لشارع أبي نواس، الذي يحاذي الضفة الشرقية من نهر دجلة، حضوره في حياة العراقيين، خصوصاً في هذا الفصل الطويل من فصول السنة الذي ينطلق عادة مع بداية الربيع ولا ينتهي إلا مع الخريف. ويزداد تعلّق العراقيين، رجالاً في شكل خاص، بهذا الشارع في أشهر الصيف الحارة، حيث تبدأ الحياة فيه يوم كانت مع اول الغروب، أو قبله قليلاً، ولا تنتهي إلا بعد منتصف الليل. ولهذا"الشارع الصيفي"وضعه المميز... فهو يستقطب الأشخاص الذين يريدون ارتشاف فنجان قهوة في مقاهيه التي تحاذي النهر. وثمة اشخاص يقصدون"مطاعم السمك المسكوف" - أشهى المأكولات العراقية وأشهرها. واستمدّ هذا الشارع، بمقاهيه وحاناته ومطاعمه، ميزته كونه شعبياً، في معنى ان ارتياده سهل للجميع نظراً الى اعتدال أسعاره وتناسبها مع كل المداخيل. أما"زبائن"هذا الشارع فهم من أحياء بغداد ومناطقها كافة. من هنا لم يكن"شارع أبي نواس"مثل الشوارع الأخرى في مدينة بغداد، فهو شارع يتمتع بنكهته الخاصة، و"عطره". وهو أيضاً"شارع ليلي"في حين ان معظم الشوارع الشهيرة للمدينة"نهارية". وإذا كانت الشوارع الأخرى"شوارع عمل"، فإن"أبا نواس"هو"شارع التخفف من أعباء العمل". ولا غرابة ان تختار"أمانة بغداد"مكانين متميزين فيه ليكونا موقعين لتمثالين شهيرين من تماثيل بغداد، وجدت ان لهما دلالتهما الخاصة بالنسبة الى الشارع وروّاده، وهما: تمثال الشاعر أبي نواس - الذي سمي الشارع باسمه - ونحته الراحل اسماعيل فتاح - وتمثال"شهرزاد وشهريار"للنحات محمد غني، وقد ارتبط الاسمان بحكايات"ألف ليلة وليلة". ونجح توقع الذي اقترح مكان وضع التمثالين. فعندما تمرّ بهما ليلاً، تجد من يقف أمامهما أو بقربهما،"متعتعاً"وهو يكلم"أبا النواس الشاعر"بأبيات من شعره أو بكلمات تشبه الكلمات التي يتبادلها صديقان أو جليسا سمر. في حين تجد من يجلس قرب التمثال الآخر هادئاً، متكلماً بصوت خافت، مناجياً،"شهرزاد"، لا ليسمع"حكاية"من حكاياتها، بل ليسمعها"حكايته"هو - وغالباً ما تكون"عاطفية". اليوم أصبح شارع أبي نواس"مهجوراً"، لا أحد يرتاده، وما من مقهى من مقاهيه يفتح أبوابه... ولا رائحة لشواء السمك"المسكوف"تنبعث من أطرافه. فهو، يقابل ما يعرف ب"المنطقة الخضراء"- وللمنطقة دلالاتها الأمنية - و"نقاط السيطرة العسكرية"قسمته أوصالاً. فأصبح سير المارة محفوفاً بالخطر والعربات المصفحة والمجنزرات التابعة لقوات الاحتلال كثيراً ما تتجول فيه من قبيل"النزهات الأمنية". هذا كله جعل من شارع أبي نواس - الشارع السياحي الأهم في بغداد - مقفراً نهاراً، باعثاً على القلق والخوف بدءاً من المساء. ونمت الأدغال في كل مكان على أطرافه، وتهاوى الشجر، أو تهدّل حتى بلغت الأغصان الأرض... ولا يملك من يتاح له المرور به، مصادفة، إلا النظر إليه بأسف وحسرة. قال أحد الرواد السابقين لهذا الشارع انه مرّ به في منامه، فسمع"شهرزاد"تكلّم"شهريار"وتقول:"ها نحن، أيها الملك"السعيد"، في الألفية الثالثة من حكاياتنا نجد نفسينا بين النهر واليابسة... فلا النهر يؤنسنا، ولا هذا الدرب يحمل إلينا الأصدقاء والزائرين فيلقي بالطمأنينة في قلوبنا. بل أصبحت أجد نفسي، كما أجدك، في وحشة قاتلة من حياتنا". وصمتت"شهرزاد"ثم تساءلت:"ترى، بأي حكايات يمكن أن نستأنف أيامنا؟". قال"الراوي":"وقبل أن يدرك شهرزاد الصباح سمعت أصوات جنازير قوات الاحتلال تهز الشارع من حولها. فسكتت عن الكلام المباح".