لست أدري ان كان ما سأسجله في هذه العجالة هو من باب التمني أو مجرد قراءة تستنتج ان العد العكسي لسيطرة تيار المحافظين الجدد قد بدأ وان هذه السيطرة آخذة في الانكفاء. صحيح ان التمني قد يلون بعض استنتاجات هذه القراءة الاولية للمشهد الاميركي الراهن، الا ان بعض الاستنتاجات ان لم يكن معظمها، مستند الى تطورات متسارعة لا مفر منها، اما ان تعجل في انهاء عهد المحافظين الجدد او ان تمعن ادارة الرئيس بوش - تشيني في الاستمرار في صد الحقائق والابقاء على حالة الانكار التي تنتقل احيانا من كونها تزمتاً لتصبح هذياناً. ان الادلة تتزايد على ان حالة الانكار آخذة في تهديد عمل مؤسسات دستورية قائمة، كما في اشاعة اجواء من القلق على مصير التعامل الديموقراطي ما يجعل نظام فصل السلطات عرضة للتآكل، ان لم يكن للاهتراء. من هذا المنظور يمكن اعتبار تسمية جون بولتون اختذالا لتوسيع رقعة نفوذ اليمين المتصهين وصفاقة تمادي محاولة المحافظين الجدد بعدم الاكتفاء بما أنجزوه من تشديد القبضة على اجهزة توجيه السياسات الاستراتيجية والدولية، الى المضي في محاولة اخضاع السلطة القضائية لخدمة حلفائهم في"زنار التوراة"المتمثل بما يسمى"المسيحيين الصهاينة". إلا ان تراكم ما قاموا وما زالوا يقومون به من خروقات وتجاوزات فاقعة للقوانين الدولية والثوابت الشرعية السائدة أخذ يدفع عدداً متزايداً من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، أمثال هيغل وتشافي وحتى لوغر وماكين الى أن يشاركوا أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطيين في التصدي لاستفزاز الرئيس بوش من خلال تسميته جون بولتون سفيراً للولايات المتحدة لدى الاممالمتحدة. نقول"استفزاز"لا لكونه محصوراً في الوضع الداخلي، بل لكونه يوصل رسالة بمنتهى الوضوح الى المجتمع الدولي مفادها ان عملية تهميش الاممالمتحدة وتعطيل قراراتها تتطلب سفيراً يمارس الاملاء ويستهين بشرعية هذه المنظمة الدولية واهانتها عند الضرورة، ويكون الآلة المنفذة لارادة فريق الحكم الذي تمرس بولتون في مدرسته ومتمماً لما قام به المحافظون الجدد من تخطيط للحرب على العراق ومن ثم عجز هذا الفريق على فهم التحديات التي تبرز في اعقاب النزاع، ما يفسر النزيف المتواصل والفوضى العراقية الراهنة ويؤكد فقداناً فاضحاً لأي تصور عقلاني ومن ثم التستر على التلفيقات والاكاذيب التي ميزت عقائدية غزو العراق ودوافعه، الامر الذي أدى الى جذب كل من اراد تصفية حسابات انتقامية مع الاميركيين الى ساحة العراق ليمارسوا ارهابهم و يشوهوا استقامة معارضة الاحتلال ومقاومته. ان محاولة تمرير ترشيح جون بولتون ليمثل الولاياتالمتحدة في الاممالمتحدة شكلت صدمة عنيفة أدت الى قناعة مفادها انه اذا مر التعيين نتيجة مسالمة مع الادارة عندئذ تصبح الاستباحة نمطاً متواصلاً. استتبع هذه الصدمة وعي متنام بأن مثل هذا التمادي في الاستهتار بالقيم التي اسست لحقوق المواطنين الدستورية ولحق السلطة التشريعية بالمساءلة ولحق مجلس الشيوخ بالموافقة والقبول هو شطط موقت يجب ان لا يدوم، وان على المؤسسات الدستورية - وفي هذا الموضوع مجلس الشيوخ - ان يتصدى لهذه التسمية المريبة وان توصل الى الرئيس بوش ان الموافقة لا يمكن ان تتحول الى رضوخ. و كون هذا الوعي ركز معارضته على حقائق وعلى أدلة موثقة دفع بعض انصار الرئيس بوش الى التشكيك في حكمة الذين دفعوا الرئيس بوش، كما أخذوا على عاتقهم النفاذ الى حقائق الدوافع لما خطط له المحافظون الجدد من سياسات أدت الى تعاطي الكثير من دول العالم - حتى من حلفاء تقليديين لاميركا - على اساس الخوف من شراسة املاءاتها بدلا من الاقتناع بسلامة وصحة سياساتها وشرعية اهدافها. وبدأ فريق مهم داخل الحزب الجمهوري يستوعب خطورة استئثار قادة التطرف اليميني امثال وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني، وبدأت شروخات تظهر، خصوصاً وان معتدلي الحزب الجمهوري صمموا على أن الولاء الحزبي لا يعني الانجراف الى ممارسات وسياسات تنافي معتقداتهم وتستند على تزوير عقائدي يعتبر ان غطرسة القيادة من شأنها ان تؤول الى التمرد عليها. كما ان تحالف فريق المحافظين الجدد مع نائب الرئيس تشيني حال دون استكمال التحقيقات في جرائم سجن أبو غريب واعفاء القادة العسكريين من المحاكمة وحصرها بمعاقبة الجنود العاديين، وضابطة من الصف الثاني ما دفع لجان حقوق الانسان ونقابات المحامين الى القول أن الجيش الاميركي لا يمكن ان يقوم بنفسه بالتحقيق، ودعوة هذه الشرائح الى المطالبة بأن التحقيق يجب ان يتم من خلال سلطات قضائية ولجان الكونغرس كون وزير الدفاع هو نفسه الذي اجاز لقادة امثال الجنرال شافيز تعميم ثقافة - اذا جاز وصفها هكذا - استباحة كرامة السجناء واذلالهم العلني وارتكاب الجرائم المقززة التي تشكل وصمة عار في سجل الاحتلال الاميركي للعراق. ان هذه الانتهاكات المبرمجة التي تقوم بها القوات الاميركية في العراق وافغانستان غوانتانامو آخذة بتسليط الاضواء على ثغرات تتسلل من خلالها تحركات انقلابية تصبح في نظر القوى السياسية خطراً حقيقيا على الامن القومي الاميركي وقيم الولاياتالمتحدة الآيلة الى الشفافية، وبضرورة الفصل بين السلطات كمسلمة وتعريف للسلوك الديموقراطي، اضافة الى كونها سمعة الولاياتالمتحدة عالمياً. على اثر تنامي هذا الوعي بخطورة الدور الذي يلعبه فريق المحافظين الجدد، تجرأت قوى عدة من ضمن الحزب الحاكم على مجابهة الادارة والطلب اليها ان تخرج من كونها سجينة لهذا التحالف الذي زور الوثائق وهدد - كما فعل ولفوفيتز وبولتون - المهنيين في سلكي الاستخبارات والديبلوماسية ان يحرفوا قناعاتهم واستنتاجاتهم الموضوعية لمآرب ذلك الفريق العقائدية المنبوذة اصلا، ولأهداف"رسوليتهم"المغامرة التي من أهدافها طمس التزوير وفضيحة الاكاذيب وتشويه المعلومات من خلال دعوى هذا الفريق الملفقة للاصلاح والديموقراطية. لعل الرأي العام الاميركي والدولي تتخدر ذاكرته فيرفض لهم حق الاستمرار باملاءاتهم المذلة وسياساتهم الاستفزازية وتعميمهم لانصاف الحقائق بغية التمويه والتحريف، ولعل امتناع وزير الخارجية الاميركي السابق كولن باول عن المشاركة في تأييد الرئيس بوش بتسمية بولتون، والتي كانت مصداقيته أولى ضحايا قبضة المحافظين الجدد على مفاصل رسم استراتيجية السياسة الدولية ومخطط غزو العراق بذرائع كاذبة. ان احتقار هذا الفريق اليميني المتصهين للشرعية الدولية وصفاقة ادعاءاتهم ان الولاياتالمتحدة بنظرهم هي وحدها المؤهلة لقيادة عملية هندسة وتنظيم العالم، تفسر الى حد كبير تداعيات تسمية احد اركان المحافظين الجدد لمهمة إزالة حق تقرير المصير للعالم. وهذا الاستكبار اللامعقول أدى الى استفاقة الوجدان الاميركي، ما قد يجعل ما كنا نتمناه، والذي كان مستحيلا، امراً ممكنا وان يؤدي الى بداية العد العكسي. صحيح ان السياسة الدولية لها تأثير مهم على مواقف واتجاهات الرأي العام، وصحيح ان تداعيات غزو العراق والتعقيدات التي افرزتها والتزويرات التي أضعفت الالتفاف الشعبي الدولي حولها لا تتمكن وحدها ان تدفع العد العكسي نحو النتائج المرجوة في انهاء ما اسمته بالقبضة الخانقة. وصحيح ان فرص رفض تسمية بولتون للامم المتحدة صارت محتملة، وان لم تكن بعد مضمونة، وصحيح ان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ازاحت من صفوفها ازدواجية أو محاولة تقليص قيادتها للديبلوماسية الاميركية كما حصل، ومن خلال بولتون أثناء وزارة كولن باول، وصحيح ايضا ان التحقيق الجاري لبولتون واحتمالات رفض تعيينه يكون صفعة للمحافظين الجدد، الا ان السياسات الداخلية والاجتماعية والاقتصادية هي التي تستطيع حسم اخراج الفريق اليميني بمختلف اطيافه من مواقع السلطة التي يسيطر عليها الان. الجدير بالاشارة ان عدم امكان اعادة ترشيح جورج بوش لمرة ثالثة قد تدفع المعتدلين في الحزب الجمهوري الى التوجه للتيار العام بأن استعادة تراث السياسة المحافظة تأبى المغامرة والتهور، وان تداعيات الحادي عشر من أيلول سبتمبر يجب ان لا تكون على حساب الحقوق المدنية، وان استعادة المعقولية في التعامل مع المجتمع الدولي هو الضامن لاحترام العالم للسياسات الاميركية وان اختلف مع بعضها بدلاً من الحالة التي يسودها الاستياء والغضب العارم من الاملاءات الاميركية التي يخضع لها تملقاً تمهيداً للتمرد عليها. إزاء هذا المخاض الذي تعيشه الولاياتالمتحدة حالياً، نجد ان التحالف بين"المسيحيين الصهاينة"وجماعات"زنار التوراة"وفريق المحافظين الجدد والذي استند على استقواء الواحد بالاخر، صار معرضاً للانفكاك رغم محاولات راعي هذا التحالف نائب الرئيس تشيني، كون الاولويات مختلفة، وبدأ الشعور يسود بأن تعارض الاولويات هذا تحول الى تقوقع كل منهم خوفاً على ان ينسحب ضعف احد الفرقاء الى اضعاف موقع الفريق الاخر. وهذا أصبح مرشحاً للحصول بخاصة اذا هزم المحافظون الجدد في ايصال بولتون الى الاممالمتحدة. فللفريق اليميني المتصهين"المسيحي"أولويات في ان يجعل القضاة الجدد خريجو مدرستهم الدينية والاجتماعية التي تعمل على اجهاض كل القوانين والتشريعات التي رسخت الضمان الاجتماعي والتأمينات الصحية والفصل بين الدين والدولة، ومكنت المساواة بين الرجل والمرأة، هذا الاجهاض قانوناً سارياً. وكانت احداث 11 أيلول لاحمة لتحالف هذين الفريقين، لكن تجاوزات كل منهما أضعفت الاخر، كما ان غرور كل من الفريقين جعلاهما يبتعدان الواحد عن الاخر باللاوعي لأن التحالف صار هشاً نتيجة الاصرار المتزايد على المساءلة الجادة من ناحية وعلى تجلي الشفافية من ناحية ثانية. كما ان الامتعاض المتزايد من كلا الفريقين ومغامراتهما العشوائية ارهقت معظم المواطنين وزادت من قلقهم على مستقبلهم في بلادهم وفي عالمهم. اذا يمكننا الاستنتاج ان العد العكسي قد بدأ فعلا. وهذا ليس من باب التمني فقط بل من الاضاءة التي توفرها قوى التحدي النامية. ورغم انه لا يجوز التقليل من نفوذ وقدرة الرئيس بوش ونائبه في الابقاء على لحمة التحالف الا ان رجحان قوى التصدي لها هي التي تدفعنا الى التفاؤل بانفراجات محتملة، لكن غير مضمونة الصيرورة. في كلتا الحالتين فإن العد العكسي بدأ وقد تتسارع خطواته اذا نجحت المعارضة في ازاحة بولتون، عندئذ يكون الاختراق المطلوب قد حصل. كاتب وصحافي عربي.