يستقبل "معهد العالم العربي" أجمل معارضه عن الفن الفرعوني في حضارة مصر القديمة. أي التي تغطي ثلاثة آلاف وخمسمئة عام قبل حكم الرومان. افتتح العرض رئيسا فرنسا ومصر جاك شيراك وحسني مبارك ومسؤولو متاحف البلدين المتحف المصري واللوفر. بدأ في الثالث عشر من تشرين الأول اكتوبر 2004 وسيستمر حتى نيسان ابريل من السنة المقبلة 2005. يشبه المعرض الذي أقيم قبل سنتين في فينيسيا مع تعديل بعض المعروضات، وتقويته بأعمال جديدة من المتحفين المذكورين. بعض منها يخرج للمرة الأولى من المتحف المصري، إما بسبب ضخامتها مثل تمثال توت عنخ آمون الذي يتجاوز الثلاثة أمتار، أو لهشاشتها مثل بعضها المحمول من "تل العمارنة" أو بسبب قيمتها التي لا تقدر بثمن كما هي بعض الأقنعة الذهبية والكثير من القطع النفيسة المحمولة من "تانيس". وهكذا أراد مدير المعهد الدكتور ناصر الأنصاري أن يختتم مدة إدارته بهذا العرض الاستثنائي الذي جمع أكثر من مئتي تحفة فنية تعكس خصوبة الذاكرة الحضارية. يعكس الاهتمام الاستثنائي الرسمي والعلمي للمعرض تلك العلاقة الوثيقة بين الثقافتين، خصوصاً منذ حملة بونابرت واكتشاف شامبيليون معاني الأبجدية الهيروغليفية. يكاد الفرنسي يعتبر نفسه شريكاً بها: "بمسلة الكونكورد" وحضور رأس نفرتيتي في الأزياء الانثوية الباريسية، واستعارة هيئات أبو الهول في الكثير من الساحات بخاصة "شاتوليه" وانتشار الاكسسوارات المصرية وصور معابد الكرنك وأبي سنبل. يبحث البعض عن أصل اسم باريس في أوزيريس. عنوان المعرض: "الفرعون" مختصر مفيد، لأنه يمثل المحور الذي تتحلق حوله الكنوز الفنية، والذي يمثّل السمعة الأساسية التي جعلت من الحضارة المصرية منذ الألف الرابع قبل الميلاد حكماً راسخاً مستقراً يمتد على مساحة وادي النيل، في الوقت الذي كان يتزامن مع نظام "ممالك المدن" التي سيطرت على سورية وبلاد الرافدين. حكم خلال هذه الفترة المديدة أربعون فرعوناً ينتسبون الى 31 سلالة حاكمة، زرعت عواصمها على ضفتي النيل مثل "طيبة". يقسّم المختصون هذا السياق بثلاث امبراطوريات تفصل بينها مراحل متوسطة. تعتمد سلطة "الفرعون" على النظام الوراثي والحكم المطلق لدرجة أن الازدهار الفني يرتبط باسمه، وكذلك الميثولوجيا الدينية، فقد عُرف أخناتون بتوحيده الديانة المصرية وتبسيطها حول إله الشمس. كذلك فإن تماثيل بعض الفراعنة وصورهم في المعرض تتقمّص هيئة الكائنات الرمزية المقدسة أو تتعايش معها. يتجسّد أحد تماثيل أخناتون في المعرض بوضعية "أوزيريس"، أو بهيئة النسر آمون. في واحد من مشاهد النحت الغائر يتحول "الفرعون" الى رمز الأسد الذي يلتهم أعداءه من الأفارقة، أو يتقمص الثور أو حورس أو أبا الهول. نتعرف على الفرعون من عناصر السلطة التي تواكبه في النحت، ابتداء من الصولجان القريب من هيئة "مفتاح الأبدية" الذي تحول الى صليب في الفن القبطي، ثم السوط أو التاج القلنسوة التي قد تتضاعف في بعض التماثيل والتي تغطي التسريحة الخاصة بالشعر المفرود الى الخلف، ثم وهو الأهم رمز "حية الكوبرا الأنثى" على الجبين، يرث الفرعون هذه العناصر من سابقه يوم تتويجه ويورّثها بدوره الى من يخلفه، تشارك زوجة الفرعون في ظهوره الفني القدسي، لعل أشهرها زوجة أخناتون "نفرتيتي" بشخصيتها النفاذة. وهكذا بحسب تعبير المعرض تتداخل الطبيعتان الإنسانية والالوهية في سمات "الفرعون". وبالنتيجة، فالفن المصري هو فن مدفني أكثر مما هو مرتبط بالقصور، وكنوزه التي يمثلها المعرض هي ذخائر القبور غالباً، بخاصة القبور الصرحية مثل الأهرامات الثلاثة. ابتدأ بناء الأهرامات من هرم "سقارة" في نهاية الألف الثالث، أشهرها الثلاثي القريب من القاهرة: خفرع ومنقرع وخوبس، أما هرم رمسيس فقد ظل 66 عاماً يُصنعه فيه تاريخه الشخصي من تماثيل وفريسكات. أما هرم توت عنخ آمون فهو الوحيد الذي نجا بالمصادفة من النهب. فقد توفي في الثامنة عشرة من عمره، في المعرض تمثال نصفي يمثله شاباً، نُقلت غالبية القطع الفنية من متحفه في القاهرة. ما يذكّر بحجم الخسائر الفنية التي مُنيت بها مصر على مستوى سرقة الآثار، وما زال أبو الهول الى اليوم يربض من دون لحيته المتسربة الى لندن، كذلك فإن عظمة الأهرام تذكّر بالفلسفة الفنية للديانة المصرية التي تعتبر الموت استمراراً أبدياً للحياة، كذلك فإن مفهوم السلطة الوراثية يعكس التحوّل من الحال البشرية الموقتة الى أبدية الألوهية الفرعونية. لعل أعظم تبليغ لهذه الحال هو نظام النعوش المذهبة التي تحفظ مومياء الفرعون، يحفل المعرض بنماذج من أقنعتها الذهبية المرصعة بأنواع الأحجار الثمينة البالغة السحر. وعندما نتحدث عن "لعنة الفراعنة" لا نقصد أكثر من ذلك التأثير النوعي الأخّاذ في تقاليدها الفنية، بخاصة تلك المعبرة عن طقوس العبور الى العالم الآخر. يعانق المعرض صفحات من برديات "كتاب الموت" ورسومه. كما يحفل بتماثيل الفراعنة المشهورين المنحوتين بمواد مختلفة: من الغرانيت المتعدد الألوان الى الرخام والقرميد والبازلت والديوريت والأحجار الكلسية أو الرملية، زُرع في صالات العرض 15 رأساً بورتريه، من مثال رمسيس الثاني وخفرون وخوبس وتوت عنخ آمون وحفرن وأمنوفيس الثالث، لعل أشهرها هو تمثال "أخناتون" من الحجر الرملي الذي يتجاوز ارتفاعه المترين، مأخوذ من دعامة أحد معابد "الكرنك". يحفل المعرض أيضاً بعناصر رهيفة الصناعة، تُدفن عادة مع "الفرعون"، مثل العقود والأقراط والمعاطر والمباخر والآلات الموسيقية، أبرزها المنحوتة الخشبية لفتاة تسبح خلف الوزة والتي تحولت الى صحن صباغات الماكياج والتبرج. بعضها كان بمثابة مكافآت لكبار الموظفين والعسكريين من صناديق عاجية. وقد نُقل سرير توت عنخ آمون بتصميمه المدهش. ماذا يبقى من المعرض خارج اطاره الميثولوجي؟ يبقى الأهم وهو السحر الفني الفرعوني الذي تأسلب خلال أجيال مديدة. يبقى سحر اللعنة الابداعية خصوصاً تلك المتمثلة ببعض الصفائح من النحت الغائر. لعل أبلغ أمثلتها التي لا تُنسى مشهد الملكة العارية التي تتناول وجبتها من البط المشوي، تتفوّق خطوطها الانسيابية على أي تعبيرية معاصرة، خصوصاً أن تشريحها يخضع الى سمو العلاقات الهندسية الدائرية، ما يقودنا الى أهمية بعض الرسوم التدريبية على نسب الرأس والأيدي. يبقى وجه أخناتون الذي يعصى على النسيان بشفتيه البارزتين والمحددتين بطريقة فرعونية، وتبرز عيناه اللوزيتان وأنفه الحاد ووجنتاه النحيلتان. أما العبور من أسلبة خطوط النحت الغائر الى ايقاع راقصات معابد فريسكات الكرنك وأبي سنبل والأقصر ووادي الملوك وصولاً حتى وجه أخناتون السحري... يقودنا كل هذا الى عمق تأثير هذه التقاليد الغائرة في عمق تقاليد آلاف السنين في الفن المصري المعاصر: ابتداء من نحت مختار وسرديات سعيد العدوي بالأسود والأبيض وختاماً ببعث وجه أخناتون على قياسات عملاقة في تصاوير عادل السيوي. وهنا ندرك معنى الخلود في الأساليب الإبداعية، الذي يتجاوز معناه السلطوي الفرعوني.