حينما أصدرت القمة الإسلامية العاشرة، التي عُقدت في ماليزيا في تشرين الأول أكتوبر 2003، قراراً بعقد ملتقى إسلامي لنخبة من رجال الفكر المسلمين، يبحث تحديات القرن الحادي والعشرين وكيفية مواجهتها بعمل إسلامي مشترك، ويتناول النهج الوسطي المستنير في الدين الإسلامي ويعمل على إبرازه، ويدرس سبل إصلاح"منظومة"منظمة المؤتمر الإسلامي... لم يكن القصد من هذا القرار مجرد إعداد وثيقة تضاف إلى وثائق أخرى أُعدّت لأغراض مشابهة، بل كان القصد الحقيقي يتلخص في وضع تصوّر إسلامي مصحوب بخطط عمل تُمكّن الأمة الإسلامية من تدارك ما فاتها من مسافات أبعدتها عن قطار الزمن، حتى تستطيع أن تعيش عصرها مواكِبةً لركْب الإنسانية الذي تخلّفت عنه، وحتى يمكنها أن تتفاعل مع هذا العصر كقوة فاعلة ندّية. وكان في ذهن واضعي القرار المذكور أن يُمكّن هذا المشروع من التمهيد لعهد إسلامي جديد متنوّر يقوم على ثوابت الإسلام الراسخة في الوسطية والاعتدال، والمنسجمة مع واقع العصر، ويتيح للعالم الإسلامي مواكبة العمل الإنساني كعنصر فاعل من العناصر المكوِّنة للمجموعات البشرية المتعايشة على ظهر كوكب الأرض. وكلنا يعلم أن ما أدركه الغرب أخيراً من"فتوحات"في ميادين التقدم والقيم والعلوم الإنسانية، هو امتداد لإسهامات الحضارة الإسلامية. ولا يوجد خلاف للمسلمين مع كثير من القيم العالمية السامية الرائجة اليوم، أو مع مقتضيات القانون الإنساني الدولي، بل يمكننا القول بكل فخر إن هذه القيم هي امتداد لقِيَمنا. وإذا كان جُلّ ما سبق يدخل في إطار وقفة مع الذات لترتيب شؤون البيت الإسلامي الداخلية، فإن العالم الإسلامي يعيش في وسط عوالم بشرية أخرى عليه أن يتفاعل معها وتتفاعل معه في نطاق التعايش الإنساني الأبدي. وهذا ما يجعل من العلاقة مع الآخر علاقة ضرورية حتمية نريدها أن تكون علاقة ندّية. والواقع أن العالم الإسلامي أخذ يخسر هذه"الندية"منذ زمن طويل. ومع إدراكه أن الذي لا يتقدم مع الركب يتخلف عن الآخرين ويفوته قطار الزمن، فإن تلمّس سبل اللحاق بالركب ما زال مطلباً عزيزاً علينا، وعجزنا حتى الآن عن تحقيقه لأسباب عديدة نستطيع تشخيصها، لكن - مع الأسف - ليست لنا الإرادة الموحّدة للمبادرة بالعمل على البدء في تنفيذها. والتحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين تحديات كثيرة متنوعة، وحسب المرء أن يشير إلى أهمها في عجالة، كما رأتها نخبة من رجال الفكر المسلمين الذين اجتمعوا أخيراً في بوتراجايا في ماليزيا لهذا الغرض. يتجلى أول هذه التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في أزمة التنمية التي تتبدى للعيان في التخلف المزمن في مجال التنمية الاقتصادية والبشرية. فمن غير المقبول أن يبقى مجموع الناتج العام للعالم الإسلامي كله، بمئات ملايينه التي تزيد على خُمس أبناء البشرية وبرقعته الجغرافية التي تغطي حيزاً كبيراً من المعمورة وتزخر بثروات عديدة، مقصوراً على نسبة لا يُعتدّ بها في أرقام الاقتصاد العالمي وحساباته. ومن التحديات كذلك أزمة التعليم والثقافة التي تتجلى في الجهل والأمية الحَرفيّة والرقمية، وضعف مناهج التعليم في أرجاء العالم الإسلامي، وندرة مراكز الأبحاث والعلوم، وغياب تكنولوجيا المعلومات التي هي القوة الأولى المحرّكة للاقتصاد العالمي، وندرة الكتب والمؤلفات وقلة القارئين في العالم الإسلامي. هناك أيضاً أزمة الديموقراطية والحكم الرشيد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية. ومن المعلوم أن الحكم الرشيد المبني على المساءلة والشفافية والتعددية السياسية والعدالة وسيادة القانون، هو القاعدة الصلدة لكل نمو اقتصادي حقيقي، بما يقدمه للاقتصاديين من ثقة واطمئنان على معاملاتهم وأموالهم. ويتفق الجميع اليوم على أن الديموقراطية والتنمية وجهان لعملة واحدة وأمران متلازمان، على أن يتم إشراك مؤسسات المجتمع المدني في هذا الجهد. ويعاني العالم الإسلامي كذلك من أزمة القيم، التي تتجلى في عدم التقيّد بالحقوق العامة، وفي مقدمها حقوق الإنسان وكرامته، وغيرها من الممارسات اللاإنسانية التي تخدش مفهوم القيم في مجتمعاتنا، وتجعلنا موضع النقد والشجب. وقد عددت كتب الفقه الإسلامي عشرات الحقوق التي ينبغي أن تُراعى، كحق الخالق وحق الحياة وحق النفس وحق الطفل وحق الجار وحق الطريق... إلخ. وتبيّن هذه الحقوق النظرة الشرعية لحقوق الفرد والجماعة التي تنظَّم على أساسها الحقوق والواجبات في العصر الحديث، وتشكّل قاعدة دولة الحق والقانون، وتتفرع عنها الحقوق السياسية وقاعدة الحريات العامة. كما أخذ العالم الإسلامي يعاني في الفترة الأخيرة من ظاهرة تفشي تيارات التطرف الديني والعقدي، وما نجم عن ذلك من أعمال عنف وإرهاب وظهور اتجاهات تكفيرية ومدارس للتعصّب الديني. وقد شجعت أعمال العنف والإرهاب خارج العالم الإسلامي وداخله أخيراً استشراء ظاهرة عداء الإسلام وكراهيته إسلاموفوبيا القديمة الجديدة، ما خلق بدوره تحدياً جديداً خطيراً يقتضي من العالم الإسلامي التعامل معه ومع غيره من التحديات بمنهجية عصرية وخطط ناجعة... والكثير من الجدية والمسؤولية. ولما أضحى هذا الأمر مصدراً خطيراً للتحامل على الإسلام والمسلمين، ونعتهم بأقبح الصور من الإرهاب إلى التخلف الحضاري وغيره، فقد صار الاتجاه إلى ضرورة وضع خطة شاملة لبلوغ هدف الوسطية المستنيرة بما يتفق مع تعاليم الإسلام، وللقضاء على أفكار التعصب والتطرف والغلوّ الديني في كثير من بلداننا والتي تتمثل في ما يسمّى فتاوى التكفير والولاء والبراء، ورواج ظاهرة من يسمون أنفسهم"مرجعيات دينية"يصدرون فتاوى تتناقض مع روح الشريعة الإسلامية السمحة، من دون أن تكون لأصحاب هذه المرجعيات أية أهلية شرعية لذلك. وقد نجم عن شيوع هذه الأفكار المتعصبة في الناشئة من أبناء المسلمين انحرافات خطيرة، تبدّت على شكل أعمال عنف وإرهاب شنيعة داخل بلدان العالم الإسلامي وخارجها شوهّت صورة الإسلام وقيمه في أعين العالم وزادت من حدة ظاهرة كراهية الإسلام في الخارج. وتتطلب معالجة هذا الوضع ضرورة اتفاق دول العالم الإسلامي في برامجها وتشريعاتها على سياسات تهدف إلى ترتيب شؤون البيت الإسلامي الداخلية، بتحبيذ رعاية التيارات الإسلامية المعتدلة التي تواكب أفكار العصر، وتوحيد المرجعيات الدينية الفقهية وتحديدها بغية حصر من يحق له أن يُفتي في النوازل من وجهة النظر الإسلامية الشرعية، بما ينسجم مع شروط الاجتهاد وشروط الفتوى في الدين الإسلامي، كما ينبغي أن نشيع في مجتمعاتنا الإسلامية ثقافة"التسامح"بالمعنى الإسلامي. ويقودنا هذا كذلك إلى ضرورة تبنّي تعريف واضح"للجهاد"في الإسلام وشروطه الموضوعية ودواعيه ومصدر إعلانه، طبقاً لما هو وارد في كتب الفقه، وذلك حتى يتميز الجهاد الحقيقي من الإرهاب. وأضحى من الضروري أمام تفاوت مستويات التنمية في العالم الإسلامي تفعيل مبادىء التكافل والتآزر الإسلاميين لتقوية عرى الأخوّة الإسلامية، وذلك بتنشيط آليات التضامن الإسلامي، كمؤسسات جمع الصدقات وتحصيل الزكاة وموارد الأوقاف الخيرية الإسلامية، وتأطير المؤسسات ذات الطابع الاجتماعي في المجالات المختلفة، كمراكز محو الأمية، وعلاج الأمراض، ومحاربة الفقر، وإنشاء صناديق إسلامية لهذا الغرض يسهم فيها المسلمون كافةً بتبرعات سنوية زهيدة، ولكنها تتيح جمع مبالغ طائلة لتحقيق هذه الغايات التي ترمي إلى إنقاذ العالم الإسلامي من التخلّف والجهل وتفشّي الأمّية، وإنشاء مراكز عالية للبحوث في المجالات التكنولوجية والعلمية المختلفة، وتقديم منح للطلبة المسلمين المبرزين في مجالات العلوم للدراسة في أحسن المعاهد العليا المتخصصة في العالم، وتدشين جامعات مفتوحة في أرجاء العالم الإسلامي. أما في ما يخص التواصل مع الآخر، فإن العبء الذي ينتظر العالم الإسلامي في هذا المجال كبير وثقيل، فدور حكومات الدول الإسلامية والمؤسسات الإسلامية في مجال علاقاتها مع وسائل الإعلام العالمية المؤثرة محدود، إن لم نقل منعدماً، بل إن العالم الإسلامي على امتداد أراضيه وكثرة موارده، لم يستطع أن ينشىء قناة فضائية دولية واحدة تنطق باللغة الإنجليزية المسموعة عالمياً، تبث أخبار العالم الإسلامي وتتكلم عن قضاياه من وجهة نظرنا. كما أن المستثمرين المسلمين عبر العالم - على كثرتهم - لم يستطيعوا أن يستثمروا أموالهم في قطاعات صناعات الإعلام الدولية الكبرى، وهي قطاعات حرّة ومربحة في معظم الحالات. ومن شأن هذا أن يمكّنهم من أن يكون لهم صوت في توجيه برامجها نحو ما يبعد التحامل على الإسلام والمسلمين أو ترويج أفكار أعداء الإسلام. وكان الشق الثالث من قرار القمة الإسلامية العاشرة المشار إليه مختصاً بإصلاح"منظومة"منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو قرار يعني إعادة النظر في تكوين هذه المنظمة التي أنشئت قبل ستة وثلاثين عاماً ليقتصر نشاطها على تنظيم اجتماعات المنظمة، لتصبح منظمة دولية تليق بالعالم الإسلامي ودوره الحقيقي الذي عليه أن يقوم به على الساحة الدولية، على غرار المنظمات الحكومية الدولية الأخرى. ويتطلب هذا الأمر إعادة النظر في ميثاق المنظمة، وإعادة تحديد الأهداف والغايات المتوخاة من هذه المنظمة. وطرحت أفكار كثيرة في هذا المجال توجهت للنهوض بالمنظمة من وضعها الحالي، والارتقاء بها إلى مستوى نظيراتها من المنظمات على المستوى الدولي. ويسعدني في هذا الشأن أن أنوّه بجهد صامت خلاق يقوم به بعض الهيئات الفرعية والمؤسسات المتخصصة والمنتمية لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وفي طليعتها لجنة الكومسيك التي استطاعت بنشاطها الدائب وضع اتفاقية لنظام الأفضليات التجارية بين الدول الإسلامية دخلت حيّز التنفيذ الآن. وتبع ذلك عقد اجتماعات لجولات تجارية تفاوضية بين الدول الموقعة على الاتفاقية على غرار جولات أوروغواي راوند التي تمخضت عنها منظمة التجارة العالمية. وهذا الإنجاز الإسلامي مهم بكل المقاييس، ومن شأنه أن يعزز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء. ومن المعروف أن كل التجمّعات السياسية الناجحة في العالم بدأت مسيرتها من مدخل الاقتصاد والمصالح المشتركة. إن العالم الإسلامي يمر بوقت عصيب ومرحلة استثنائية غير مسبوقة في تاريخ أمتنا، والظروف الاستثنائية تقتضي تحركاً استثنائياً وعملاً جاداً ورداً مناسباً، وأية استراتيجية تمكّن الأمة الإسلامية من مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين التي أسلفت ذكر بعضها، لا بد أن تنطلق من استيعاب هذه التحديات واستشعار خطورتها والجدية في التعامل معها، والبدء في التخطيط لمسار وهياكل تجمع الجهد الإسلامي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والدفاعية. ومن هنا كان بدء اجتماعات لجنة النخبة من رجال الفكر المسلمين في بوتراجايا أخيراً، نقطة انطلاق جديدة لعمل إسلامي مشترك، نطمح معه أن يؤسس لجهد إسلامي فاعل متنور، يستلهم منطق العصر وأساليبه، ويستند إلى التراث الإسلامي بثوابته الأصيلة، لرسم اتجاهات جديدة تساعد العالم الإسلامي على مواجهة تحديات العصر، وتقوده إلى وضع جديد من التعاون والتضامن والتكافل ووحدة الصف والكلمة. ونسأل الله أن يكتب لهذا العمل الرائد، توافر الإرادة السياسية لدولنا لتنفيذ توصياته، إذا ما أردنا أن يكون لأمتنا الإسلامية شأن في هذا العالم، أو كلمة مسموعة، أو رأي يعتدّ به. وحين يجتمع لنا كل ذلك وتتوافر لدولنا الإرادة السياسية والإجماع على العمل المشترك، يمكننا أن نستبشر بأننا بدأنا نخطو على الطريق المؤدي لمواجهة هذه التحديات والتغلب عليها بإذن الله. الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.