جدّد مندوب العراق لدى الأممالمتحدة سمير الصميدعي موقفه المبدئي من حق الأكراد في تقرير مصيرهم، مشدداً على قيمة الدولة العراقية الفيدرالية. وربط الصميدعي، الذي شغل منصب وزير الداخلية قبل ان ينتقل الى الأممالمتحدة، في حوار مع"الحياة"بين الهجمات الدامية في العراق و"ظاهرة الجريمة المنظمة"وصولاً إلى القرصنة والخطف وقطع الطرق. واعتبر هذه الأعمال دافعاً إضافياً لبقاء القوات الأجنبية مدة أطول في العراق. وتحدث عن اعتزازه بحصول حزبه السياسي المستقل على 36 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، واصفاً التجربة الانتخابية الأخيرة في العراق بأنها ناجحة ومشجعة. وهنا نص الحوار: أشيع أنك عزلت الضباط الشيعة من مناصبهم في الشرطة العراقية واستبدالتهم بآخرين من السنّة، عرباً وأكراداً عندما كنت وزيراً للداخلية فما صحة ذلك؟ وهل تعتقد أن هذا الأمر سيؤثر على مسيرتك السياسية؟ - خلال أسبوعين من تسلمي وزارة الداخلية وقبل إصدار أي أمر وزاري بالفصل أو التعيين أو حتى النقل، ظهرت على الانترنت تقارير تقول إنني فصلت عدداً كبيراً من الضباط الشيعة وعينت مكانهم آخرين من السنّة، وسُئلت عن ذلك في المؤتمرات الصحافية الدورية التي كنت أعقدها. خلاصة الأمر أن تلك التهم كانت مختلقة إذ عُرف عني طوال حياتي مقدار مقتي وكراهيتي للتمييز الطائفي أو العرقي بأي شكل من أشكاله. بالنسبة لي فإن العراقي هو عراقي من أي طائفة كان أو أي دين انتمى، ومهما كانت اللغة التي ينطق بها. ذكرت في لقاء سابق أن الأكراد أحرار في تقرير مصيرهم سواء في الانفصال أو البقاء في العراق. هل ما زلت على موقفك؟ - حق تقرير المصير حق مبدئي لا يجوز أن نستهين به أو نتخطاه، وأي توحيد قسري لا يستند إلى الاختيار الطوعي، يكون دائماً عرضة للانفراط، لذلك وقفت دائماً ولا أزال إلى جانب حق تقرير المصير للإخوة الأكراد. وفي مؤتمر فيينا للمعارضة العراقية حيث طرحت للمرة الأولى فكرة الفيديرالية، وقفت إلى جانبها بقوة وعن قناعة. وأرى أن العراق الفيديرالي الذي توحده الرغبة في المشاركة بين كل أطرافه سيكون قوياً ومتماسكاً، بينما فشلت وستفشل كل السياسات التي تقول إن على السلطة المركزية أن تصهر الجميع في بوتقة القومية الكبرى. ماذا عن بقاء القوات الأجنبية في العراق وهل تؤيد انسحابها؟ - في السنوات الأخيرة من عهد صدام حسين لم يكن للشعب العراقي خيار في مصيره وأصبح من الواضح أن طريق الخلاص الوحيد المتاح هو تدخل أجنبي وكان أكثر العراقيين يتمنون ذلك التدخل، بل ان الذين كانوا يشككون في نيات الولاياتالمتحدة الأميركية من العراقيين كانوا يقولون إنها ستوقع بالشعب العراقي مرة أخرى وتترك صدام في مكانه ولن تطيح به. لكن أميركا جاءت وأزاحت نظام صدام بالقوة العسكرية، وانهارت مؤسسات السلطة التي كانت قائمة على القمع الوحشي. الآن علينا أن نبني مؤسسات عراقية جديدة قادرة على حماية الحريات، لا الاعتداء عليها، والحفاظ على الأمن، وهذا سيستغرق بعض الوقت. وإذا انسحبت القوات الأجنبية قبل اكتمال هذه العملية، فمن الذي سيستغل الفراغ الأمني؟ حتماً سيستغله كما يستغله الآن الإرهابيون وأرباب الجريمة المنظمة منها والفردية وبقايا مافيا صدام. وهذا لن يكون في مصلحة الشعب العراقي بتاتاً. علينا أن نستفيد من دروس التاريخ، لم يسقط هتلر من تلقاء نفسه، بل سقط بعد تدخل عسكري أجنبي ضخم ولم تتمكن ألمانيا من إعادة بناء نفسها بمعزل عن العالم واستمر الحضور العسكري الأجنبي فيها حتى الآن، لكن من الذي يقول إن ألمانيا الآن بلد محتل؟ نحن نعيش ظرفاً تاريخياً وثقافياً يختلف عن ألمانيا بعض الشيء. وأعتقد بأن من الممكن تماماً أن تقوم السلطة المنتخبة دستورياً بالتفاوض على الانسحاب التدريجي للقوات متعددة الجنسية وفق برنامج يضمن سلامة العراق وأمنه الداخلي والخارجي. ما هي الثوابت التي لا تقبل التغيير في الدستور الجديد؟ - أنا لا أميل إلى استعمال كلمة"الثوابت"هذه، فالتاريخ مليء ب"ثوابت"زالت لتغير الظروف. كان من"الثوابت"في تركيا مثلاً أن لا تكون هناك قومية غير القومية التركية. ونجد اليوم أنهم بدأوا يعترفون بالأكراد كأكراد. وكان من"الثوابت"عند العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً عدم الاعتراف بدولة إسرائيل والإصرار على إزالتها، ونجدهم اليوم يتعاملون معها كياناً قائماً لا بد من التعامل معه. وكان من الثوابت عند الصينيين أن اليابانيين أعداؤهم وعند الألمان أن الإنكليز أعداؤهم وعند الصربيين أن الألبان أعداؤهم، لكننا نجد أن العلاقات تغيرت فللصين استثمارات كبيرة من اليابان، والألمان حلفاء الإنكليز، والصربيون بدأوا يتعاملون مع الألبان بطريقة جديدة. أما الدستور الجديد فإنه لن يحظى بالقبول الواسع الذي يجب أن يحرزه إلا إذا كان يتضمن مبادئ أصبحت الآن أساسية، ويتخلى عن مبادئ أخرى كانت من"ثوابت"العقلية الديكتاتورية. ومن هذه المبادئ الأساسية للعراق الجديد: مبدأ الحريات الفردية وحماية حقوق الإنسان. لن يتخلى العراقيون عن حريتهم بعد أن حصلوا عليها. مبدأ المساواة أمام القانون وتحريم التمييز الطائفي والعرقي، ولن يرضى العراقيون بما دون ذلك بعدما عانوا ما عانوه من التمييز والاضطهاد. مبدأ الفيديرالية الذي سيتيح للأكراد إدارة شؤونهم بأنفسهم لن يرتضوا أقل من ذلك ولا ينبغي أن نرتضي لهم أقل من ذلك. مبدأ نبذ العنف والتداول السلمي للسلطة، وقد بدأنا بذلك خير بداية في الانتخابات الأخيرة. مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية لضمان عدم التسلط وعدم عودة الدكتاتورية. هل ستكون هناك معارضة في الحكومة الانتقالية؟ - وجود المعارضة في أي دولة حالة صحية، فانتقادات المعارضة المستمرة ويقظتها وتنبيهها إلى أخطاء السلطة تجعل السلطة أكثر حذراً وتحسباً واهتماماً، ومن دون شك فإن القوى والأفراد الممثلين في المجلس الوطني والذين هم خارج الحكومة يمكن أن يكونوا بمثابة معارضة وطنية، إلا أننا نمر الآن في مرحلة انتقالية، وعلى الأغلب أن تتشكل الحكومة من أطراف عدة لتكون حكومة وحدة وطنية. وهذا سيكون لفترة موقتة. أما مستقبلاً، وفي ظل الدستور الدائم فسننتقل بالتدريج إلى وضع يكون أكثر طبيعياً، وهو أن تكون هناك حكومة من بعض الأطراف ومعارضة وطنية من أطراف أخرى. ما رأيك في ما يجري الآن من عنف على أرض العراق؟ وهل أن هذه مقاومة أو إرهاب؟ أم تصفية حسابات؟ - قطعاً كل أعمال العنف التي تستهدف المدنيين وأعمال الخطف والاغتيال وتفجير السيارات المفخخة وإرسال الانتحاريين ليفجروا أنفسهم في المناطق المزدحمة وقرب المساجد والكنائس وتدمير أنابيب النفط والمنشآت الحيوية للبلاد، هي أعمال إرهابية لا يمكن الدفاع عنها تحت أي ذريعة أو شعار. هذا الإرهاب يتداخل مع ظاهرة الجريمة المنظمة التي أصبحت لها قدرات كبيرة، وهي التي تقف وراء الكثير من عمليات الخطف والقرصنة وقطع الطرق والسلب والنهب. وضحايا هذه الأعمال مجتمعة هي الغالبية العظمى لضحايا أعمال العنف في العراق، ولو توقفت لما كانت هناك حاجة كبيرة للقوات الأجنبية، وبالتالي تصب في إطالة مدة بقائها. أما أعمال مهاجمة القوات الأجنبية والتي تسوّق على أنها مقاومة الاحتلال، ونجد كثيرين من المفكرين والكتّاب العرب الذين يتحمسون لها ويطبّلون ويزمرون"للبطولات"التي تنطوي عليها فإنها تستحق منا وقفة تأمل. هناك سؤالان: الأول، من يقف وراءها؟ والثاني، ما الهدف منها؟ الجواب عن السؤال الأول الذي يتداوله ويروج له المتحاملون - مثل بعض وسائل الإعلام العربية - والمغفلون والمتغافلون هو أن"الشعب العراقي يقاوم الاحتلال"وهو كذبة كبيرة، لأن الشعب العراقي وإن كان لا يريد الاحتلال بطبيعة الحال، إلا أنه مستعد وراغب في التحول إلى الاستقلال التام بالطرق السياسية السلمية. والجواب عن السؤال الثاني الذي يريدنا هؤلاء أن نقبله هو"جلاء القوات الأجنبية"، وهو كذبة أكبر من الأولى، لأن الهدف الحقيقي هو جر البلد إلى انهيار كامل يؤدي إلى مغادرة القوات الأجنبية وعودة البعثيين إلى الحكم. ما إنجازاتك في الأممالمتحدة؟ - جئت إلى الأممالمتحدة أول ممثل دائم للعراق الجديد بعد التغيير، ووجدت أن العراق لا يزال مثقلاً بأعباء والتزامات وقيود فرضها عليه مجلس الأمن في العهد السابق نتيجة سياساته الهوجاء وكانت البعثة العراقية معزولة وضعيفة. فالهدف الأول إذاً هو إعادة العراق إلى دوره الطبيعي وإزالة القيود والأعباء التي وضعت عليه بأسرع وقت ممكن وإعادة بناء البعثة العراقية من حيث العدد والمستوى والإمكانات والخدمات. وهذه العملية تحتاج إلى بعض الوقت، إلا أننا بدأنا بداية طيبة، وعندنا الآن نواة فريق جيد، وقد بدأنا نلمس تعاوناً متزايداً من البعثات الأخرى، لا سيما أعضاء مجلس الأمن، وعملنا على إصلاح العلاقة السلبية التي كانت قد سادت في البداية جهاز السكرتارية، كما استخدمنا وسائل الإعلام الأميركية لإيصال صوت العراق عالمياً وكذلك في داخل الولاياتالمتحدة. لا يزال أمامنا شوط طويل، إلا أنه أصبح الآن ممهداً أكثر وسنستمر في تقوية موقع العراق في المسرح الدولي والدفاع عن مصالحه. ترددت قبل مدة معلومات عن تلاعب أدى الى اختلاسات مالية في برنامج"النفط مقابل الغذاء"وأن هناك أموالاً للشعب العراقي في ذمة مسؤولين دوليين. أين وصلت متابعتك لهذه القضية داخل أروقة الأممالمتحدة؟ وهل ظهر متهمون بعينهم، بقرائن قوية أو أدلة حاسمة؟ - كانت لدى العراقيين، وخصوصاً بين الناشطين في المعارضة للنظام السابق تحفظات وشكوك حول طريقة إدارة برنامج النفط مقابل الغذاء ووجود فساد إداري واسع في تنفيذه، كما كان من الواضح لدينا أن النظام الصدامي كان يستغل البرنامج ومبيعات النفط لأغراض سياسية. وعندما بادرت جريدة"المدى"البغدادية إلى فضح أسماء الأشخاص والجهات التي كانت تتسلم مخصصات نفطية في مقابل مساندتها السياسية أو الإعلامية، ونقلت عنها صحف ووكالات أنباء عالمية، كشف الأمر على نطاق واسع، وبادرت أطراف في الكونغرس الأميركي بفتح تحقيقات في هذا الموضوع، وهذا بدوره جعل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان مضطراً لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة برئاسة السيد فولكر، نشرت حتى الآن أكثر من تقرير مرحلي كشف عن الكثير من القصور وسوء الإدارة وحتى الفساد الإداري في أعلى المستويات من إدارة البرنامج، وأشار بأصابع الاتهام إلى السيد سافان مدير المشروع، ما حدا بالأمين العام إلى كف يده ريثما يستكمل التحقيق. ونحن بطبيعة الحال نتابع الأمر باهتمام، ولقد قمت من خلال مؤتمر صحافي عقد في اليوم التالي لنشر تقرير فولكر الأخير في 4 شباط فبراير 2005 بتوضيح الموقف العراقي منه، وكل ذلك نشر وموجود على مواقع الانترنت الخاصة بالأممالمتحدة والبعثة العراقية. بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الأخيرة أين ستكون بناء على موقعك من التشكيلات الحزبية التي خاضت الانتخابات وخرجت بحصيلتها من الأصوات؟ - بصفتي الأمين العام للتحالف الوطني الديموقراطي أنا فخور جداً بأداء التحالف في الانتخابات حيث حصلنا على أكثر من 36 ألف صوت على رغم كل العوائق وافتقارنا إلى ما يلزم من الأجهزة والإعلام والمساندات المالية. هذا كان في الوقت الذي فشل كثيرون ممن كانوا أكثر منا مالاً وشهرةً في الحصول على مقعد في هذه الانتخابات. وهذا يدل الى شيئين: الأول: ضعف عام في أداء القوى الديموقراطية بسبب اكتساح القوائم التي اعتمدت على الهوية الطائفية أو القومية الكردية للساحة وهذا له أسباب تاريخية، ونعتقد أن هذه الظاهرة مرشحة لأن تنحسر مستقبلاً مع استتباب الأوضاع الأمنية وبناء مؤسسات ديموقراطية تحمي الجميع وتعطيهم الفرصة للتفكير كعراقيين أولاً من دون الحاجة إلى التشبث بالهويات الفئوية. والثاني: الحاجة الكبيرة إلى لملمة القوى الديموقراطية وتوحيدها حتى يكون لها الصوت الذي يمكن ان يؤثر في الساحة، وعلينا أن نبذل الجهود اللازمة في هذا الصدد ونتخطى أي حساسيات ونزاعات فردية لمصلحة تعزيز التوجه الديموقراطي الليبرالي في العراق وهو في رأينا مفتاح المستقبل الذي يفضي إلى الاستقرار والازدهار.