عودة التحذيرات الرسمية الاسرائيلية من محاولة مجموعات متدينة إقتحام المسجد الأقصى تعني أن حكومة شارون تهيء لاقتسام المسجد الأقصى كمرحلة أولى لبناء الهيكل. وهذا الاقتسام سياسة رسمية طالب بها اهود باراك في مفاوضات كمب ديفيد 2. ولهذا يجب عدم الانخداع بمشكلة"المجموعات المتطرفة". ومن ثم وضع هذا المؤشر ضمن جملة المؤشرات الأخرى الماضية باتجاه تهويد القدس، مثلا ما عبرت عنه فضيحة بيع البطريرك الارثوذكسي اليوناني لوقفيات ارثوذكسية في ساحة عمر بن الخطاب داخل سور المدينة القديمة. ويجيء هذان المؤشران ضمن الخطة التي تشمل توسيع أراضي مستوطنة معالي ادوميم وضمها الى القدس الكبرى، وصولاً الى الاغوار على نهر الاردن. مما يقطع الضفة الغربية الى شطرين شمالي وجنوبي. ثم أضف قرار بناء ثلاثة آلاف وستمئة وخمسين بيتاً في المستوطنة المذكورة، كما التوسع في البناء في كل المستوطنات الاخرى. وقد اصطحب ذلك المضي قدماً في بناء الجدار. اما على مستوى المفاوضات، فقد أتى المفاوض الأمني الاسرائيلي بالعجب العجاب، بما لا يقبله عقل، ولا حتى مهزوم يجرجر قيوده واغلاله. فمفاوضات وقف اطلاق النار تستثني:"القنابل الموقوتة"، أي يمكن اطلاق النار على طالبة 10 سنوات تحمل حقيبة مدرسة، ثم من يشتبه بأنهم يعدون لعمليات، وثالثاً حق المطاردة. وفي مفاوضات تسلم مدينتي أريحا وطولكرم لم تمس الحواجز والنقاط العسكرية الأكثر خطورة وأهمية، مع الاحتفاظ بحق العودة الى ما تم التخلي عنه. والأهم اعتبار ما يتم موقتاً وتحت التجربة، مع تسميته اعادة انتشار وليس انسحابا. اما على مستوى المساجين فسيفرج عن تسعمئة على دفعتين من بين سبعة آلاف واكثر، وذلك ضمن ثلاثة شروط: ألا تكون أيديهم"ملطخة بدماء اسرائيليين"، وان يكونوا أمضوا ثلثي الحكم شريطة الا يزيد الثلث الباقي على سنتين، ويضاف عدم اطلاق منتسبي"المنظمات الارهابية". الى جانب ما تقدم تمارس ضغوط اميركية واسرائيلية مكثفة من أجل تفكيك البنية التحتية لتنطيمات المقاومة. لكن الأهم دعم بوش لموقف شارون ضد موقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ما يتعلق بأجندة المفاوضات، مما يعني ان ما يجري الآن هو فرض الأمر الواقع وفقاً لخطة شارون ومراحلها الأولى التي لم تصل بعد حتى الى تكريس واقع حدود الجدار. فالمطلوب عدم التطرق لموضوع القدس والمستوطنات والجدار، وعدم فتح أي ملف لا يوافق عليه شارون. طبعاً، ان الوضع على هذه الصورة فاضح. وعجبا من اولئك الذين يتغنون بتهدئة من جانب واحد، ويشيعون أوهاماً، أو وعوداً، لا وجود لها حتى على أجندة التفاوض. فالشعب الفلسطيني الآن في مأزق وفقد زمام المبادرة، ويكاد يفقد ما أنجزه في الأربع سنوات الماضية. وهنا تكفي مقارنة سريعة بين حال الدولة العبرية الآن وحالها قبل التهدئة وتفاهمات قمة شرم الشيخ، فمثلاً كان شارون في المأزق والعزلة في نظر الرأي العام الغربي، وهو يرتكب جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، وكان الوضع الداخلي الاسرائيلي في أزمة سياسياً واقتصادياً ومعنوياً وهجرة معاكسة. والا كيف تفسر خطة شارون بالانسحاب من قاع غزة وتفكيك المستوطنات والتخلي عن 40 في المئة من الضفة الغربية. بل من جانب واحد وبلا قيد أو شرط، بعد ان فشلت استراتيجيته في القضاء على الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني. ثم كيف يفسر ما لحق فوراً من ضغوط اميركية من اجل"التهدئة"، ولتقديم تنازلات مجانية فلسطينية وعربية لخطة شارون حتى لا تبدو كخطة الانسحاب من جنوبي لبنان. فاذا كان هنالك من لا يريدون ان يروا ان استراتيجية شارون وجيشه فشلت في القضاء على الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي، ولولا ذلك لما جاءت خطة الفصل من جانب واحد مع كل ما حملته من أزمة داخلية في حزبه لم يخرج منها تماماً بعد، فما ينبغي لهم الا يروا المأزق الفلسطيني الراهن في ظل التهدئة الكاذبة التي تحولت الى طريق ذي اتجاه واحد. بل عليهم في الأقل ان يستمعوا الى ما يبديه أبو مازن وعدد من المسؤولين معه من ضيق وتذمر من السياسات الاسرائيلية وما تسببه من احراجات، كما من الموقف الاميركي الذي دعم تلك السياسات والمخفي المطلوب منهم أعظم. وهذا كله يعني ان شبيهاً لما حدث في ايلول سبتمبر 2000 أخذ يلوح في الأفق. اذا صح ما تقدم تحليلا وتقديراً للموقف فهذا يقتضي الخروج بأسرع ما يمكن من المأزق الذي احاط بالفلسطينيين من خلال دخولهم في تهدئة، تلكم معادلتها ومسارها وسماتها الحاكمة. فهل من سبيل لاستعادة زمام المبادرة؟ الجواب: يبدو ألاّ مفر من العودة الى انتفاضة جديدة مناسبة لمعادلات الظرف الراهن. وذلك من خلال الانطلاق من وحدة الموقف الحالي، وما انجز من تفاهمات فلسطينية فلسطينية وفلسطينية عربية مصرية أساساً لكن ينقصها اعطاء دور للشعب الفلسطيني من اجل امتلاك زمام المبادرة، واعادة تحريك الوضع على غير ما يريد شارون وبوش. كيف؟ يدعى الى الاضرابات العامة والمحلية، والتظاهرات والاعتصامات، احتجاجاً على استمرارالاحتلال وسياساته في التعامل مع"التهدئة"و"المفاوضات"، ورفضا للتواطؤ الاميركي معه، كما استخدام التهدئة لتمرير الهجمة الاميركية الصهيونية على المنطقة في لبنان وسورية والعراق وايران. ومن ثم العودة بالعصا الغليظة عى رأس الشعب الفلسطيني وقيادته وقضيته. وبكلمة، ان الوضع الراهن واتجاهه كما تجليا خلال الاسابيع الماضية لا يمكن ان يستمرا، ولا يجوز القبول بهما. فاذا كانت الدولة العبرية والادارة الاميركية تتصرفان كما لو ان الفلسطينيين مهزومون وفاقدون لقدرة الاعتراض والممانعة والمواجهة فانهما سرعان ما سيكتشفان خطأهما كما اكتشفتاه طوال السنوات الاربع الماضية. فالنزول الى الانتفاضة الشعبية السلمية حتى بلا حجارة سيثبت منذ الوهلة الاولى من المحتاج الى التهدئة في هذا الظرف بالذات. جربوا وانظروا ردة الفعل مع اول تظاهرة واضراب سياسيين. فأميركا غير قادرة سياسيا ومعنويا على فتح الجبهة الفلسطينية، وهي تفتح الجبهات الاخرى. حقاً انها لضرورة ان تمسك القيادات الفلسطينية باللحظة، وتستعيد زمام المبادرة لتنظر ماذا سيفعل بوش بلون"غير برتقالي"علما ان البرتقال فلسطيني. وبمثل هذه الانتفاضة يقوى الموقف العربي والاسلامي والعالم ثالثي والرأي العام العالمي. وهو من جهة اخرى يقوى به موقف محمود عباس الذي طالما اعلن ان اعتراضه هو على"العسكرة"وليس على الانتفاضة. كاتب وناشط فلسطيني