أعتقد بأن ما يقول المعارضون اللبنانيون عن الموالين صحيح، وأعتقد بأن ما يقول الموالون عن المعارضين صحيح ايضاً. أرجو ان يفكر القارئ معي، فنحن من بلد صغير والناس تعرف بعضها بعضاً، وتعرف ان ليس عندنا غاندي أو الأم تريزا. الكل متهم، والكل"يعملها"أو"يعمل أبوها"ويستحق سمعته. وثمة استثناءات، الا انني لا أعتبرها الشذوذ الذي يثبت القاعدة فأنا لا أصدق هذه القاعدة أصلاً، وبما ان سيماء السياسيين اللبنانيين على وجوههم، فإننا نسمع التهم تكال لفلان منهم، أو لفليتان، ثم تبرز استثناءات على رغم الوضع المشحون، فنحن لا نسمع تهماً توجه الى نسيب لحود أو مروان حمادة أو نايلة معوض بل ان السيد حسن نصرالله، وهو في قلب المعركة، غير متهم بشيء، فالناس تعرف أحدها الآخر. وثمة آخرون الا ان الاسماء السابقة مجرد أمثلة والحصر متعذر. اذا كان الطرفان متهمين فهل يجوز لأي منهما،وهو متهم، ان يحقق في تهمة كبيرة من نوع اغتيال رفيق الحريري؟ الحكومة، أو الموالاة، متهمة بكل أجهزتها السياسية والأمنية، من التقصير الى التواطؤ والتنفيذ، ولا تصلح لادارة التحقيق، والمعارضة لها موقف مسبق من الحكومة ينفي عنها الحيدة الضرورية في ادارة تحقيق كبير تنعكس آثاره على لبنان وسورية والمنطقة. في مثل هذا الوضع، واذا كان ليس عند الحكومة ما تخشاه، كما تقول، واذا كانت المعارضة تريد حقاً اكتشاف القاتل، أو القتلة، كما تقول أيضاً، لماذا لا يتفق الطرفان على تحقيق دولي بإشراف خبراء أجانب لا علاقة لهم بمعارضة أو بموالاة؟ أسخف ما أسمع رداً على هذا الاقتراح انه ينتقص من السيادة. والرد على الرد ان لا سيادة لبلد يَقتل ابناءه، فثمة شروط كثيرة للسياسة أولها حفظ الحياة، وعندما يُقتل مؤسس الاستقلال الثاني وسط المدينة التي عمرها يصبح حديث السيادة لاغياً. واذا كانت السيادة قناعة حقيقية، لا عذراً مفضوحاً، عند بعض المسؤولين، لماذا لا تكلف السيدة بهية الحريري تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على التحقيق؟ ان أي نتائج تصدر عن حكومة برئاسة بهية الحريري ستحظى بصدقية فورية وقبول، لأن رئيسة الوزراء لن تتستر على أي مسؤول، بل ستطلب الحقيقة كاملة. أعرف السيدة بهية الحريري جيداً، وقد تعاملت معها وعملت، وهي قد تكون وصلت الى البرلمان عبر نفوذ شقيقها, الا انها ذكية قديرة بنفسها، ومجتهدة معتدلة، ولم اسمع يوماً ان لها أي عداوات سياسية أو شخصية بسبب طبيعتها اللينة الهادئة. سمعت الرئيس اميل لحود يتكلم، وسمعت وزير الداخلية سليمان فرنجية، وأيضاً اللواء جميل السيد، المدير العام للأمن العام. وأصدقهم جميعاً، ثم لا اصدق احداً، فاذا كان ما يقولون صحيح، فإن وجود شقيقة رئيس الوزراء الراحل على رأس الحكومة سيخدمهم قبل غيرهم اذا صدر عنها ما يحدد الجهة الفاعلة، ويبرئ أركان الحكم، بعضهم أو كلهم. وكنتُ سأقترح حكومة أقطاب من شيوخ السياسة اللبنانية، الا انني أخشى ألا تكون عندهم بقية من طاقة ذهنية وجسدية للنهوض بالعبء. في غضون ذلك يجب ان يدرك الموالون والمعارضون ان البلد مقسوم مناصفة بينهم، وبما ان كل فريق يتحدث عن الديموقراطية وممارستها، فإن على كل فريق ان يدرك ان لا مخرج ديموقراطياً من الوضع الحالي الا باتفاق يجمعهما، فليست عند أي فريق غالبية مطلقة تتيح له فرض رأيه على الآخر، مع تقديري الشخصي ان هناك غالبية واضحة من الفريقين تريد انسحاباً سورياً كاملاً، يشمل ممثلي الأجهزة الأمنية، وبالتالي لا مشكلة هناك. المشكلة هي ان يدرك كل فريق انه لن يحصل على كل ما يريد، و"دفتر شروط"المعارضة ينتهك الممارسة الديموقراطية بقدر ما ينتهكها تحايل الحكم ولفه ودورانه، وتأجيله بغباء ربما سببه انه يعتقد بإمكان تمييع القضية. اليوم العملية السياسية تراوح مكانها، اذا كان لي ان أستخدم عبارة تعلمتها أيام التدريب العسكري، والبلد من دون حكومة فاعلة على رغم خطورة الوضع. وكان هناك تفجير محدود في نيو جديدة المتن لا أجده مهماً بذاته، الا انه مهم بدلالاته. واذا وقعت غداً اغتيالات أو تصفيات، ضمن أجهزة الأمن، فإن السياسيين في الحكم والمعارضة قد لا يستطيعون وقف الانهيار. السياسيون اللبنانيون في خلاف على أمورهم الصغيرة، غير ان المطروح يتجاوز تشكيل حكومة لبنانية، فهناك حزب الله وعلاقته بايران وسورية، واتهام الادارة الاميركية هذين البلدين بلعب دور"غير مساعد"في العراق، ثم هناك الحملة لتطويع سورية، ولمنع ايران من انتاج قنبلة نووية، وتهديد أميركا بفرض عقوبات على سورية اذا لم تنسحب من لبنان، وعقوبات على ايران اذا لم توقف برنامجها النووي. واذا ترجمت كل هذا الى لغة عربية مفهومة فهو حماية أمن اسرائيل على حساب المنطقة وشعوبها ومصالح أميركا وهذه الشعوب. حزب الله لن يتنازل عن سلاحه وايران لن توقف برنامجها النووي، وسورية لن تتخلى عن تحالفها مع الحزب او طهران طوعاً، وهذا يعني ان لبنان يواجه خطراً كبيراً حتى لو قامت فيه حكومة ترضي كل الفرقاء، فكيف مع غياب هذه الحكومة. لا أعرف ان كانت أي حكومة لبنانية مقبلة تستطيع ان تقود لبنان وسط الانواء الى بر الأمان، ولكن أعرف ان وجود ربّان أفضل من ترك الدفة في مهب الريح. ومع ذلك فالسياسيون اللبنانيون يفضلون ذلك على تسليم الدفة الى أي ربّان. اغتيال رفيق الحريري، وعلى رغم بشاعة الجريمة، أدى الى ثورة ديموقراطية بيضاء انتهت بقرار سوري بالانسحاب من لبنان، وهو انسحاب ما كان متوقعاً أو مطلوباً هذه السنة لولا اغتيال رفيق الحريري. ولعلّ السياسيين اللبنانيين، وقد خدم رفيق الحريري لبنان في موته كما خدمه في حياته، لا يضيعون ارثه في نزاع على مصالح ضيقة تلبس ثوباً وطنياً فضفاضاً.