لندع جانباً تلك النظرية القائلة إن الانتفاضة والمقاومة أثّرتا سلباً في موقف الرأي العام الغربي من كفاح الشعب الفلسطيني. وذلك بعد أن ثبت بأدلة متواترة لا تُدحض أن الذي حدث هو العكس تماماً. فقد أحدثت السنوات الأربع الماضية، بمحصلتها، تحولاً ملموساً في الرأي العام الغربي باتجاه التعاطف مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وأكثر باتجاه انكشاف حالة الاحتلال وجرائم الجيش الاسرائيلي بما لم يسبق له مثيل. وإلاّ ما معنى أن يعتبر أكثر من 59 في المئة من الأوروبيين ان اسرائيل أخطر دولة على السلم العالمي؟ ثم ليتذكر الرسميون الأوروبيون والروس وأمانة الأممالمتحدة، انهم كانوا طوال مرحلة اتفاق أوسلو مهمشين بل كانوا مركونين جانباً الى أن تُعد الطبخة، ومن بعدها الوليمة، بإشراف منفرد من قبل الراعي الأميركي، ثم يُدعون الى "جلي الصحون" أو قل دفع الأموال اللازمة. لكنهم أصبحوا في عهد الانتفاضة، والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، أو كما يسمونه "عسكرة الانتفاضة" شركاء من خلال "الرباعية" في "المطبخ والوليمة". فيا لهذه "العسكرة" كم كانت سلبية بالنسبة اليهم، وتستحق منهم وصفها ب"الارهاب" وأسوأ! وهذا ما يجب أن تتذكره مصر وعدد من الدول العربية كذلك. فقد رُكنوا جميعاً جانباً، وأُنكر عليهم دورهم في مفاوضات الوضع الفلسطيني. وما كانوا لينتزعوا بعضاً من ذلك الدور إلا غِلابا. ولعل مفاوضات أوسلو، وواي ريفر، ثم كامب ديفيد، شاهدة على حالهم ما قبل الأربع سنوات الماضية وحالهم اليوم في ظل المرحلة التي يسميها الكثيرون بمرحلة الانتفاضة والمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني بهدف دحر الاحتلال. ويسميها البعض القليل بمرحلة "عسكرة الانتفاضة". ودعك من البدعة الجديدة التي ذهبت الى تسميتها بمرحلة "الدم والنار". وذلك من أجل تجريدها من أهدافها السياسية أو اسقاط "مساواة" مستحيلة بين الشعب الفلسطيني والطرف الاسرائيلي - الأميركي على صراع تلك المرحلة. والطريف، بالمناسبة، ان الادعاء العام في قضية محاولة اغتيال الرئيس جاك شيراك غيّر عقوبة السجن المؤبد الى عقوبة مخففة بين ست وثماني سنوات. لأن دوافع المتهم ماكسيم برونيري "لم تكن سياسية لكنها تعكس بدلاً من ذلك ميولاً انتحارية". أي شرط الانتحارية يتنافى مع توفر الهدف السياسي! هذا ولا حاجة، أيضاً، الى تذكير محمود عباس الذي أطلق مصطلح "عسكرة الانتفاضة"، بأن السبب الأول في ما يقدم من دعم اسرائيلي وأميركي وأوروبي وعربي رسمي لوصوله الى الرئاسة من دون أي ايحاء يمس وطنيته الفلسطينية جاء بسبب حاجة كل هؤلاء الى الانتهاء من تلك "العسكرة" اللعينة. وبهذا تكون تلك "العسكرة" ورقته الرابحة الوحيدة في ليّ ذراع شارون أولاً، علماً أنه في ما عدا ذلك من موقف سياسي لا يختلف عن الرئيس الشهيد ياسر عرفات. بل كان أقل استعداداً منه للتنازل كما ظهر حتى الآن. وباختصار، ان المأساة بالنسبة الى مرحلة الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي، وفي المقابل انفضاح الاحتلال الاسرائيلي وجرائمه، ان خيرها عمّ على الجميع عدا شارون وبوش. ومع ذلك لم تستحق من كل الذين جنوا من ذلك الخير غير الهجاء ونكران الجميل. فعلى الأقل، إذا أريد دفنها حيّة فلا تحرموها من بعض الفضل ولو القليل. ثم لا تنسوا انكم إن نجحتم، لا قدر الله، في وأدها مقابل وعود وتوقعات، أو سوء تقدير، فإن أمامكم المفاوضات مع شارون وبيريز. فماذا ستقولون ان عدتم من "المولد بلا حمص" ما خلا، ربما، ما أنجزته تلك المرحلة من اجبار شارون على الانسحاب وتفكيك المستوطنات من قطاع غزة، فضلاً عن تفكيك بضعة مستوطنات وانسحاب من 40 في المئة من الضفة الغربية؟ أو ماذا ستفعلون ان بقي الجدار وبدأت الهجرة الاضطرارية بسببه؟ على ان ما يحتاج الى تفسير هو: لماذا راح شارون يبدي رغبة حجبها طويلاً، في تحسين علاقته بمصر. وذلك على رغم أن ما قدمه حتى الآن مجرد نزر يسير بعضه خارج الصحن الفلسطيني، وبعضه الغالب لم يبتعد قيد شعرة عن خطته المعلنة بما في ذلك تسليم معبر صلاح الدين الذي كان ضمن الانسحاب عن اعلان الخطة، ثم اضطر للتراجع عنه بسبب ضغوط معارضيه في ليكود؟ فالمتغير الحقيقي والناجم، بلا جدال، عن مرحلة السنوات الأربع الماضية هو حاجته الى التهدئة من أجل حل أزمته الداخلية التي أوصلت حكومته الى حافة الانهيار ودفعته الى الاستنجاد بحزب العمل، كما أمام مأزق تنفيذ خطته بعد أن تأكد أن لا تهدئة من خلال القوة القصوى واغتيال القيادات. فالتهدئة هي شرط الخطة التي ترمي الى تكريس واقعها. فاستمرار الانتفاضة والمقاومة والصمود الشعبي يُقوّض الجدار. وقد يفرض انسحاباً أحادي الجانب جديداً. ولمَ لا وقد حدث فعلاً من قبل، وكان البعض يعتبره من الخيال؟ إن الإشكال الأساسي اليوم هو تحويل خطة شارون من إجراء أحادي الجانب الى اتفاق فلسطيني - اسرائيلي، والى تفاهمات مصرية - اسرائيلية، مما يحقق تهدئة يريدها شارون بإلحاح. ومن هنا نشأت الرغبة في تحسين علاقاته بمصر. فالمطلوب انهاء "عسكرة الانتفاضة" التي طالما اتهمها البعض بأنها في مصلحة شارون. وقيل انها أفضل "هبة" قُدمت للمتطرفين الاسرائيليين ليكود أساساً وإذا بشارون وغالبية ليكود، ومعهم الرئيس بوش، يريدون الخلاص منها بأي ثمن، ولو بتنازلات تعترف بمصر طرفاً بل الطرف الرئيس. وكان هذا من ثابت محرمات الاستراتيجية الاسرائيلية "عملاً" و"ليكوداً". والآن، لنفترض، جدلاً، ان ذلك تمّ وتحققت الاتفاقات والتفاهمات الأولية هي حلول جزئية بطبيعة الحال، وساد الهدوء وانفتحت آفاق التسوية، فهل ثمة مؤشر واحد صادر عن شارون يتعلق بإزالة الجدار، هدفاً راهناً، أو تفكيك المستوطنات، أو العودة الى خطوط الرابع من حزيزان يونيو 1967، والأهم هل من مؤشر باستعادة القدسالشرقية والمسجد الأقصى بلا فوق لنا وتحت لهم وما بينهما لهم فيه "مسمار جحا"، مما يختلف عما طُرح في كامب ديفيد، وقد رفضه محمود عباس رفضاً قاطعاً، هذا من دون الاحراج في موضوعي حق العودة وحقوق الملكية الفردية والجماعية للفلسطينيين؟!