة. وإذ بات يساريون، بالمضمون القديم للمصطلح، يشايعون قوميين وإسلاميين هم يمينيون، بموجب المضمون القديم نفسه، أضحى يمينيون يرودون حركة التقدم منظوراً إليها من زاوية التطور المعلوماتي الضيق وما يتفرّع عنه. وهذا كله فيما أضحى شيوعيون، وفي مقدمهم شيوعيو روسيا الذين ألهب أجدادُهم العالمَ بثورة اكتوبر، حلفاء للقوميين والدينيين والمتقاعدين في مواجهة"التغريب". وكان هذا الأخير، ولو بقيادة البروليتاريا، بعض ما ارتبطت به تاريخياً نشأة اليسار ابّان العهد القيصري. وقد نشأت داخل هذه الحدود، وفي ما بينها، تجربة الصين التي تجمع إرثاً يسارياً بقي منه الحزب الشيوعي ودوره بوصفه الحزب القائد، الى رأسمالية هي أفتى الرأسماليات وأنشطها في العالم كله، لكنها ايضاً إحدى أشدّها شراسة واستبداداً حيال الطبقة العاملة. وقصارى القول إن المصطلحين، باللبس الذي يشوبهما، ما عادا يوفران للتحليل إلا أدوات نسبية يزيد في نسبيتها صعود الانتقائية على حساب المناهج المتماسكة الشهيرة، والتي تهبط من"الكلي"الى"الجزئي"كمن يتزحلق على سهل مغطى بالثلوج. وأخذاً بالتحفظات هذه مجتمعة، يتبدّى اليوم أن في الوسع الدفاع عن مزج بدا في السابق هرطوقياً، أحد عنصريه موقف"يساري"من الحياة السياسية والعامة في"الغرب"، فيما العنصر الآخر موقف"يميني"من مثيلتها في"الشرق،. ذاك أن مقوّمات المطالعة الكونية، الواحدة والجامعة، خسرت، المرة تلو المرة، أساس رهانها على نظرة"أممية"مستوية. فلا"طوباويات"سان سيمون وغيره ممن عوّلوا على توحيد العالم عبر ربطه بالآلات والقنوات، ولا"علميات"الماركسية التي رأت الى الطبقة العاملة الصناعية بوصفها أداة التوحيد، أثبتت جدارتها العملية. ولئن كانت تجربة انشطار الأممية الكاوتسكية الثانية وولادة الأممية اللينينية الثالثة إيذاناً مبكراً بالواقع هذا، فإن تاريخ النزاع الصيني - السوفياتي المصحوب بالتنافس في ابداء الولاء اللفظي ل"الأممية البروليتارية"، شهادة أخرى عليه مستقاة من سياق زمني وجغرافي آسيوي مغاير. وفي حقل مختلف تنمّ الكنيسة المسيحية عن وجهة مشابهة. فإذ ينكمش التديّن في معظم الغرب الأوروبي على الأقل، نراه ينتعش في افريقيا وآسيا وبين الاقليات المهاجرة من بلدان"العالم الثالث". وإذ تنحو البروتستانتية الغربية الى مواقف متقدمة من المسائل الجنسية والأخلاقية والضميرية عموماً، تنشدّ زميلتها، أو بالأحرى ابنتها، الافريقية، الأكثر"قومية"والأقل فردية، الى مواقف متخلّفة من المسائل نفسها. تضاف الى ذلك انشطارات جعلت تشقّ إجماعات كانت تراءت، لغشاوة في النظر أو لظروف الحرب الباردة، ثابتة راسخة. فالتحالف اليهودي - الاسود في الولاياتالمتحدة، مثلاً، والذي تسبب بمعظم الانجازات المدنية في الستينات، تصدّع تماماً. وإذ غدت مكافحة العنصرية جزءاً ملازماً لسياسات عالمثالثية بعضها لاسامي، غدت مكافحة اللاسامية جزءاً ملازماً لسياسات غربية بعضها عنصري. أما الطبقات العاملة المتشكّلة من هجرة وحدات الانتاج والرساميل الغربية الى بلدانها، فلا تكرّر، بحال من الأحوال، ذاك السيناريو الطبقي الصافي اقتصادياً، أو القريب من الصفاء، للطبقة العاملة الاوروبية. ومن ناحيتها تبدو التحالفات في جبهة المناهضة للعولمة، أو المطالبة بعولمة بديل، تحالفات مصدرها جهل أحد المتحالفين بالآخر: هكذا نرى الأقل قومية ودينية والأكثر باسيفية في"الغرب"يتلاقون مع الأكثر"قومية"ودينية والأقل باسيفية في"الشرق". بيد أننا نزعم، مع هذا، العثور في مفهوم التقدم على أفضل المعايير الوظيفية في القياس واصدار الأحكام والمحاكمات. والمقصود منها، قفزاً فوق الانتقادات المابعد حداثية والما بعد بنيوية للتقدم، ذاك الذي يتعدى"الأداتي"منه، أي الثراء والقوة وطرق التنظيم والتأطير، الى انطوائه على أفق ديموقراطي انساني في آن. ومن غير إخلال بنظام القيم الكوني اليونيفيرسالي مرجعاً مبدئياً يُحتكم إليه، لم يعد بدّ من التزامه بنسبية تاريخية لا يني يتأكد أن الفرار منها كالفرار من الليل. والحال انه باستخدام هذا المعيار، بعد تحريره من استخداماته الايديولوجية المعهودة، يتبدّى ان التقدمي في"الغرب"هو من يواجه مشاكل ما بعد الدولة - الأمة بعين مفتوحة على المستقبل، أتعلّق ذلك بالتوزيع الأعدل للثروة أم بمواكبة المواقف الأشد عصرنة وعلمنة وتعددية. أما التقدمي في"الشرق"فهو، أولاً وأساساً، من يحسم مسألة الدولة - الأمة في قيامها وتوطّدها وإكسابها ثقافة بها تكون مساوية لها. فمن غير التصدّي لهذه المسألة الأخيرة على حساب الولاءات الأصغر العائلات، العشائر، الطوائف... والأكبر دعوات الضم والدمج والسطو على السيادات، يبقى كل تناول اقتصادي أو قيمي ناقص القيمة مجتزأ الفعالية. وهذا ما لا يقيم جداراً صينياً بين الوظيفتين. فتقدمية السعي الى الدولة تستبطن حكم القانون، إن لم يكن الديموقراطية الفورية، استبطانها حقوق الإنسان والمساواة الجنسية والاصلاحات الزراعية ودرجة أعلى من الانحياز للقيم الأشد فردية وعصرية. وتبعاً لها، تدان العنصرية والأصولية وإقحام الدين في السياسة، كما تدان ممارسات كحكم الاعدام، مثلما تدان في"الغرب"على أيدي تقدمييه. الا ان هذا لا يموّه نظام الأولويات ولا يبدده. وذاك الموقف في"الغرب""يساري"بمعنى تعارضه مع أصولية السوق المطلقة، كما مع القيم المحافظة في الأخلاق والاجتماع عموماً. لكن الموقف اياه، في"الشرق"،"يميني"في المقابل. فهو مسكون بتوفير الشيء قبل توزيعه، وبرفع نظام القيم الى سوية السياسة الوطنية المعلنة، بعيداً من معايير الطوائف والعشائر والامبراطوريات، قبل إعمال الفرز الايديولوجي فيه. وهو جميعاً ما لا يملك اليسار التاريخي تراثاً بارزاً فيه. وربما شكلت بلدان اميركا اللاتينية حالة وسيطاً بين"الغرب"و"الشرق"بالمضامين المشار اليها للمصطلحين. فمنذ انطواء الصفحة البوليفارية التوحيدية وإقرار الجميع بأنها غدت ذكرى طيبة، لم تعد اميركا اللاتينية تشبه العالم الاسلامي، أو افريقيا، في ما يخص توطد الدولة الوطنية والاستقرار على ولاء مواكب لها. بيد انها لا تزال بعيدة عن النظام الغربي المستقر تبعاً للدور الذي لا تزال تلعبه الولاءات الموضعية في بعضها، وعدم الضمور الكامل للاحتمال الانقلابي في بعضها الآخر، فضلاً عن النفوذ الذي لا تزال تحظى الكنيسة الكاثوليكية به في معظمها. هكذا، وعلى رغم حالتي كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا، يمكن القول ان اليسار الاميركي اللاتيني أقرب الى التقدمية من اليمين: يصح هذا في البرازيلوالارجنتينوتشيلي، وفي اوروغواي حيث تولى لتوه تاباري فاسكيز رئاسة الجمهورية، كما في الدور الكبير الذي تلعبه المعارضة الاشتراكية في بوليفيا منذ سقوط الرئيس سانشيز دي لوزادا في 2003. وليس ثمة ما يحمل على افتراض العكس في المكسيك والبيرو حيث يتوقع ان يفوز يسارهما بالسلطة مع انتخاباتهما العامة السنة المقبلة. فهناك يبقى الاحباط حيال سياسات اقتصادية محلية ودولية، رائد التحول يساراً، فلا يخالطه تشكيك بسيادة، او بحدود وطنية، او اية محاولة لفرض الدين على المجتمع. والواقع ان التصويب الاقتصادي هو ما يوفر، لهذه البلدان، أرضية اصلب للتكافؤ بين المواطنين، وتالياً لتعزيز الوحدات الوطنية فيها. وبدل التبديد الذي تمارسه حروب الهويات، نرى الادارات اليسارية تحرز نجاحات اقتصادية ملحوظة، فتزداد قابلية البرازيل لجذب الاستثمار الخارجي، فيما تحقق الارجنتين، المنهارة قبل عامين، نمواً اقتصادياً بلغت في 2004 نسبته 8 في المئة، وتسجل تشيلي انخفاضاً ملحوظاً في معدلات الفقر. وعلى الضد من التحليلات التي تضع التنمية في مقابل الديموقراطية، والكثير منها اميركي، تحافظ الحكومات اليسارية في البلدان المذكورة على المسار الديموقراطي. فاذا ما ظهر اخلال بين وقت وآخر، وهو ما يؤخذ احياناً على الارجنتين، فانه لا يكون افدح او اسوأ مما يحصل في بلدان ذات حكومات يمينية تشاطرها ثقافة منطقة لا يُعتد بتقاليدها الديموقراطية. وبعيداً عن اميركا اللاتينية، يبقى ان تقدمية"يسارية"في"الغرب"تكمّل عمل تقدمية"يمينية"في الشرق، والعكس صحيح. فاذ تسهل السياسات الاقتصادية للأولى عبور الثانية نحو الحداثة، يوفر الخروج من حروب الهوية في الثانية، مزيداً من الانفراج المطلوب لعبور التحديث والافكار والاستثمارات من الأولى إليها. وهذا يستبعد، في ما يستبعده، امكان الخروج بمواقف اشتقاقية بسيطة، كأن يفضي رفض أوضاع بعينها في"العالم الثالث"الاستبداد، الارهاب، الاصولية، تعطيل الدول... الى تمجيد نقائضها السياسية، ولو لم تكن نقائض ايديولوجية وقيمية، التي في الولاياتالمتحدة أو اوروبا الغربية. أو كأن يفضي، في المقابل، رفض أوضاع سياسية وايديولوجية في الولاياتالمتحدة واوروبا الى رذل كل ما ينتج عن حركتها في"العالم الثالث"، عملاً بمبدأ قتل الوليد لأنه ناجم عن اغتصاب أو سفاح. وغني عن القول ان الحالة الأولى تصف من يؤيدون"المحافظين الجدد"في بلداننا، فيما تصف الثانية بعض الغربيين المناهضين لجورج بوش. وفي المرتين، يصار الى اختزال السياسة في موقف ايديولوجي جامع مانع نقع على شكله الكاريكاتوري في مقالة كتبها المدعو واين مادسون، واتهم فيها الولاياتالمتحدة باغتيال رفيق الحريري لأنها تنوي اقامة قاعدة جوية ضخمة في لبنان!. اما نقاط التقاطع بين السياسة والايديولوجيا، وأما حدودها، فتبقى منيعة على العقل. * كاتب ومعلّق لبناني