"اليزابيث كوستيلو" آخر كتاب صدر للكاتب ج.م. كوتسي، حائز جائزة نوبل في العام المنصرم، وهو مختلف كل الاختلاف عن رواياته السابقة، وقد يكون أعمقها وأكثرها غموضاً وتعقيداً. بطلة الرواية كاتبة روايات شهيرة، مثل كوتسي نفسه، حائزة عدداً من الجوائز، أيضاً مثل كوتسي، وتعيش مثله في أستراليا. لذلك يتساءل القارئ، ومن غير أن يتأكد من الجواب، إلى أي مدى تعبّر آراؤها عن شخصية ابتكرها الكاتب، أم أنها وسيلة اتخذها ليعيرها أفكاره هو مواربة، وسيلة استخدمها كوتسي لعرض أفكاره وإخفاء كونها أفكاره. وقد لا تكون أفكاره، إلا أن كوستيلو تدافع عنها بحماسة وحرارة تجعلنا نظن أنها قد تكون أفكاره. ثم إن فيها براعة نادرة في التهرب من تبني أفكار مثيرة للجدل. بلسان بطلته كوستيلو ينتقد العقل، أو الحاجة في الغرب إلى المعتقدات والمبادئ، من غير أن يتبنى فعلاً هذه الآراء. كما أنه يعرض أفكار كوستيلو ونقيضها على ألسنة الذين يناقشونها، فلا يعرف القارئ تماماً ما هي أفكار الكاتب نفسه. وهكذا يتركنا كوتسي نتأرجح بين الشك واليقين. ذلك أن هذه الرواية رواية أفكار أكثر منها رواية أحداث تترابط وتتطور في عقدة فنية. فهي تنقسم إلى ثمانية "دروس"، فلا تخفي هذه التسمية لفصولها أن هدف الكاتب هو التعبير عن أفكار وآراء معيّنة من خلال محاضرات تلقيها في بعض جامعات أميركا بطلته اليزابيث كوستيلو نستثني منها الدرس الأخير "البوابة" ولنا إليه عودة. إلا أن الكاتب عرف كيف يبعد عن الرواية جفاف الفكر التجريدي، وذلك بأن يصف فيها جوانب من الطبيعة، أو قصة حب في الدرس الأول، أو رحلة بحرية أو ذكريات مضاجعة في الدرس الثاني. أو يصف كوتسي تصرفات بطلته مع أولادها في طفولتهم، ومع الناس، أو تصرفات ابنها الذي ظهر في بعض فصولها وعلاقته بها، أو يحلّل مشاعرهما. من هذا القبيل ذكريات الابن عن طفولته حين كانت أمه فقيرة تبكي من البرد والجوع، وحين كانت تصرخ على ولديها تتهمهما بأنهما يقتلانها. ولكن هذا لا يعني أنه كان يكره أمه، بل بالعكس، إنه يساعدها، يحرسها الآن في شيخوختها، ويخاف عليها أيضاً. كذلك يصوّر كوتسي الصراع في نفس الابن بين حبه لوالدته وإعجابه بشهرتها، من جهة، والحرج الذي يشعر به حين تهاجم في إحدى محاضراتها أكلة اللحوم وقتلة الحيوانات، بما أنها نباتية. ومن أروع تحليلاته تصويره عذاب كوستيلو، إذ ترى الاختلاف الشاسع بين معتقداتها وما يعتقده الناس إجمالاً، وأن الناس راضون بما يحصل في العالم، مع كل ما فيه من نقص، فتصرخ متألمة: "لماذا لا أستطيع أنا أيضاً أن أرضى؟!" صرخة الإنسان المخلص لنفسه ولمعتقداته، شعوره بالوحدة والغربة في مجتمع مختلف عنه تماماً. فيحسّ القارئ أن هذه الصرخة هي صرخة كوتسي نفسه الذي اضطرّ إلى الهجرة إلى أستراليا لأن مواطنيه في أفريقيا الجنوبية لم يستطيعوا أن يفهموا أو يقبلوا مواقفه مما يحصل فيها بعد القضاء على سياسة التمييز العنصري، كما تجلّت في رائعته الروائية "الخزي" Disgrace. في الدرس الأول تتناول محاضرة كوستيلو "الواقعية" والمثالية. تقول إننا كنا في الماضي نرى ما نقول، نعرف من نحن، أما اليوم فقد تغيّر هذا كله. أصبحنا مجرّد ممثّلين ننطق بأدوارنا، فقد فقدنا الأساس، لتضيف: ولعل هذا الأساس لم يكن سوى وهم. وإذ تتطرق الى الأديب تقول إن في الأديب سراً إلهياً، نتخيّل هذا السرّ حين نقرأ مؤلفاته، وحين نلتقيه يبدو كأي إنسان آخر، فنحاول أن نوفّق بين الاثنين. أما الأديب الواقعي فيعرف أن كتبه ستختفي مع الوقت، أياً كانت قيمتها أو بلغت شهرتها. سيأتي زمن لن يعود يقرأها أو يتذكرها أحد، لأن لجيل المستقبل عالماً غير عالمنا ولا يمكننا أن نفرض عليه عبء التذكر. وفي تناولها كتابة المرأة والرجل تؤكد أن المرأة تكتب كامرأة، أياً كانت الشخصيات التي تقتبسها في روايتها. وإذا استطاعت أن تحسن تصوير الرجل فلأنها تقلّد، والمرأة بارعة في التقليد. وعليه ترى أيضاً أن الرجل الذي يصور شخصيات نسائية في رواياته، يصوّرها من وجهة نظر ذكورية، حتى حين يدّعي أنه يصوّرها حرّة، مستقلة. وتعلّق الكاتبة الكاتب على ذلك بأن الرجال والنساء يعيشون متوازين، ولا يمكن أن يلتقوا، ومن حسن الحظ أن يوجد هذا الاختلاف، فلولا الاختلاف لما وُجدت الرغبة. أما الدرس الثاني فعن الرواية في أفريقيا. يتذمّر كاتب أفريقي من قلّة المهتمين بالرواية في أفريقيا، ومن قلة الناشرين هناك، ولذا يضطرّ الكاتب الأفريقي إلى الهجرة، يكتب في الغرب، بالانكليزية أو الفرنسية، ويقرأه غربيون، إلا أنه يدّعي أن مشاعره، حساسيته، وتجاربه تبقى أفريقية خالصة. ولكن كوستيلو أو كوتسي بلسانها تنتقد الكتاب الافريقيين، إذ ترى أنهم يكتبون عن أفريقيا، لا لها، يكتبون وعيونهم على القارئ الغربي، يسترضونه، يلبّون ما ينتظره منهم. ولا يمكن أن يصبح هذا الأدب أدباً حقاً إلا إذا كُتب لشعبه. حتى الرواية الشفوية التي يعتزّ بها الأفارقة لا بدّ من أن تتطوّر لتعدّ أدباً. وينقسم الدرس الثالث، درس حياة الحيوانات، إلى قسمين. يتناول الأول الفلاسفة والحيوانات، حيث تنتقد كوستيلو في شدة من يقتل الحيوان، من يجري عليه التجارب، والفلاسفة الذين يعتبرون أن لا عقل للحيوان ولا فهم ولا وعي. فكيف يعرفون ذلك؟! ثم، ما العقل؟ إنه ليس الكون، ولا الله، إنه فقط أحد ميول الفكر البشري، وللحيوانات عقول ومشاعر كما للبشر. فلقد أجريت تجارب على الشمبانزي تثبت أنه يفكر، أن الحيوان يفكر كالإنسان، وأهم من ذلك، أنه حي، يعيش، كالإنسان تماماً. وفي رأيها أن قيمة الإنسان الحقيقية ليست في تفكيره، وإنما في إحساسه بجسده، بأنه حي في العالم. ولذلك يكون أكثر ما يؤذي الإنسان هو حرمانه من ذلك، بسجنه وتعذيبه. وهذا ما ننزله بالحيوانات، من غير أن يخطر لنا أن نضع أنفسنا مكان هذه الحيوانات. فإذا كان في إمكان الروائية أن تجعل نفسها في مكانة إحدى شخصياتها المتوهمة، فكم بالحري يستطيع الإنسان أن يجعل نفسه في مكانة حيوان يعيش مثله ويشاركه الحياة، ومن حقه أن تكون له ما للإنسان من حقوق في الحياة وغيرها. أما القسم الثاني، وهو الدرس الرابع، فعن الشعراء والحيوان. تقول كوستيلو إن الشاعر، خلافاً للفلاسفة، حين يكتب قصيدة عن حيوان ينظر إليه كفرد، وتتلبسه حياة الحيوان الفردية. فالشعر يحوّل الحيوان النابض الحي إلى لغة تصوّر تماماً وجوده وطبيعته، وهذه ليست فكرة عقلانية مجردة، كأفكار الفلاسفة. وفي انتقادها أكلة اللحوم الذين يذبحون كائنات خلقها الله تؤمن بأننا نكون قد أنزلنا اللعنة على رؤوسنا. لا نعرف إلى أي مدى تشكل هذه الآراء آراء كوستيلو أو آراء الكاتب كوتسي، إلا أنها تردّ هنا على الفلسفة باسم الأدب، والأدب يقدّم الشعور على المنطق والعقل، الخيال على الفكر، وكوتسي أديب قبل أن يكون أي شيء آخر. في الدرس الخامس، درس العلوم الإنسانية في أفريقيا، تنتقد اليزابيث كوستيلو النظرة العصر أوسطية المهووسة بتقبيح الجسد وبموت المسيح. وتصرّ على أن الكنيسة المشرقية الحقيقية ترفض هذه النظرة. وتبيّن أن قيمة الإنسانيات تكمن في أنها تعلمنا الإنسانية. فبعد قرون من "ليل المسيحية" في القرون الوسطى أعادت إلينا الإنسانيات جمالنا، جمالنا الإنساني. هذا ما علّمنا إياه اليونان. في الدرس السادس تُدعى كوستيلو إلى أمستردام لإلقاء محاضرة حول مشكلة الشر. فتستشهد برواية يتناول فيها الكاتب الشر: يروي حادثة قواد كانوا دبّروا مؤامرة لاغتيال هتلر. فيصف الكاتب مفصلاً كيف عذّبهم أحد زبانية الدكتاتور، وبطريقة تثير الاشمئزاز يعرض واحداً فواحداً آثار الشنق في أجسادهم. هنا ترى كوستيلو أن مثل هذه القراءات لا تسهم في تجنيب الشر وفي تحسين الناس، بل إن الكتّاب الذين يصفون أسفل أنواع الشر يتأثرون به، كما يتأثر به القارئ الذي يشعر أن هذا الشر قد دخله، قد أصبح جزءاً منه. وعليه ترى من الأفضل ألاّ يتناول الكاتب قصص الشر وأوصافه فيحييها أمام القراء، لأن هناك أموراً يُستحسن ألاّ تقال، أن يُسكت عنها. ولعلّ الدرس السابع من أطرف دروس الكتاب. إنه عن أروس، الحب في الأساطير اليونانية، فتعرض كوستيلو للأساطير التي تتناول العلاقات العاطفية بين الآلهة القديمة ذكوراً وإناثاً وبين البشر ذكوراً وإناثاً، فتقول إن أحداً لم يصف المشاعر أثناء العلاقات. ومن ثمة تنتقل إلى مقارنة بين الإنسان والإله القديم: الآلهة القدامى اخترعوا الموت ولكنهم لم يجدوا الشجاعة الكافية ليطبقوه على أنفسهم" حياة الناس أكثر حدّة وأعمق شعوراً من حياة الآلهة الاغريقيين وشعورهم" والآلهة القدامى لا يستطيعون الاستغناء عن الناس، لذلك هم يراقبونهم باستمرار ويتدخلون في شؤونهم" يتخصصون بهم لأن لدى الناس ما يفتقرون إليه، يدرسونهم لأنهم يحسدونهم. وهذا يفضي بنا إلى الدرس الثامن والأخير: البوّابة. إنه ليس محاضرة تعرض فيها كوستيلو آراء معيّنة، وإنما فصل مقلق يذكرنا بروايات كافكا. تقف كوستيلو أمام بوّابة تودّ اجتيازها: إلى أين؟ لا نعرف. وتجابه لجنة، ولا نعرف ممن تتكوّن، تطلب منها تقريراً عن معتقدها قبل أن يُسمح لها بالدخول. تكتب كوستيلو تقريراً بعد الآخر: تكتب في أحدها أنها تعتبر المعتقد عائقاً في عملها ككاتبة، ولذا تحاول أن تبعد عنها كل الآراء والأفكار المسبقة حين تكتب. ترفض اللجنة هذا التقرير ثم تسألها: هل تؤمن بالله؟ هنا أيضاً تجيب أنها لا تعتقد أنه ينبغي جعل القضية قضية انتخاب. تقرير مرفوض أيضاً. وتُسأل عن كتبها، تقول: حين تنظر إليها الآن في نهاية حياتها ترى أنها لا تعلّم شيئاً ولا تعظ بشيء، كل ما في الأمر أنها توضح كيف عاش الناس في زمان ومكان معيّنين. وهذا التقرير مرفوض أيضاً. في النهاية تتساءل: هل ستقبل هذه اللجنة الغريبة اعتقادها أن كل ما تعنيه الحياة هو إمكان الموت. إنها تؤمن بالانحلال والعودة إلى العناصر الطبيعية، بعودة الحياة إلى الجسد؟ ولكن القضاة الغريبين يبيّنون لها أنها تناقض نفسها، وينسحبون، فيما تبقى خارج البوابة، لا تعرف هل ومتى سيُسمح لها بالدخول. فصل يفتح أمام القارئ مجالات كثيرة للتأويل، وأظن أن أهمها أن "البوابة" هنا هي بوابة الموت. فالإنسان يعرف أنه ميت لا محالة، إلا أنه يجهل كيف ومتى. ولذلك لا يردّ قضاة اللجنة على أسئلة كوستيلو، ينسحبون في النهاية من غير أن يطلعوها على شيء. وفكرة الموت لم تُطرح هنا للمرة الأولى في الرواية. فوراء مهاجمة كوستيلو قاتلي الحيوانات إحساس عميق بمأساة الموت. وحين يسألها أحد الحضور ما إذا كانت ترفض أكل اللحوم نتيجة موقف أخلاقي تجيب: "إنه بسبب رغبتي في خلاص روحي". فالموت والخلاص مرتبطان في الرواية. والرسالة التي أنهى بها الكاتب روايته تخطها اليزابيث أخرى، اليزابيث شاندوس، سنة 1603، أي قبل محاضرات اليزابيث كوستيلو بقرون. وهي رسالة مفعمة بالخوف والقلق والعذاب، رسالة روح تغرق وتطلب الخلاص. أشعر أن كوتسي صبّ في روايته الأخيرة هذه عصارة تجربته الشعورية والفكرية والحياتية، ولكنني آمل ألا يكون هذا الفصل الرمزي الكافكوي عن الموت دليل إحساسه هو بدنو أجله. فالأدب العالمي لا يزال بحاجة إلى رواياته التي تزداد نضجاً وعمقاً كلما تقدمت به السنون.