قلما شهدت منطقة في العالم الثالث ما شهدته دول المنطقة العربية خلال النصف الاخير من القرن الماضي من تدفق هائل للأموال نتيجة تواجد النفط في باطن أراضيها وتزايد الحاجة في استخدامه لتوليد الطاقة. ومع تراكم هذا الثراء في المنطقة، بزغت مشاكل اقتصادية عدة، وهي في مجملها تقع بين تحديد اولويات ما يتوجب الصرف عليه من اجل إحداث التغير التنموي المطلوب في بلد يحتاج الى كل شيء، وبين تحديد سقف الطاقة الاستيعابية للمشاريع والخطط التنموية التي يراد تنفيذها. وما بين هذين الحدين حصلت العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وهي في واقع الامر من الامور التي تحدث عادة في سياق تطبيق خطط تنموية طموحة، مصحوبة بتوجه سياسي يسعى لاختزال المجال الزمني المثالي اللازم لتجنب الاختناقات, التي غالباً ما قد تحصل في مثل هذه الاوضاع. ومع اقرارنا باختلاف الحالات والصيغ والاوضاع بين الدول العربية التي تأثرت بهذه الحالة التنموية، فالإشكالات التي نتجت عن الفورة النفطية كانت متشابهة الى حد بعيد في النوع، وإن اختلفت في الكم. المشكلة الاولى حصلت في تغيير البنية الاجتماعية والتي اتخذت مناحي عدة بحسب المجتمعات. ففي الدول العربية التي عانت ولا تزال من قصور نوعي وكمي في بعضٍ منها في كتلتها البشرية، ادت الدورة الاقتصادية فيها الى تزايد غير طبيعي في مستوى الدخل الفردي ومن ثم الى تراكم ثروات فردية هائلة، ما حول الاقتصاد الوطني الى ما يشبه الاقتصاد الريعي. ولم يعد مبدأ لا اجر لمن لا يعمل مطبقاً سوى على العمالة الوافدة اليها. اما في الاقطار العربية التي كانت تتمتع بتوازن طبيعي بين مواردها المادية والبشرية ، فإن عملية التنمية غير المتوازنة والنشاط الانمائي المقيد بغياب الديمقراطية والموجه بحسب رغبات القيادة السياسية و شعاراتها الانية دون التقيد بالمستلزمات العلمية، قد أدت الى تغير البنية الاجتماعية باتجاه الهجرة من الريف الى المدينة وما ترتب على ذلك من تدهور في المجتمع المدني لعدم استطاعة الدولة استيعاب التحول الاجتماعي والخدماتي والسياسي الذي نتج عن ذلك. كما فقد المجتمع شريحته الريفية بكل ما لها من محاسن وتأثير أيجابي على مسيرة المجتمع وتطوره المتوازن. المشكلة الثانية كانت في التعامل مع الثروات، إن كان على الصعيد الشخصي او على صعيد الدولة. ففي الحالة الاولى، ولعدم استطاعة السوق المحلية استيعاب هذه الاموال تحول الاستثمار نحو الخارج. وبسبب القدرة الشرائية لاصحاب الثروات ازدادت حصة الاقتصاد الاستهلاكي منها على حساب الاقتصاد المنتج والمحلي في شكل خاص. اما الحكومات، فقد وجدت في هذا التراكم الهائل فرصة لحماية مواقعها والطبقة المستفيدة منها، فعملت على تقوية اجهزة الحماية والامن، وذهب الانفاق الاعظم باتجاه التسليح والعتاد العسكري. أدى ذلك الى اضعاف العملية الديموقراطية، كما الى تجاوز القانون والى تغييب الحريات وحقوق المواطنة وما الى ذلك من مفاهيم هي في الاساس المعايير الحقيقية المستهدفة من عملية الانماء والتعمير. أما الإشكال الآخر الذي توالد مع هذا السلوك، ولربما كان الاهم والاكثر أساءة للنهضة التنموية، فتمثل بظهور"ثقافة الفساد"التي كان لها ابعد الاثر على عملية التنمية، وذلك من طريق الاستيلاء غير المشروع على اموال كان الواجب تخصيصها لعملية التنمية، وفي شكل خاص لتنمية وتأهيل الموارد البشرية في الوطن العربي والتي هي الخاسر الاكبر في هذه العملية. تقدر بعض حسابات الدخل القومي، أن المتراكم من اجمالي الدخل القومي العربي للنصف الاخير من القرن الماضي اي بحدود السنوات 1950 الى 2000 بنحو3000 بليون دولار اي 3 تريليون دولار. كما يقدر ما صرف على التسليح من هذا المبلغ بحدود ألف بليون دولار. أما عملية اعمار البنى التحتية وما خصص للقطاعات الصناعية والزراعية والخدمية فقد استهلك بحدود الالف بليون دولار ايضاً، خلال الفترة ذاتها. أما الالف بليون الثالثة فيقدر انها ذهبت الى أشخاص ومؤسسات عملوا وسعوا من اجل"تسهيل وتيسير"العمليات والاعمال المطلوبة في الشقيين الاولين. أن صحت هذه التقديرات، وليس هنالك ما يدعو للشك فيها أو على الاقل في حصص توزيعها، فهنالك ما لا يقل عن ثلث ثروة هذه الامة أقصيت عن الدورة الانمائية مما حرمها وشعوبها من فرص استثمارية وتنموية حقيقية. ولو تم توزيع هذه الاموال مباشرة على افراد الشعب، لارتفع متوسط الدخل القومي لكل فرد عربي بمقدار 200 دولار سنوياً لكل سنة من سنوات نصف القرن الماضي. أما لو استثمرت هذه الاموال الالف بليون دولار الاضافية في تنمية مشاريع معينة في الدول العربية الاكثر فقراً، لاستطعنا على سبيل المثال توفير الاكتفاء الذاتي في الثروة الزراعية والحيوانية. وكان يمكن الإفادة القصوى من الموارد المائية بما يفي احتياجات الدول العربية المحرومة من الثروة المائية. أما في مجال التعليم، فكان في الإمكان ومن خلال استخدام هذه الاموال المهدورة، محو الامية في العالم العربي، اضافة الى تخصيص مقعد جامعي لكل فرد بالغ في هذه الامة او تأهيله تقنياً لملء موقع عمل متوافر له في الشبكة الاقتصادية. إنما التأثير الاهم والاكثر خطورة، فهو ما ادت إليه هذه السياسة من إلغاء للمنافسة المشروعة، وزيادة اسعار كلف المشاريع والتجهيزات، وأبعاد الكفاءات المهنية من سوق العمل والتنافس، ويصب كل ذلك في نهاية الامر بما يؤسس للفساد في الادارات الرسمية والمؤسسات الخاصة. إن الغاية النهائية للنشاط الانمائي والاقتصادي التنموي هي خلق مجتمع متكامل، لمواطنيه حقوق في العمل وفرص متكافئة للابداع في مناخ ديموقراطي وحر، وعليهم واجبات يمليها عليهم شرف الانتماء والمواطنة. * استشاري في التخطيط والتنمية.