جاك دريدا و آخرون ترجمة: حسن العمراني. المصالحة و التسامح وسياسات الذاكرة. دار توبقال، الدار البيضاء. 2005. 88 صفحة. يطرق هذا الكتيب المهم الذي"ألّف"فيه مترجمه بين نصوص تحاور دريدا ويحاور فيها هو مفكرين لامعين من عيار جانكليفيتش وحنة أرندت، مسألة الصفح و ما يرتبط بها من مفاهيم كالمصالحة والتسامح والاعتذار والندم والتوبة والرحمة، إضافة إلى الأشكال المؤسسية للصفح مثل العفو والعفو العام. ولا يخفى ما لهذه القضية اليوم من أهمية. ذلك أن من يجيل النظر في مختلف مشاهد التوبة والاعتراف أو الاعتذارات التي تتناسل على المسرح الجيوسياسي منذ الحرب الأخيرة، وبشكل متسارع منذ بضع سنوات، لا يلبث أن يرى إقبالا متزايداً على طلب"الصفح"، ليس من قبل الأفراد فحسب، بل أيضا من طرف طوائف بأكملها، ومن طرف ممثلي التراتبيات الكنسية، فضلا عن الملوك ورؤساء الدول. والمثير أن هؤلاء يطلبون الصفح بلغة إبراهيمية قد لا تكون هي لغة الدين المهيمن في مجتمعاتهم اليابان، كوريا، إلا أن هذه اللغة أضحت اليوم هي اللهجة الكونية للقانون والسياسة. وعلى رغم ذلك لا ينبغي لهذا أن ينسينا الأصول الدينية لمفهوم الصفح، وبالضبط الأصول الإبراهيمية. وهنا يتوقف دريدا عند مفارقة أولى تطبع هذه الأصول في ما يتعلق بهذه المسألة. ذلك أن التراث الديني تؤطره هنا مسلّمتان يبدو أنهما لا تخلوان من توتر: أولاهما أننا لا نستطيع الصفح أو طلبه من الإله إلا إذا اعترف الجاني، وطلب الصفح، وتاب وتغيّر، والتزم بسلوك طريق مغاير، ووعد بأن يصبح شخصا آخر، لكن، من جهة أخرى، يُمنح الصفح كعفو مطلق، أي كعفو لا مشروط، عفو بلا توبة ولا تبدل ولا تبادل، عفو بلا مقابل. منطقان متعارضان، اذاً، يحكمان الموروث الإبراهيمي: صفح مشروط، أو عفو لا مشروط. المفارقة الثانية التي تطبع الصفح هي كونه لا يستقيم إلا بتذكر الشر واستحضاره، كما وقع بالفعل، من غير تلطيف ولا تخفيف. فإذا كنت لن أصفح إلا عمّا يقبل الصفح، أي الإساءات الطفيفة والخطيئة غير الموجبة للموت الصغائر فإنني لن أفعل شيئا يستحق اسم الصفح. فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مقدماً. من هنا تنشأ المفارقة: لا صفح إلا لما لا يقبل الصفح الكبائر. عندما لا أقوم إلا بما هو ممكن، فإنني لا أفعل شيئا، ولا أقرر بصدد أي شيء، بل أترك برنامج امكانات ينبسط ويتطور أمامي. عندما لا يحدث إلا ما هو ممكن، فلا شيء يحدث بالمعنى القوي للكلمة. الصفح الوحيد الذي يكون ممكنا هو الصفح المستحيل. فدريدا، كما يقول ادغار موران، يعزل الصفح عن سياقاته. إذ أنه يرى أننا إذا أرجعنا الصفح إلى وظيفته الأخلاقية أو النفعية، فانه يغدو وظيفياً ويفقد خاصيته المميزة. فنحن ينبغي أن نميز الصفح عن المصالحة. ففي المصالحة"يفهم"الضحية المجرم ويتفهمه، ويحاوره و"يتفاهم معه"، من أجل رأب الصدع، من أجل"تجاوز"الشر، من أجل غاية. لكن الصفح متى ارتبط بغاية لم يعد صفحاً. ف"كلما كان الصفح في خدمة غاية محددة، وكلما نزع إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، فانه لا يكون خالصاً"، لا يكون صفحاً. المصالحة تستهدف"طي صفحة الماضي"، أما الصفح فيستلزم ذاكرة فعالة تستحضر الشر ومعه الجاني. إن تكاثر مشاهد التوبة والصفح المطلوب اليوم يدل على حاجة مستعجلة للذاكرة، وعلى الرغبة في التوجه الصريح نحو الماضي. على هذا النحو يعمل الصفح ضد المؤسسة التي تنزع بطبيعتها إلى"تدبير النسيان"، وأحيانا تحت غطاء الاحتفال بالبدايات والتسامي بها و"تخليدها"المتواتر. صرح مانديلا ذات مرة:"نعم للصفح، لا للنسيان".