تحتفل الاوساط الأدبية الفرنسية في هذه الايام بالذكرى الخامسة والعشرين لرحيل واحد من أكبر المفكرين والمبدعين الفرنسيين في القرن العشرين: جان بول سارتر آذار - مارس - 1980، كما انها سوق تحتفل بعد اسابيع قليلة بالذكرى المئوية الأولى لولادته حزيران - يونيو - 1905. ومعنى هذا، بالطبع، هو ان فيلسوف"الوجودية"الأكبر في القرن العشرين، وصاحب المسرحيات الفكرية الذهنية التي لا تزال حية بيننا، والناقد الفكري والأدبي، والمناضل السياسي - بكل تقلباته - سيعود ليملأ الدنيا ويشغل الناس، في فرنسا، وربما في أوروبا الفكرية ايضاً، شهوراً عدة، من دون ان يعني هذا، انه ربما يعود الى الرف بعد ذلك. فالحال ان سارتر لم يكف عن الحضور، بكتبه، بمواقفه، بآرائه... باختصار: بصفته واحداً من الذين عاشوا القرن العشرين طولاً وعرضاً، هو الذي واكب احداث القرن وافكاره، من موقع اندفاعي لا يلين. ونعرف ان هذا أوصله الى الاعتقال، والى ان يشهّر به، ذات اليمين وذات اليسار. والحال ان الرجل كان يجد عزاءه دائماً في عبارة، كثيراً ما جرى تناقلها والاستناد اليها في الحياة الثقافية الفرنسية وتقول، في معرض الاشارة الى الخصام السياسي الدائم الذي دام طويلاً بين ريمون آرون، الفكر العقلاني"اليميني"الفرنسي، وسارتر، بصفته مفكراً عقلانياً"يسارياً": انني أفضل ان أكون على خطأ مع سارتر، من ان أكون على صواب مع آرون". تقدم وحداثة ذلك ان سارتر كان، دائماً، يمثل التقدم، بكل تخبطات هذا التقدم، ويمثل الحداثة، بكل تناقضاتها. فاذا ما سلمنا بأن من أبرز سمات التقدم والحداثة، في القرن العشرين، انتشار فن السينما، وحلوله، في احيان كثيرة، محل الكثير من ضروب الأدب والفن، يصبح علينا ان نتساءل: اذاً، أين كان سارتر من فن السينما؟ فنحن نعرف ان سارتر كان كاتباً مسرحياً وفير الانتاج، كما انه كتب الرواية والنقد، بل ان ثمة في مقالاته ودراساته النقدية ما يدنو من الفن السابع كثيراً. كما اننا نعرف ان السينما، في أزمان متفاوتة، اقتبست بعض أبرز أعمال سارتر الابداعية، أفلاماً، سنرى في السطور التالية ما اذا كانت أتت على مستوى فن هذا الكاتب الكبير. منذ الآن لا بد من ان نقول ان جان بول سارتر، كان هاوي سينما كبيراً، اذ عرف عنه حضوره الافلام في شكل متواصل، وإن كانت تجربة الرجل المباشرة مع السينما، لم تنل رضاه أبداً. وتقول تجربته، لأن ما هو غير معروف كثيراً عن سارتر، هو انه قد حدث له - كما الحال مع ويليام فوكنر وكليفورد اوديت وسكوت فيتزجيرالد، في هوليوود، ومع أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ، في مصر - ان اشتغل للسينما، بالفعل، ككاتب سيناريو محترف، وذلك قبل زمن طويل من تكليف الأميركي جون هستون له بكتابة ذاك السيناريو الشهير حول"فرويد"، - والذي لطالما اختصر الحديث عنه، عن حكاية سارتر المجهضة مع الفن السابع -. ذلك ان شركة"باتيه"الفرنسية، لانتاج الافلام وتوزيعها، تعاقدت، وبعد تحرير فرنسا من النازية على يد الأميركيين، مع سارتر ليعمل لحسابها في كتابة السيناريوات، اذ قررت استئناف نشاطها السينمائي وانتاج افلام عالية المستوى. ولسوف يقول سارتر لاحقاً ان ذلك العقد الذي حرره من عمله المكبل كاستاذ جامعي، ومكنه من التفرغ للكتابة. ويبدو ان سارتر انتقل بهمة استثنائية خلال السنوات القليلة التالية، بحيث يذكر انه كتب نحو عشرة سيناريوات للشركة، من الصعب القول انها نفذت كلها، أو حتى، ان اياً منها قد نفذ في شكل يرضي سارتر. والحقيقة ان هذه السيناريوات ستظل طي النسيان، باستثناء ثلاثة منها نشرت في كتب وهي"الألعاب انتهت"1947 و"انفساد الامور"1948، و"الأنف المزيف"1947 - وهو سيناريو نشر بأكمله في عدد خاص من"مجلة السينما"... ولعل مقارنة بين ما كتبه سارتر في هذه النصوص، والافلام الثلاثة التي اقتبست عنها، ولا سيما فيلم"الألعاب انتهت"الذي حققه جان ديلانوا، تكفي لفهم موقف سارتر حين ابدى ندمه كثيراً، لاحقاً، على ذلك الوقت الذي اضاعه. ولعل من المفيد ان نقارن موقف سارتر هنا بموقف برتولد بريخت، الذي كانت له مع السينما، قبل ذلك بعقدين او أقل تجربة مماثلة، وخاصة بالنسبة الى تحويله"أوبرا القروش الثلاثة"الى فيلم. بالنسبة اليه اسفرت التجربة عن كارثة، ما دفعه الى ان يشتغل على تحقيق فيلم خاص به، عن الموضوع نفسه هو المعروف باسم"كوهل فومب". بالنسبة الى سارتر، سيبدو واضحاً ان النتيجة السينمائية لعمله، ما كانت لتهمه لولا انه هو أنفق وقتاً وطاقة في انجازها... بمعنى انه لم يكن، على الاطلاق ضد تحويل النصوص الأدبية والمسرحية الى افلام... كل ما في الامر، انه رأى ان غيره كان يجدر به ان يفعل ذلك بالنسبة الى نصوصه، هو، على الأقل. ويذكر هذا، ايضاً، بموقف نجيب محفوظ، الذي نعرف انه اشتغل كاتب سيناريو محترفاً واقتبس، مثلاً، معظم روايات احسان عبدالقدوس لحساب صلاح ابو سيف، لكنه رفض دائماً ان يشتغل كاتب سيناريو لأي من رواياته الخاصة، مع ان غالبيتها العظمى اقتبست للسينما. رأى سارتر، بسرعة اذاً، ان لا حظ له مع الفن السابع... غير ان ابتعاده سرعان ما بدا موقتاً... ذلك انه في العام 1953، كتب سيناريو بعنوان"تيفوس"لفيلم كان سيخرجه ايف آليغريه. وآليغريه هذا، الذي كان من أبرز نجوم الاخراج في فرنسا في ذلك الحين، حقق الفيلم ولكن في عنوان آخر هو"المتكبرون"1953، يومها ما ان شاهد سارتر الفيلم حتى سحب اسمه من عناوينه على الفور... مؤكداً ان النتيجة المرسومة على الشاشة، لا علاقة له بالسيناريو الذي كتبه، لا من قريب ولا من بعيد. بالنسبة اليه، وان لم يقل هذا الا مواربة، لم تكن السينما الفرنسية، في بعدها التجاري و"خوائها"الفكري، ايام الجمهورية الرابعة، مؤهلة لتحقيق افلام عميقة لا تكون ثرثارة ومملة في الوقت نفسه. التجربة"الأميركية" بعد سنوات قليلة سيخوض سارتر تجربة أميركية، تتعلق بأشهر"علاقة"له بالسينما. فهل سيكون حظه معها أفضل من حظه مع السينما الفرنسية؟ لنر! كانت التجربة، مع واحد من أكبر المخرجين الاميركيين في ذلك الحين - وربما في الاحيان كلها - ومن اكثرهم أوروبية: جون هستون، الذي كان عرف - ايضاً - بعلاقة سينماه الوثيقة بالادب، هو الذي نقل الى السينما اعمالاً لداشيال هاميت، وروبرت كارسون وماكسويل اندرسون وستيفن كران وهرمان ملفيل، وحتى الفرنسي رومان غاري، وغيرهم. واذ نذكر هذه الاسماء هنا فإنما لكي نقول ان هستون لم يكن على ضفة اخرى بالنسبة الى سارتر. ومع هذا أسفرت التجربة عن اخفاق ذريع. وكتب سارتر السيناريو مرتين لا مرة واحدة، وحقق هستون الفيلم، ولكن في شكل لا يمت بأي صلة الى نسختي السيناريو. والأكثر اثارة للدهشة هو ان السيناريو كان عن حياة سيغموند فرويد رائد التحليل النفسي... وان سارتر اعطي كل الصلاحيات والامكانات لمعالجة الموضوع كما يشاء... حدث ذلك في العام 1960. والفيلم عرض بعد شهور من انجازه... والمدهش انه، على رغم رأي سارتر فيه كان فيلماً متميزاً لمزيد من التفاصيل حول رأي سارتر في المشروع، انظر مكاناً آخر في هذه الصفحة. الذي حدث يومها هو ان سارتر، حين أنجز كتابة النص، تبين ان النص الذي كتبه يحتاج الى فيلم من تسع ساعات... ومع هذا رفض أي اجتزاء حقيقي وجدي لما كتب... ثم حين كتب النسخة الثانية، تضاءل الوقت الى... خمس ساعات. اذاً، حتى في التجربة"الأميركية"لم يحصد سارتر الا الفشل... وكان من نتيجة ذلك ان طوى منذ ذلك الحين، صفحة رغبته في ان يكتب سيناريوات سينمائية. لعله أدرك انه لم يخلق لهذه المهنة. فهل كان حظ اعماله حين نقلت الى الشاشة، عن سيناريوات كتبها غيره ولم يتدخل هو في افلمتها على الاطلاق، أفضل من حظ سيناريواتها؟ ابداً... وهو الذي قال هذا على الأقل، اذ انه حين سئل عنها اكتفى بوصفها"انها اخفاقات مثيرة للأسى". وهو كان يتحدث بهذا التعبير عن افلام يمكن القول - على اية حال - انها كانت اكثر نجاحاً وجدية من الافلام المحققة عن سيناريوات له... وهذه الافلام هي، على التوالي،"الأيدي القذرة"1950 و"المومس الفاضلة"1952 و"خلف أبواب مغلقة"1954 ثم بخاصة"اسرى آلتونا"الذي حققه الايطالي الكبير فيتوريو دي سيكا في العام 1963، الذي كان من افضل وأنجح ما حقق انطلاقاً من مسرحية لسارتر، حتى وان كان ثمة اجماع على انه... في الوقت نفسه، كان من أضعف افلام دي سيكا. علماً ان السينما الايطالية كان لها تجربة اخرى مع نص لسارتر، في العام 1957، حين حقق الممثل فيتوريو غاسمان، فيلماً مأخوذاً عن مسرحية"كين"لسارتر... هذا الفيلم الذي ظل لفترة طويلة جداً من الزمن غير معروف في فرنسا، عرض حين انجازه في ايطاليا حيث حقق نجاحاً كبيراً. واذا كان لا بد من القول ان"كين"غاسمان، أتى يضاهي لاحقه"اسرى التونا"لدي سيكا، نجاحاً، فإن واحداً من أفضل النجاحات السينمائية المرتبطة بسارتر، يظل اقتباس الفن السابع لنصه"الجدار"على يد سيرج روليه في العام 1967... ولقد اقر سارتر نفسه يومها بجودة هذا الاقتباس، معتبراً اياه، أفضل نجاح له في الفن السابع، الى جانب الاقتباس الذي كان هو نفسه حققه في العام 1957، عن مسرحية آرثر ميلر"ساحرات سالم"، في فيلم حققه ريمون رولو. ويبقى اخيراً انه من غير المنطقي اختتام هذا الكلام من دون الاشارة الى"علاقة"اخرى لسارتر بالسينما، أتت عبر فيلم حققه ألكسندر أستروك صاحب تيار السينما / الفيلم في العام 1972، عن حياة جان بول سارتر وفكره، ورفاقه ومجلته"الأزمنة الحديثة"... وهو الفيلم الذي يظل أفضل وثيقة سينمائية عن جان بول سارتر، الذي يظل مع بداية القرن الحادي والعشرين، واحداً من اكبر مفكري وفناني القرن السابق، على رغم ان السينما ستظل لفترة طويلة تندب حظها معه. سارتر بين هستون وفرويد: حكاية اللاوعي في حوار طويل أجراه الناقد الفرنسي ميشال كونتا، الذي عرف عمل سارتر جيداً، وكتب عنه كثيراً، مع صاحب"الوجود والعدم"و"أبله العائلة"و"الغثيان"، وهو حوار نشر في كتاب مسهب، سأل كونتا سارتر عما اذا كانت هناك أعمال قام بها خلال حياته، من أجل كسب بعض المال؟ فكان جواب سارتر:"أجل... كان ثمة في حياتي أعمال من هذا النوع بالتأكيد. وعلى أي حال أذكر واحداً منها... انه السيناريو عن فرويد الذي كتبته لحساب جون هستون. في ذلك الحين كنت اكتشفت لتوي انني خالي الوفاض تماماً، وليس معي قرش - طبعاً أعتقد بأن أمي أعطتني يومها مبلغاً من المال سددت به ضرائبي وبعض الديون، لكنني في المقابل، كنت مفلساً بعد ذلك تماماً. في تلك اللحظة، قيل لي ان جون هستون يريد ان يراني. وبالفعل جاءني ذات صباح ليقول لي:"أعرض عليك ان تحقق فيلماً عن فرويد، وسأدفع لك مقابله 25 ألف فرنك 25 مليون فرنك فرنسي قديم. فرددت ايجاباً من فوري وقبضت المبلغ". فلما سأله كونتا عما اذا كان من شأنه يومها ان يقبل العرض نفسه، لو أنه جاء من سينمائي مجهول أو مفتقر الى الموهبة أجاب سارتر:"أبداً... بالتأكيد. ومع هذا أقول لك انه كان ثمة في هذا المشروع أمر هزلي بعض الشيء. لقد طُلب مني ان أكتب سيناريو عن فرويد، سيد فكرة اللاوعي من دون منازع، أنا الذي كنتُ قد أمضيت حياتي كلها مؤكداً ان اللاوعي غير موجود على الاطلاق. وفي البداية هستون عن لم يكن يريد مني ان أكتب عن اللاوعي في السيناريو. في نهاية الأمر كان هذا الموضوع هو الذي اقام الشقاق بيننا فانفصلنا واستنكف هستون على العمل على السيناريو الذي كتبته. بيد ان العمل على هذا الفيلم أفادني كثيراً، اذ حسّن معرفتي كثيراً بفرويد، وجعلني أعيد النظر في رأيي باللاوعي".