يعتبر متحف "اللوفر" واحداً من أهم وأعرق المتاحف العالمية، وفي البداية شُيد كقلعة تحمي مدينة باريس، وأصبح مقراً للحكم، ثم متحفاً خالداً يحفظ للبشرية ذاكرتها عبر الأزمان. ويعد الجناح المصري في "اللوفر" من أبرز أجنحته، وبعد التوسعات الأخيرة التي وصفت ب"الثورة" زاد عدد القطع المعروضة الى حوالى خمس وخمسين ألف قطعة أثرية، وتضاعفت مساحة العرض فبلغت أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة متر، تمتد عبر تسع عشرة صالة في المتحف، ليصبح بذلك أجمل وأغنى المتاحف المصرية في العالم، لدرجة أنه وُصف من قبل المختصين ب"الجناح الأسطوري". وتجيء البداية ، في الخامس عشر من أيار مايو 1826 م، عندما أصدر "شارل العاشر" أمراً ملكياً بإنشاء "الجناح المصري" في "اللوفر"، وتعيين جان فرانسوا شامبليون أميناً عاماً له، تقديراً لجهوده الدؤوبة ومناداته المستمرة بانشاء متحف للآثار المصرية. وكانت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت 1798 - 1801 م، أولى محطات النهب الفرنسي للآثار المصرية، اذ قام افرادها بجمع ما استطاعوا جمعه من آثار مصر ليحملوها الى فرنسا. لكن حالفهم سوء الحظ هذه المرة، فسقطت كل هذه الآثار التي جمعوها بما فيها حجر رشيد الشهير، في أيدي اعدائهم الانكليز بعد هزيمة عسكرية مريرة. وانتقلت تلك الآثار الى انكلترا، التي أسست بها واحداً من أروع أجنحة "المتحف البريطاني" في لندن.. "الجناح المصري". وجاءت أولى مجموعات الآثار المصرية الى "اللوفر" من صديق نابليون الشخصي وآخر مدير للمتحف الامبراطوري، الرسام الفرنسي المعروف فيفان دنيون 1747 - 1827 م، واشتملت على تماثيل ملكية عدة، ودخلت المتحف في العام 1793 م. وتبعها 16 قطعة أخرى في عهد لويس السابع عشر. وعندما اعتلى شارل العاشر العرش، عُرضت مجموعة ضخمة من التماثيل المصرية القديمة احتفاء بهذه المناسبة، واشتملت على تمثال المعبودة "ايزيس" الضخم من فيللا الامبراطور الروماني هادريان 117 - 138 م، وثلاثة من تماثيل الكتلة للنبلاء "آخ - آمون - رع" و"بادي - آمون - أوبت"، و"واح - إيب - رع"، والتمثال الجاثي للمدعو "ناخت - حور - حب" وتمثالين للملكين "نفرتيس الأول" و"أكوريس" من الأسرة 29 399 - 380 ق.م. وأحضر الكونت دي فوربي التماثيل الجميلة للمرأة الرمز "سخمت" الممثلة لهيئة أنثى لها رأس لبوءة. وأهدى ابن تاجر الآثار "بيير بول تدنا - دوفن" التابوت الحجري الأول ل"أيونا" إلى "لويس الثامن عشر". وحتى قبل انشاء الجناح المصري في "اللوفر"، كان شامبليون يحاول كسب الرأي العام لصالحه من أجل الاعتراف الكامل بالفن المصري القديم. فحاول قدر استطاعته ان يحضر روائع هذا الفن إلى باريس كي يقنع المسؤولين الفرنسيين بجمال وعظمة الحضارة المصرية القديمة، التي هي - في رأيه - أعظم حضارات الدنيا قاطبة". وفي العام 1824 م، فوض شامبليون شراء مجموعة "دوران" التي بلغ عددها حوالى 2149 قطعة أثرية، لتصبح بحق أولى مجموعات الآثار المصرية الضخمة التي تدخل "اللوفر"، ووصفها أمين الآثار المسؤول عن تقويمها الكونت كلار قائلاً: "يجعل تنوع وروعة هذه الآثار - والتي تشكل بمفردها معرضاً جميلاً، يظهر كل شيء يتعلق بمصر - منها مجموعة صالحة للفن والتعلم، وليست أقل أهمية من تلك التماثيل الضخمة التي تملأ اللوفر، فهي عن ذلك البلد المدهش المتفرد مصر". فعلاوة على حوالى 1225 قطعة من التمائم والفنون الصغرى والمومياوات والأواني والحلي، اشتملت المجموعة على العديد من التوابيت المتميزة والمعروفة ب"توابيت دوران" ولوحات "سنوسرت" و"أوزير - رع" والتمثال النادر ل"مري آمون" والتماثيل الصغيرة ل "آمون - إم - أوبت" و"تامروت". وصدّق "شارل العاشر" على أمر شراء هذه المجموعة في الرابع عشر من كانون الأول ديسمبر 1824 م، وكانت لحظة فارقة في تاريخ الجناح المصري في "اللوفر". ونظراً لضخامة المجموعة وتميزها، اقترح التقرير الأولي المرفوع الى السلطات الفرنسية إنشاء جناح خاص للآثار المصرية في "اللوفر"، على أن يُطلق عليه اسم "متحف شارل العاشر". وعندما أقدم القنصل الفرنسي العام في مصر وجامح الآثار الشره، براناردين دروفتي على بيع مجموعته الخاصة الهائلة، والتي جمعها عبر سنوات عمله الطويلة في مصر، رفضت فرنسا شراءها، نظراً لمغالاته في ثمنها. وعلى الفور، اشتراها ملك سردينيا شارلس فليكس وعرضها في متحف "كورين" في ايطاليا. وندم شامبليون أشد الندم على ضياع هذه المجمعة من أيدي "اللوفر". وعبر بحثه الدؤوب عن مجموعات أخرى، اكتشف شامبليون وجود مجموعة ضخمة في "ليفورنو" في ايطاليا، كوّنها أكبر لصوص الآثار المصرية في العصر الحديث، قنصل بريطانيا العام في مصر هنري سالت في الفترة من 1819 - 1824 م. وكان سالت أعظم ناهبي الآثار المصرية، فنهب معظم جبانات "طيبة" ومعابد الدلتا. فطلبها "المتحف البريطاني" لما بها من مجموعة من التماثيل الضخمة والنقوش الجميلة في العام 1818 م. فشحذ شامبليون فصاحته واستخدم ملكاته الخاصة للتأثير على شارل العاشر وحثه على شرائها، حتى يفوت فرصة الانتفاع بها على المتحف البريطاني. فكتب الى الدوق دي بلاكا الذي دافع بدوره عن شامبليون وقضيته العادلة، مستغلاً صداقته للملك ومطالباً إياه بالآتي: "يجب علينا أن نحصل على معظم المجموعات الكاملة والآثار الكبيرة، اذ تستدعي متطلبات دولتنا دولة العلم أن ننشيء متحفاً حقيقياً للآثار المصرية شاملاً كل المدارس والأساليب والأحجام، وعلى فهذا فإن مجموعة ليفورنو كاملة، وعما أعرفه عنها، أنها فرصة حقيقية لن تُعوض كي تكوّن فرنسا متحفاً مصرياً في اللوفر". ولفت الأمر الانتباه، واثار اهتمام الجميع، بمن فيهم شارل العاشر نفسه الذي أصدر مرسوماً ملكياً بالشراء على الفور في 23 شباط فبراير 1826 م، وكوفئ شامبليون على جهوده بتعيينه أميناً عاماً للجناح المصري الجديد في "اللوفر" في الخامس عشر من أيار من العام نفسه. وبمراجعة قوائم "اللوفر" المعاصرة ، فإن مجموعة "سالت" من الضخامة بحيث اشتملت على 4040 رقم دخول، وكانت من الروعة والتنوع بشكل تصعب معه المفاضلة بينها. ومن أبرز محتوياتها، تمثال "أبو الهول" الضخم من "تانيس" شرق الدلتا المصرية، والذي يُعد من أبرز معالم الجناح المصري في "اللوفر"، وحوليات الملك "تحتمس الثالث" 1479 - 1425 ق.م، وتمثال "سوبك حوتب الرابع" حوالي 1725 ق.م وتمثال "أمنحتب الرابع" أخناتون" في معابد ما بعد 1352 - 1336 ق.م، والأشكال المتنوعة لعلاقة "عنخ" الحياة الهيروغليفية، والتصوير الساحر للسيدة "ناي". والطقوس الجنائزية المصورة بدقة على تابوت الملك رمسيس الثالث 1184 - 1153 ق.م من الغرانيت الوردي، والآثار الخارجة من المقابر الأخرى، والعديد من مناظر الحياة اليومية المصورة على أدق الآثار وأصغرها حجماً، ولوحات مقبرة "نسو" الرائعة. وتمثل المجموعة، في عمومها، لوحة بانورامية شديدة التفاصيل لفنون وخصائص الحضارة المصرية القديمة. ويبرر تنوعها وضخامتها اللافتين حماسة شامبليون الزائدة لاقتناصها من بين أنياب الانكليز. وفي العام 1827 م، دخلت مجموعة القنصل "دروفتي" الثانية المهمة "اللوفر"، وأهدى شارل العاشر الناووس الغرانيتي الضخم للملك أحمس الثاني أمازيس 570 - 526 ق.م وباعه التابوت البازلت الضخم الآخر. وكان دروفتي تبع نابليون في حملته الشهيرة على مصر، وأصبح قنصلاً عاماً لفرنسا في مصر العام 1814 م، ومرة ثانية في الفترة 1820 - 1829 م. وكان جامعاً نهماً للآثار المصرية، واستخدم في ذلك الوسائل كافة، ومن بينها وسائل الحفر الحديثة، أكثر من معاصريه لصوص الآثار الآخرين، للتنقيب ونبش الآثار. وكان مساعده ومستشاره الرئيسي المثّال جان - جاك ريفو، الذي ساعدت موهبته الفنية وخبرته بالفنون دروفتي في كثير من قراراته. ورفض لويس الثامن عشر مجموعته الأولى، واشترى "فلك البروج" زودياك في سقف معبد دندرة في جنوب مصر بثمن باهظ على الفور، وبوصول هذا الأثر الفريد باريس، سار في موكب هائل، كموكب الغزاة المنتصرين وصار حديث المجتمع الأوروبي عموماً والباريسي على وجه الخصوص. وازدادت سعادة شامبليون عند تلقيه خبر الشروع في بيع مجموعة دروفتي الثانية العام 1827 م. فزلزل الارض وهز السماء، ليحصل عليها الجناح المصري بأي شكل وبأي ثمن، وفي آب اغسطس 1827 م، اهدى القنصل الماكر متحف "اللوفر" هدية مكونة من عدد من مجوهرات الفراعنة الساحرة. كان من بينها الخاتم الاروع المزّين بالخيول الجامحة. ولم تستغرق عملية البيع وقتاً طويلاً، اذ تمت في الحادي عشر من تشرين الاول أوكتوبر. وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه، تسلم شامبليون الكنوز مشتملة على روائع الذهب والفضة وكأس رمز المعرفة والحكمة المصري المبعود "تحوت"، ودخلت البقية الباقية "اللوفر" في ايلول سبتمبر 1828 م. واشتملت مجموعة الذهب على تماثيل "رمسيس الثاني" 1279 - 1213 ق. م و"سوبك حوتب" الضخمة، ورأس صغير للملك "امتحتب الثالث" والد اخناتون 1390 - 1325 واوستراكات شقفات فخارية جميلة لوجه احد الملوك الرعامسة الاسرتان 19 و20، وعدد من تماثيل الافراد الكبيرة الضخمة، وآلاف من لوحات المعبود "حورس". وتوابيت "جد - خونسو - ايوس - عنخ" وثلاثة توابيت حجرية ضخمة، تشكل في مجملها بانوراما عامة عن الحياة الاجتماعية في مصر القديمة. وفي الفترة من 1828 - 1829 م، سافر شامبليون الى مصر، وعاد محملاً بكنز ثمين من الآثار المصرية قُدِّر بأكثر من مئة قطعة مدهشة، اشتملت التابوت البازلتي للكاهن "جدحور"، والنقش الرائع للملك "سيتي الاول" والد رمسيس الثاني 1294 - 1279 ق.م والمعبودة "حتحور" من معبده في بيدوس في صعيد مصر، والتمثال الاعظم ل"كاروماما" الاسرة 25، والمنضدة العاجية الشديدة الجمال للملك "بيبي الاولا" 2321 - 2287 ق . م، واجزاء من اساسات معبد "الدير البحري" للملكة "حتشبسوت" 1473 - 1458ق. م في البر الغربي لمدينة الاقصر. وفي آذار مارس 1832م مات "جان- فرانسو شامبليون" 1790 - 1832م بعد حياة قصيرة 42 عاماً حافلة بالعطاء لبلده فرنسا والنهب المتواصل لآثار مصر، تاركاً الجناح المصري في "اللوفر" عامراً بأكثر من تسعة آلاف قطعة اثرية متنوعة، الذي تعرض من بعده للإهمال والتدمير، فعثر على نقش الملك "سيتي الاول" سالف الذكر مهشماً في التراب!. وجاء من بعده جان - جوزيف - دوبوا، الذي كان يُقطّع مناظر البرديات الجنائزية ويشرح النقوش البارزة، وكان كسلفه عليماً بأهمية المجموعات المصرية الخاصة لدى القناصل الاجانب في مصر، فطلب شراء أكبر قدر ممكن من مجموعة القنصل الفرنسي العام في الاسكندرية جان - فرانسوا ميمو خليفة دروفتي واشتريت بالفعل 158 قطعة اثرية بثمن زهيد، واشتملت قواعد وتيجان اعمدة معبد ابيدوس الملونة، الاروع في الحضارة المصرية القديمة. والاعمدة الخارجة من مقبرة "اختا" وتماثيل المدعو "سبا" وزوجه "نسا" من الحجر الجيري الملون الرائعة. واعطى تعيين عالم الآثار المعروف والاستاذ ب"الكوليج دي فرانس" امانويل دي روجيه رئيساً للجناح المصري، دفعة جديدة للجناح. ففي العام 1853 م، طلب مجموعة "كلوت بك" المهمة، والتي اشتملت على 2678 قطعة اثرية، وكان انطوني - باتلمي كلوت يشغل منصب كبير اطباء محمد علي باشا، ونجح، بحكم موقعه، في تكوين مجموعة ضخمة من الآثار المصرية. اشتملت على التوابيت الحجرية والخشبية الكبيرة وحوالى 250 تمثالاً حجرياً ولوحة، ومجموعة كبيرة من البرونز، مع تماثيل رائعة للقطّة المقدسة""باستت"، و26 مومياء للحيوانات المقدسة، والعديد من الآثار الجنائزية والدنيوية. وقد جاءت المقتنيات من اماكن مختلفة، فجاء نقش "مر- ايب" النادر الدولة القديمة من منف من قرى الجيزة الحالية، فيما جاءت الاواني الكانوبية اواني حفظ احشاء المتوفي الخاصة بالملك "انتف الثاني" الاسرة الحادية عشرة والبرديات البطلمية من طيبة الاقصر. وبين الاعوام 1850 - 1870 م، دخلت مجموعات اخرى قادمة من مصر "اللوفر" عن طريق الشراء والهبات. وكان اكثر اصحابها من الديبلوماسيين الاجانب في مصر والذين كانوا يهدونها، بعد عودتهم، الى المتحف. ففي العام 1857 م، دخلت لوحات القنصل السويدي الارمني الاصل جيوفاني انستازي ومجموعات شافاليه دي بالين في العام 1859 م، واشيل فول في 1860 م، والكونت تسيكيفيسكز" في 1862 م. وفي العام 1863 م ، آثار نائب القنصل الروسي سليمان، وفي العام 1864 م، آثار القنصل الفرنسي دلابورت وفي العام 1867 م، آثار الفونس ريافيه والمجموعة الكاملة ل"روسي بك" المكونة من 1208 قطعة اثرية في العام 1868 م. * باحث في المجلس الأعلى المصري للآثار.