صُنفت القمة العربية في الجزائر هذا الاسبوع قمةً اعتيادية. وهذا بحد ذاته لافت لأن هذا زمن غير اعتيادي في البقعة العربية. جيد ان القمة جددت تمسكها بالمبادرة العربية الصادرة عن قمة بيروت عام 2002، ولو تم هذا بعد معارك لم يكن لها لزوم او طعم اساساً. فما كان ينقص تلك المبادرة التي اوضحت ان ظروف وشروط التطبيع التام بين الدول العربية واسرائيل هو انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية المحتلة عام 1967 هو الرزمة الانيقة القابلة للتسويق عالمياً، واميركياً اسرائيلياً بالذات. حسناً فعل القادة بتبني مواقف ضد الارهاب ومع الاصلاح، والى جانب خيار التفاوض مع اسرائيل، ومع العراق ونحو الجهود الافريقية الخاصة بالسودان، وغير ذلك من القضايا العربية الكثيرة المطروحة اقليمياً ودولياً. لكن ما افتقدته قمة الجزائر هو تماماً ما يحتاج ان يفهمه القادة العرب اليوم، وهو ان عليهم اخذ زمام المبادرة في كثير من هذه الملفات، بدلاً من انماط"الترحيب"و"الدعم"و"المباركة"او انماط تجاهل مسائل ودفن الرؤوس في الرمال حيال قضايا من الضروري الاعتراف بوجودها ومعالجتها بصورة تجديدية. حدث لبنان الذي يلتقط انفاس العالم كان ذروة لسخافة التجاهل في قمة الجزائر، وتجاهل زوال الاستقرار كركن اساسي في العلاقة الاميركية مع الحكومات العربية كان دفناً لرؤوس القادة في الرمال، إما نفياً لواقع مرير لهم، او رفضاً لمتطلبات البقاء في السلطة في عهد ما بعد الانقلاب الاميركي على معادلة الاستقرار. الامين العام للامم المتحدة، كوفي انان، الذي ذهب الى القمة العربية في الجزائر شبه مرغم لأنه متعب، تطرق في نهاية المطاف الى القضايا العربية بصورة جذرية اكثر مما تناولها القادة العرب علناً او سراً. اجتمع برؤساء الدول التي يتناول مجلس الامن قضاياهم مثل الرئيس السوري بشار الاسد والرئيس السوداني عمر البشير، وبوزراء خارجية الدول التي لم تتمثل على مستوى الرئاسة مثل لبنان. وبحث مع قادة مثل الرئيس المصري حسني مبارك اهمية ان تكون خطوات الاصلاح في البلدان العربية جدية وغير ناقصة. كوفي انان بدا وكأنه يمد الى بشار الاسد خشبة الخلاص انما ليلتقطها ايضاً هو بدوره للسباحة بعيداً عن أزمة الاممالمتحدة وادعاءات فسادها في ادارة برنامج"النفط مقابل الغذاء"في العراق ومزاعم تورط كوجو انان في الفساد. فأنان، والارجح ايضاً مبعوثه الخاص لمراقبة تنفيذ القرار 1559، يجدان في العلاقة مع الرئيس السوري بوابة الى دور مفيد للامم المتحدة ومفيد للبنان ومفيد لسورية. انه بمثابة دور نزع فتيل الحرب، كذلك الذي قام به كوفي انان اثناء آخر زيارة له الى العراق عندما عاد من بغداد فرحاً ومنتصراً ولاقى استقبال الابطال، الى حين ارتكابه"خطأ"جملته الشهيرة"باستطاعتي ان اقيم علاقة عمل"مع صدام حسين، والتي كلفته غالياً مع الادارة الاميركية التي اعتبرت الجملة تحسيناً لوجه صدام وانقلاباً على قرار"شيطنته"اميركياً. رأي انان ولارسن هو ان تنفيذ القرار 1559 يقارب ان يكون خطة سلمية لاستعادة لبنان سيادته وخلاصه من التدخل الخارجي ومن استخدامه ساحة للميليشيات. فاذا وقع الرئيس السوري على التنفيذ التام، كان ذلك انتصاراً لديبلوماسية الاممالمتحدة وهدية للديبلوماسية الاميركية الفرنسية بصفتها راعية القرار 1559، اضافة ان ما يتمناه انان ولارسن وهو التمكن من لعب دور في احياء المفاوضات السورية الاسرائيلية كي يكون في الامكان لاحقاً استكمال حلقة المفاوضات، وربما تحقيق انجاز سلام عربي اسرائيلي شامل. العلاقة بين الرئيس السوري وبين تيري رود لارسن تبدو صريحة وبناءة. فبشار الاسد ابلغ رود لارسن الاسبوع الماضي ان الانسحاب السوري جيشاً واستخبارات، سيكون كاملاً وسيتم قبل الانتخابات البرلمانية في شهر ايار مايو. وجاء ذلك بعد عودة لارسن من زيارة دمشقوبيروت علماً بأنه اثناء الزيارة تعهد الاسد بمجرد اعتزام التقيد ببرنامج زمني للانسحاب لاحقاً، ثم اثناء اللقاء مع انان هذا الاسبوع اتخذ الرئيس السوري الخطوة المطلوبة وابلغه انه سيسلم الى لارسن البرنامج الزمني مطلع الشهر المقبل، اثناء اسقباله للمبعوث في زيارته الاخيرة قبل التقرير الى مجلس الامن في 19 نيسان ابريل. كوفي انان سارع الى ابراز ايجابيات مواقف بشار الاسد في تصريحاته العلنية وكأنه يريد شاهداً عالمياً على التعهدات ضماناً لتنفيذها، او يريد رفع الضغوط عن الرئيس السوري من خلال ابراز مرونته واذعانه للقرار 1559. مهما كان، فعبء الاثبات ليس على عاتق كوفي انان وانما على اكتاف بشار الاسد. ثم ان نمط تقطير الامتثال للقرار 1559 ليس مفيداً للقيادة السورية اذ انها لا تستفيد من زخم المبادرة، بل تبدو مضطرة للامتثال وعلى مضض. فهي ساومت في البدء على انسحاب على اساس اتفاقات الطائف ثم وافقت على انسحاب على اساس القرار 1559. وتهربت من برنامج زمني، ثم عرضت استعدادها لتقديمه. وخوّفت من فراغ امني ثم صمتت عن الكلام عنه فيما بدأت التفجيرات على الساحة اللبنانية بشكل يوجه اصابع الاتهام الى سورية حتى وان كانت بريئة من الانفجارات. انها بصراحة سياسة مبعثرة لم تكسب الصدقية والثقة بها حتى الآن برغم ايجابيات الخطوات المبعثرة. الامتحان الجدي لحقيقة النوايا السورية هو في علاقة القيادة السورية بالاجهزة الامنية اللبنانية والشخصيات الامنية اللبنانية الموالية لها. فليس كافياً ان تعلن دمشق انها سحبت جميع قواتها وجميع رجال الامن والاستخبارات السوريين الى خارج لبنان، طالما هي تعارض اقالة او استقالة رجال الاجهزة الاستخبارية اللبنانية العاملين لحسابها. انها ستبقى متهمة بالتخريب والتفجير والتعطيل والتدخل المسيء في لبنان طالما تحمي هؤلاء الرجال من الاقالة والمحاسبة. فكل الحق مع زعيم المعارضة اللبنانية رئيس"اللقاء الديموقراطي النيابي"وليد جنبلاط في رده على وزير الخارجية السوري فاروق الشرع الذي قال ان نتائج التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد تجلب الدمار على لبنان. الحق مع جنبلاط في قوله ان"الوزير الشرع قال بأنه لا يجوز تحت شعار معرفة الحقيقة ان يجري تدمير لبنان، وهذا الكلام غير مقبول لانه بمعرفة الحقيقة يصان لبنان وتعطى الطمأنينة الى اللبنانيين". تقرير رئيس لجنة تقصي الحقائق الدولية، بيتر فيتزجيرالد، يوضح ان هناك حاجة الى"تحقيق دولي"وليس الى مجرد بعثة تقصي حقائق ما قامت به الاجهزة الامنية اللبنانية من تحقيق. انه يلوم الاجهزة اللبنانية على"نظافتها"المدهشة اذ لم تتحمل الانتظار حتى مسح الادلة بعد عملية الاغتيال الشنيعة، فأسرعت الى"تنظيف"الادلة نفسها بصورة تبرز الشكوك. التحقيق الدولي المطلوب يعطي صلاحيات استجواب واجراء تحقيقات ومقابلات مع مسؤولين في دمشق ايضاً وليس فقط في بيروت. وهذا التحقيق لن يأتي على النسق الذي تحاول الحكومة السورية التظاهر بأن لا خوف لها منه. انه سيكون تحقيقاً جدياً بآلية ميكانيزم ينشئها مجلس الامن الدولي. ولا بد ان كوفي انان ابلغ الى بشار الاسد هذا اثناء اجتماعهما على هامش قمة الجزائر. فتلك القمة التي تظاهرت وكأن لا علاقة لها بالملف السوري اللبناني اطلقت على نفسها نيران الاستهزاء. وما قاله وزير عربي الى وفد"الحياة"الى القمة لخص لاستهزاء اذ علق على عدم التطرق الى الملف السوري اللبناني بقوله"لو فضلوا ترك الامر لمجلس الامن الدولي كما تركوا امر العراق للولايات المتحدة من قبل". واضاف:"هذه القمة كرست عملياً مبدأ منع القمة من التعاطي مع الملفات العربية الساخنة، والجوهرية طبعاً. بين القضايا الجوهرية التي يتناولها مجلس الامن وتجاهلتها القمة العربية من الناحية الجوهرية، مسألة السودان. فلو اتخذت القمة العربية مثلاً موقفاً مسانداً للمواقف الاوروبية الداعية الى محاكمة الذين ارتكبوا جرائم حرب في دارفور امام المحكمة الجنائية الدولية، لكانوا سجلوا مع اوروبا موقفاً فائق الاهمية سياسياً، ولكانوا سجلوا لدى الرأي العام العالمي موقفاً كشف ان هناك ما يمكن تسميته بالضمير العربي. قرر القادة العرب بدل ذلك، عدم التقاط"البطاطا الساخنة"وتركها الى ... مجلس الامن. الخلاف على الصحراء الغربية الذي سئم مجلس الأمن منه اعيد مكرراً الى... مجلس الأمن. موضوع العراق، بالطبع، دولي أكثر مما هو عربي من وجهة نظر القمة، ولذلك أنه بدوره مقنن في... مجلس الأمن. كل هذا في الوقت الذي لا يكف فيه التذمر العربي من مجلس الأمن و"ازدواجيته"في الاصرار على تنفيذ القرارات التي تطالب العرب بالتنفيذ فيما يتم تجاهل القرارات التي تطالب اسرائيل بخطوات. والأمر الآخر اللافت الذي سرق الأضواء في قمة الجزائر هو الدور الأردني فيها. فلقد تمكن وزير الخارجية هاني الملقي من افساد علاقة الأردن بأكثر من جار وعضو في جامعة الدول العربية لدرجة جعلت العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني يلهث وراء الأحداث في أسبوع ميزته السيئات. ما أوضحه الملك عبدالله في حديثه مع كاتبة هذا المقال ان ما حدث هو زلزال سوء التفاهم وليس أبداً سياسة مختلفة للأردن. وقال إن الهدف الرئيسي كان منذ البداية التركيز على أهمية ابراز مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله في قمة بيروت عام 2002، وليس تعديلها. مدح نتائج قمة الجزائر التي غاب عنها، لأنها تمسكت بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت، وأكد على فوائد ترويجها. لمّح الى أن بينه وبين وزير خارجيته حديثا لدى عودته الى عمان. ولربما كان من المفيد للقمة العربية المقبلة أن"تمنع"تمثيل الوزراء للملوك والرؤساء، ليس فقط لمنع"التجربة الأردنية"من التكرار، وإنما أيضاً لتتخذ القمة طابع القمة بدلاً من طابع اثبات"الغياب"الى جانب اثبات"الوجود". ثم لقد حان للتجمعات الحكومية العربية، على مستوى القمة أو على مستوى الوزراء، أن تبدأ فهم لغة اليوم و"ألف باء"هذه اللغة هي البدء بالاستماع الى المعارضة والى التنظيمات والمنظمات غير الحكومية. يجب على الحكومات والقيادات العربية أن تفهم أخيراً أنها لم تعد قيّمة في الحسابات الأميركية، بل وفي حسابات دولية، لأسباب مختلفة، علماً أنها كانت ركناً من أركان الاستقرار الضروري عند الإدارات الأميركية السابقة... ولم تعد الآن. بكلام آخر، وبصراحة متناهية، ان ثمن البقاء في السلطة لم يعد متداولاً بالعملة القديمة ذاتها. جورج دبليو بوش أحدث انقلاباً جذرياً في السياسة الأميركية التقليدية نحو منطقة الشرق الأوسط، إذ قرر نسف معادلة ضمان المصالح الأميركية عبر استقرار الأنظمة. وهذا أمر لم يتباحث به القادة العرب، لأن كلا منهم في حال"نفي"تام رافض للاعتراف بأنه كان بالأمس ركناً وأنه اليوم عبء. عندما تمنت المعارضة اللبنانية على قمة الجزائر مساندة مطالبها في مذكرة على الملوك والرؤساء العرب، كانت تمتحن مدى"النفي"عملياً. وجاء تجاهل القمة لكامل الملف اللبناني اثباتاً على رعب القيادات العربية من شيء اسمه"معارضة". فهم تقليدياً اعتبروا"المعارضة"، بغض النظر عن هويتها،"العدو"، ووجدوا في تضامن السلطة حماية للسلطة في كل بقعة عربية. وإلى القادة العرب، في هذا الأمر، لفت نظر وانتباه: ان المعارضة العربية تلجأ الى الخارج لأن الداخل العربي لا يفهم ضرورة التجاوب معها، ولذلك، ان كل تهمة توجه الى أي معارضة عربية تتوجه الى الخارج بأنها"عميلة"، ان كانت معارضة مصرية أو لبنانية أو مغربية أو سورية أو غيرها، تهمة باطلة. فالعجز هو عجز القيادات العربية والقمم الخائفة من مواجهة الوقائع في الساحات العربية. قمة الجزائر كانت اعتيادية وليس كارثية. ما افتقدته هو الهيبة والفكر التجددي وضرورة الإقدام باستراتيجيات بدلاً من تقطير الموافقة على مطالب دولية واقليمية ومحلية، اصلاحاً كانت أو انسحابات أو اقراراً بوقائع بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال وسيلة لبقاء الأنظمة. فليت القمة العربية المقبلة يحضرها جميع الملوك والرؤساء ويدعون اليها جميع قيادات المعارضة ليحدث أخيراً في المنطقة العربية شيء جديد نوعياً لم يحدث في مكان آخر... ليقع حديث للأخذ والعطاء بدلاً من لغة القمع والاستبعاد والتهديد واعتبار"المعارضة"عدواً شخصياً للعائلات المستبدة والحاكمة.