ابتداء من الاسبوع المقبل، سيصبح لبنان ساحة لشبه ورشة دولية تتقاطع فيها فرق التحقيق مع فرق التحقق والمراقبة، وسيدخل حقبة جديدة في تاريخه وفي علاقاته الثنائية مع سورية. هذه فرصة ثمينة للبنان رغم ما يعتريها من هشاشة وما يحدق بها من خطر. فالذين تقع على اكتافهم مسؤولية البيئة التي ولّدت العمل الارهابي الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري لن يرتاحوا للورشة الدولية وقد يسعون الى تعطيلها أو تحويل الأنظار عنها. والذين يتخوفون من ان تؤدي الورشة الى تقويض سلطاتهم وتآكل مصالحهم قد يراهنون على زرع الفتنة الطائفية. لذلك ستكون المرحلة المقبلة امتحاناً للبنانيين أكثر مما هي لسورية التي ستغادر قواتها واستخباراتها الثلثاء المقبل، حسب وعودها. لكن سورية ستبقى في الامتحان أيضاً الى حين حسم علاقتها بوضوح مع"حزب الله"، وفي شأن مزارع شبعا، ومع قيادات الاجهزة الأمنية اللبنانية التي تعاملت معها. فما لم تحسم سورية هذه الملفات لن تعلن الأممالمتحدة ان دمشق نفذت القرار 1559 ولن تدخل دمشق مرحلة التطبيع مع الأسرة الدولية. وما لم تنفذ الحكومة اللبنانية تعهداتها المعنية بالانتخابات وإقالة القيادات الأمنية والتعاون مع التحقيق، ستغرق في دوامة لن تنقذها منها الوعود والخطوات الايجابية ولا المهاترات غير الضرورية. وزير الخارجية اللبناني محمود حمود تحدى أكثر من مرة ما نقل عن لسان سفيره في واشنطن فريد عبود لجهة زعمه انه تسلم التعليمات من وزارة الخارجية عندما تقدم بتعديلات على مشروع قرار في مجلس الأمن شملت حذف صفة الارهاب عن عملية اغتيال الحريري. طالب حمود بالتسجيل والأدلة على ما قاله عبود ل"الحياة"بأن التعديلات جاءت من بيروت حسب التقليد الديبلوماسي"في برقية من بيروت من وزارة الخارجية". التسجيل موجود، وعبود قال تكراراً:"نحن ننفذ تعليمات وزارة الخارجية"، وأكد ان"هذه تعليمات رسمية ننفذها، أتت من وزارة الخارجية"التسجيل موجود، والسجل موجود ايضاً في التعديلات التي قدمها الوفد اللبناني الذي ترأسه الأمين العام لوزارة الخارجية بطرس عساكر وشارك فيه فريد عبود. تملص عساكر كلياً من التعديلات، وقال:"كل ورقة غير ممضية وغير موقعة لا قيمة لها". عبود قال ان التعديلات جاءت في"برقية"من وزارة الخارجية. فإذا كانت البرقية موجودة فمن السهل التعرف الى ما إذا كانت تضمنت حذف صفة"الارهابية"عن عملية الاغتيال، أو إذا كان فريد عبود حذف صفة"الارهابية"بمبادرة شخصية أو تنفيذاً لتعليمات غير تعليمات وزارة الخارجية. وزير الخارجية اللبناني هو المسؤول عن ايضاح ما حدث وعن محاسبة من تصرف بغير تعليماته. كلام عبود عن"البرقية"موجود في تسجيل صوتي لما قاله. وزير الخارجية هو الطرف المطالب الآن بتقديم البرقية كإثبات علني على ما تضمنته أو الإقرار بعدم وجودها وأخذ الإجراءات اللازمة. فالمهاترات والتشكيك بالصدقية المهنية للآخرين يجب ان تتوقف. والأهم ان يتوقف نمط التعاطي مع القضايا المهمة المطروحة دولياً بمثل هذا التطاول على الحقيقة. عندما تبدأ الفرق الدولية أعمالها في لبنان ستزداد الحاجة الى مهنية وزارة الخارجية اللبنانية وصدقية ديبلوماسييها، كما الى تعاون جميع السلطات اللبنانية تعاوناً كاملاً مع التحقيق الدولي المستقل في العمل الإرهابي. فالأسرة الدولية ليست في مزاج التعاطف مع الحكومة اللبنانية أو مع اجهزتها الأمنية لأن القضية ذات أهمية وجدية. القرار 1595، الذي سبقته التعديلات اللبنانية التي أثارت وتثير الجدل - شكل"اللجنة المستقلة الدولية للتحقيق"واعطاها صلاحية استجواب جميع المسؤولين وزيارة أي مواقع ضرورية للتحقيق وطالب جميع الدول بالتعاون معها. الأمانة العامة على وشك تعيين مفوض عام لهذه اللجنة التي ستضم ما يقارب مئة شخص وتتمتع بصلاحيات لا سابقة لها. ولأن هناك ضغوطاً دولية على الأمانة العامة للبدء سريعاً بالتحقيق، يرجح ان يتوجه المفوض العام الى لبنان في غضون اسبوع من تعيينه للبدء بوضع التدابير اللازمة لعمل اللجنة، ستسبقه أو سترافقه"بعثة تقويم"للنواحي العملية والأمنية واجراء المشاورات الضرورية مع السلطات المختصة. ولن ينتظر المفوض العام استكمال تشكيل اللجنة ليبدأ عمله، بل ان الفكرة هي ان يصار الى ما يسمى"الانتشار المتتالي بأفواج"حيث يتوجه الخبراء الى لبنان فوجاً بعد الآخر لبدء العمل فوراً بدلاً من الانتظار لشهرين كما كان متوقعاً. هذا يعني ان لجنة التحقيق في العمل الارهابي ستبدأ اعمالها"الخفيفة"في غضون اسبوعين على ان تُطلق اعمالها"الثقيلة"بعد استكمال تشكيل الفريق، على الأرجح منتصف الشهر المقبل. ما ستتوصل اليه هذه اللجنة من استنتاجات سيشكل اسس خطوات المحاكمات. فهي لجنة التحقيق والبحث عن الحقيقة وليست لجنة استقصاء الحقائق. لديها وسائل الإدانة والعقاب لأنها وليدة مجلس الأمن، وهو وراءها. وهذا المجلس التزم في قراره 1595 اعتبار عملية الاغتيال عملاً ارهابياً ما يعني استحقاقات لا يمكن تجاوزها، لذلك جاءت مساعي ومحاولات حذف صفة"الارهابية"عن العمل من مشروع القرار قبل تبنيه. فهذه استحقاقات يعتبرها البعض مصيرية. ولذا الخوف والتخوف لدى البعض في لبنان وسورية من وسائل العمل والتعامل مع فرق التحقيق التابعة للجنة المستقلة الدولية. لذلك في المقابل، كان الحرص الدولي الكبير على ابلاغ كل من يعنيه الأمر أن أي تلاعب أو تهديد أو تعطيل لفريق اللجنة المستقلة سيؤخذ بجدية بالغة، وبمحاسبة. فهذا فريق فوق العادة بصلاحيات فوق العادة بمهمات فوق العادة وباستحقاقات فوق العادة. الفريق الدولي الآخر الذي سيدخل الساحة اللبنانية، الأرجح الاسبوع المقبل، هو فريق التحقق من الانسحابات السورية، جيشاً واستخبارات عسكرية. اعماله ستستغرق اسابيع وليس اياماً مما يبطل، الى حد ما، مفعول تأجيل تقديم تقرير مبعوث الأمين العام الخاص لمراقبة تنفيذ القرار 1559، تيري رود لارسن، الى مجلس الأمن من الثلثاء الماضي الى الثلثاء المقبل. هذا التأجيل جاء نتيجة طلب الرئيس السوري بشار الأسد أثناء اتصال هاتفي له مع الأمين العام كوفي انان. ووافق انان من دون استشارة مجلس الأمن، ما أثار احتجاج الرئيس الفرنسي جاك شيراك ووزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس. حصيلة الأمر ان تقرير رود لارسن لن يعلن ان سورية نفذت القرار 1559 بمجرد ابلاغها مجلس الأمن انها استكملت الانسحابات، وانما سيأخذ علماً بايجابيات خطواتها وتعهداتها. فدمشق لن تحصل على صك دولي يعترف لها بالامتثال لما طالب به القرار 1559 ويبرئها من نفوذها الماضي والحالي والمستقبلي في لبنان بمجرد اعلانها اتمام الانسحابات. فهي تحت مجهر الرقابة بصورة أعمق وأوسع تتعدى حتى اعلان فريق التحقق بأن الانسحابات كاملة بما في ذلك انسحاب الاستخبارات العسكرية. فالنفوذ يُراقب بأكثر من وسيلة وهو جزء من القرار 1559 الذي طالب بوقف التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، بما فيها الانتخابات، من دون اقتصاره عليها. لذلك يرى رود لارسن ان من صلاحياته المطالبة باجراء الانتخابات النيابية في موعدها. الإدارة الأميركية بدورها جعلت من إجراء الانتخابات في موعدها أولوية ضرورية أبرزها الرئيس جورج بوش كمطلب لا تراجع عنه. سورية متهمة بأنها وراء محاولات تأخير الانتخابات لأنها تمتلك الأكثرية بين الاجهزة اللبنانية الحاكمة مع ان الأكثرية الشعبية اللبنانية ضد امتلاكها تلك الأكثرية وذلك القدر من النفوذ. لذلك فإن دمشق ستتحمل مسؤولية إفشال اجراء الانتخابات اللبنانية في موعدها وستتحمل تلك المسؤولية. فتقارير رود لارسن لن تبرئ دشمق من النفوذ لأن لارسن لا يملك سلطة التبرئة إذا ما فشلت جهود اجراء انتخابات نيابية مستقلة حرة بمراقبة دولية في الموعد المحدد من دون تدخل أو تأجيل. الانتخابات ستأتي بالفريق الدولي الثالث الى لبنان وهو فريق مراقبة الانتخابات. أما الفريق الرابع فهو الفريق الدائم أي فريق تيري رود لارسن المكلف مراقبة تنفيذ جميع بنود القرار 1559. بين هذه البنود مطالبة مجلس الأمن بحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها. حتى الآن، أوصى لارسن بأن هذا الأمر مؤجل حتى لاحقاً. وقال بوش ايضاً انه الأولوية الثانية بعد الانتخابات. لكن حل الميليشيات ونزع سلاحها ليسا أمراً يقتصر على السلطات اللبنانية وانما يدخل في خانة العلاقة السورية مع لبنان ومع"حزب الله"ومع مزارع شبعا ومع الأسرة الدولية. موقف الأسرة الدولية هو ان مزارع شبعا أمر مفروغ منه اذ انها خارج"الخط الأزرق"الذي رسمته الأممالمتحدة وعُرف"بخط لارسن"، بعد استكمال المفاوضات على تنفيذ القرار 425. انها أراض تحتلها اسرائيل، حسب الموقف الدولي الرسمي الذي اعتمده مجلس الأمن، لكنها أراض في المنطقة الواقعة في ولاية القوة الدولية لفك الاشتباك بين سورية واسرائيل اندوف وبالتالي فهي أراض سورية بغض النظر عن ملكيتها اللبنانية. موقف الأسرة الدولية هو انه إذا أرادت سورية اخراج مزارع شبعا من اعتبارها أراضي سورية فأمامها خياران: إما تقديم وثائق الملكية اللبنانية للمزارع الى مجلس الأمن بخرائط تدعم تلك الملكية أو الموافقة على اعادة فتح ولاية فك الاشتباك اندوف للتفاوض مع اسرائيل على اخراج شبعا عن منطقة ولاية القوة الدولية لفك الاشتباك. وأمامها ايضاً خيار الاتفاق الثنائي مع لبنان على التسليم بملكية لبنانية للاراضي انما مع ابقاء المزارع في ولاية اندوف لأن فتح ملف تلك الولاية ليس مستحباً على الاطلاق من جانب سورية. فالأمر عائد الى دمشق وليس مقبولاً استمرار سورية في مواقفها السابقة نحو مزارع شبعا، اذ انها تعتبر تحريضية ل"حزب الله"ضد السلطة السيادية لحكومة لبنانية منتخبة بإشراف دولي. فاستخدام مزارع شبعا بات بدعة سورية فات عهدها، بل ان المضي بها سينقلب على دمشق بصورة لا تتصورها. أما الكلام عن مناطق أخرى في لبنان تحول دون الاعتراف بترسيم حدوده مع اسرائيل، فإنه يؤخذ على انه محاولة أخرى لتجنب الكلام عن ضرورة ترسيم الحدود اللبنانية السورية. وهذا يطبق ايضاً على"حزب الله"اذ انه مطالب ايضاً بالاختيار الواضح لهويته ومكانته ودوره في لبنان واقليمياً، فإما انه حزب لبناني وإما انه أداة اقليمية. هذا خياره وهو تحت المراقبة دولياً والامتحان لبنانياً. بعد الانتخابات، وعند بروز دولة ذات صلاحيات سيادية، لا حاجة الى ميليشيات سوى للانقلاب على سيادة الدولة والحكومة المنتخبة. وهذا مرفوض. إن ترسيم الحدود اللبنانية مع كل من اسرائيل وسورية ليس خيانة للعروبة وانما هو نصر لمقاومة كلاسيكية ضد اسرائيل ولانتفاضة الحداثة ضد سورية. فلا ضرورة للمزايدات أو للاعتذار، انه عهد جديد. لا ضرورة للتظاهر ولا للخوف، فهذا موعد مع احترام متبادل غير مألوف ومع مسيرة الى غد مريح.