تعاني المصارف العراقية، منذ مدة، نقصاً كمياً ونوعياً واضحين مقارنة بدول الجوار. وأبرز ما في الجانب الكمي، انخفاض الكثافة المصرفية المتمثل بنقص عدد الوحدات المصرفية مراكز رئيسة وفروع. ففي العراق الآن نحو 31 مصرفاً، منها ثمانية أجيزت في 2004 - 2005. ويبلغ عدد الوحدات المصرفية الحكومية والأهلية في البلاد نحو 580 وحدة مصرفية مكتب رئيس وفرع، ويقدر عدد سكان العراق المقيمين بنحو 25 مليون نسمة في 2005، ما يجعل الكثافة المصرفية فيه 0.22 وحدة للعشرة آلاف. وللمقارنة يشار إلى أن الكثافة في الأردن تبلغ 1،1، أي ما يعادل كثافة العراق ب 4.8 مرة، وفي لبنان 1.8 بما يعادل العراق ب 7.8 مرة. وتعتبر المؤسسة العربية لضمان الاستثمار ومقرها دولة الكويت أن انخفاض النسبة عن 0.5 يؤشر إلى ضآلة في الكثافة، فيما تؤشر نسبة واحد في المئة إلى كثافة متوسطة، ونسبة اثنين في المئة إلى كثافة عالية. إلا أن انخفاض الكثافة المصرفية في العراق بهذا الشكل من جهة مع ظهور بشائر ازدهار اقتصادي ورواج أعمال من جهة أخرى يدعوان إلى التوسع في تأسيس المصارف وفروعها وتوسيعها وتنوع أعمالها. وفي محافظة بغداد خمس سكان العراق، لكنها تستأثر بأكثر من أربعة أخماس عدد المصارف، تاركة لأربعة أخماس السكان خمس العدد. وتبلغ الكثافة المصرفية في بغداد 0.75، وفي المحافظات الأخرى 0.055 بمعنى أن الكثافة في بغداد تعادل تلك التي في المحافظات ب14 مرة تقريباً، بل أن محافظة مثل ميسان في الجنوب تقل الكثافة فيها حتى عن الحد البائس المذكور على رغم أن العراقيين يحصلون من آبار نفط هذه المحافظة على نحو ثلثي مواردهم من النقد الأجنبي. التخلف النوعي ومن مظاهر التخلف النوعي التباين الجغرافي الذي يتمثل أحد جوانبه في متوسط حجم ومبلغ النشاط المصرفي للوحدة المصرفية، فيزيد في بغداد أضعافاً مضاعفة، لوجود المقرات الرئيسية للمصارف فيها باستثناء مصرف البصرة. وهذه نتيجة طبيعية لتركز النشاط الاقتصادي في بغداد في مقابل فقر المحافظات الأخرى والجنوبية منها خصوصاً، فضلاً عن رغبة إدارات المصارف في أن تكون قريبة من الإدارة الحكومية المركزية وهذه قضية مهمة في بلد كالعراق ذي مركزية وهرمية شديدة في الإدارة الحكومية. ومن هذه المظاهر أيضاً قصور الخدمات المصرفية ورتابتها، إذ لم تعرف هذه البيئة حتى الآن العمل ببطاقات الائتمان على رغم ا انتشارها الواسع في العالم، فضلاً عن افتقاد المنتجات والخدمات الجديدة التي تتعامل بها مصارف العالم. وإذ تسعى حكومة العراق في العهد الجديد إلى مزيد من التخصيص في كل القطاعات ومنها القطاع المالي، ما زال نحو 68 في المئة من مجموع عدد الوحدات المصرفية في البلاد تابعاً لمصارف حكومية، ونحو 75 في المئة من النشاط المصرفي لا يزال في يد القطاع المصرفي الحكومي، كما تسيطر المصارف الحكومية على نحو 90 في المئة من الأصول المصرفية. كما أن معظم المعاملات المالية في الاقتصاد العراقي يتم نقداً، ولا تزال نسبة العملة في التداول إلى عرض النقد مرتفعة نسبياً مقارنة ببلدان تملك جهازاً مصرفياً متطوراً، وتقدر هذه النسبة الآن ب50 إلى 60 في المئة، إضافة إلى محدودية الوسائل المصرفية والقصور الكمي والنوعي في العمليات المصرفية ولا سيما منها المعاملات الخارجية، فضلاً عن تعقيد الإجراءات الإدارية التي تتطلب إبراز المستندات والوثائق لإنجاز العمليات المصرفية. ويمثل نظام سويفت Swift برنامجاً عالمياً إلكترونياً حديثاً وهو شائع الاستعمال في بلدان العالم ولبنان وبلدان شبه جزيرة العرب، لكنه غائب في العراق باستثناء مصرفين أهليين والمصرف العراقي للتجارة. ومن مظاهر الضعف أيضاً ضآلة رأس المال المدفوع إذ لا يزيد مجموع رؤوس الأموال المدفوعة لعشرين مصرفاً أهلياً على مئة مليون دولار ما دفع المصرف المركزي إلى إلزام المصارف رفع رأس المال للمصرف الواحد إلى ما لا يقل عن سبعة ملايين دولار ما يعادل عشرة بلايين دينار حداً أدنى في 2005. وفرض رأس مال لا يقل عن 50 بليون دينار لتأسيس مصارف جديدة. ولا تختلف البيروقراطية والتصورات في معظم هذه المصارف عن تلك السائدة في المصارف الحكومية العراقية، إذ كان مديروها التنفيذيون يشغلون مناصب إدارية في مصارف وإدارات مالية حكومية، ولم يعايشوا الحياة المصرفية الحديثة، كما أن معظم المصارف الأهلية هي مصارف عائلية أساساً. رواتب العاملين ويشكل تدني رواتب العاملين في المصارف الخاصة ظاهرة أخرى، إذ يساوي راتب موظف المصرف الخاص نصف أو اقل من نصف راتب نظيره في المصرف الحكومي أو في أي مصلحة حكومية أخرى. لعل ما يميز البيئة المصرفية في العراق الآن رواج أعمال مصارفها والإقبال على أسهمها وارتفاع أرباحها ومبالغ الاحتياطات في معظمها، وتطوير قوانينها، كما لم يسجل أي مصرف خسارة أو إفلاساً باستثناء أزمة عام 1996 التي شملت كل الاقتصاد العراقي. وتتفاوت نسبة عائد السهم بين 25 و30 في المئة، وتصل إلى نحو 70 في المئة في مصرف الشرق الأوسط العراقي، إذ لعبت المضاربة دوراً في سوق العملة. وترتفع نسبة الودائع إلى رأس المال في عدد منها إلى ما يقرب من الحد الأعلى المسموح به قانوناً، وبلغت في مصرف الشرق الأوسط مثلاً نحو 107 بلايين دينار. لكن يصعب اعتبار ارتفاع الربحية ومؤشرات الرواج مرادفة لارتفاع الكفاية المصرفية عندما تكون البيئة غير تنافسية. إن البيئة المصرفية في العراق كانت وما زالت بيئة غير تنافسية، ما دفع القائمين على مصرف الائتمان العراقي إلى بيع 85 في المئة من حصص مصرفهم إلى "بنك الكويت الوطني" ومؤسسة التمويل الدولية، بعدما استشرفوا ما ستؤول إليه الأمور في البيئة التنافسية المقبلة وهي أولى بوادر الهزيمة. الصورة المشرقة إلا أن عدداً من العوامل يبشر بصورة مشرقة للغد وتتمثل ب: 1-السياسة الاقتصادية الحرة التي ينتهجها الحكم الجديد والمتمثلة بإزالة القيود التجارية الاقتصادية واعتماد اقتصاد السوق والتحضير للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية والبدء ببرنامج طموح للتخصيص بما فيه تأسيس هيئة عامة بمستوى وزارة تتولى تنفيذ هذا البرنامج. 2- ظهور بشائر التحسن النسبي في الوضع الأمني العام. 3- البدء في الخطوات العملية لتنفيذ نظام الفيديرالية لثلاث محافظات جنوبية غنية بآبار النفط. على سبيل المثال تمد آبار نفط محافظة العمارة ميسان العراقيين بنحو ثلثي مواردهم من النقد الأجنبي المقدرة بنحو 20 بليون دولار في 2004 وتملك في باطنها اكبر احتياط نفطي تضمه منطقة جغرافية في العراق. فضلاً عما تختزنه هذه المحافظات من مصادر ثروة طبيعية وزراعية ومعدنية أخرى. إلا أن السياسات التي كانت سائدة على مدى 80 عاماً، مثلت حكم الباشوات والإقطاعيين ومن بعدهم القوميين والبعثيين تركت هذه المحافظات في حال من الفقر والعوز والخواء الاقتصادي والمصرفي المزري. إن تنفيذ فيديرالية الجنوب وبقية الفيدراليات يتوسم فيه تقاسم موارد البلاد بالعدل والإنصاف ورفع الحيف، وما يترتب على ذلك من إعمار هذه المناطق وتحريك فاعلياتها الاقتصادية والطلب فيها واستثمار مواردها وطاقاتها الكامنة وتطور البيئة المصرفية فيها. وسيشكل التحسن المرتقب لأوضاع هذه المناطق وبيئتها المصرفية مدداً لتطور الأوضاع والبيئة المصرفية لكل البلاد. 4-إن العراق بلد نفطي وتشكل احتياطاته النفطية ثاني احتياط نفطي في العالم نظراً إلى تدني كلفة استخراجه، إضافة إلى ثرواته المعدنية الأخرى وموارده البشرية كماً ونوعاً. وستجعل منه اتفاقيات التنقيب والاستخراج الجديدة ثاني اكبر مصدر للنفط. 5- المنح المالية التي سيحصل عليها العراق من مانحي مؤتمر مدريد وشطب نسبة كبيرة من ديونه الخارجية وإلغاء ثلثيها أو ما يزيد على ذلك وتدوير المتبقي. 6- إيرادات تخصيص مشاريع الدولة التي تعضد الموازنة العامة للدولة وتخفض نسب العجز والتضخم. 7- حجم الاقتصاد العراقي الكبير وتنوعه وحجم السكان. 8-استقرار قيمة النقد وتحقيق سعر صرف واقعي. 9- بدء تدفق المشاركات الاستثمارية الأجنبية بتأسيس مصارف بأموال وإدارة أجنبية وعراقية، وحصلت بعض هذه العمليات أخيراً في القطاع المصرفي، ويفترض أن تساهم هذه المشاركات والمصارف الخارجية في جذب رؤوس أموال إضافية وإعادة رسملة المصارف العراقية وهيكلتها وتأهيلها وتقوية الجهاز المصرفي. 10- أصبحت لكل المصارف العراقية الخاصة علاقات مصرفية مع عدد من المصارف الموجودة في البلاد العربية للتعاون في مجال التحويلات الخارجية. 11- التعديلات في مجال التشريعات الاقتصادية والمالية والمصرفية ودورها في صنع بيئة مصرفية حديثة إضافة إلى الإنجازات في مجال تأهيل الموارد البشرية وإعادة الهيكلة في الجهاز الحكومي المشرف. تبشر العوامل الواردة أعلاه ببيئة مصرفية واعدة، وتؤشر إلى حاجة الجهاز المصرفي للتوسع والتنوع. * خبير اقتصادي عراقي - بغداد.