سمير رافع غير المعروف مصرياً وعربياً بما تستحقه إنجازاته التشكيلية رحل عن دنياه التي سجن نفسه فيها، وكانت باريس هي منفاه وسجنه الفني إن جاز التعبير. من هو سمير رافع؟ ولد سمير رافع عام 1926. بزغ اسمه وهو طالب حيث كتب عن تاريخ الفن كتاباً، اشترك في تأسيس جماعة الفن المعاصر، وكان يزامله الجزار، حامد ندا، ماهر رائف، مسعودة، ك. يوسف. كان سمير رافع هو الأكثر تقديراً والأهم منذ البداية. قابل بيكاسو وحاوره بندية. قدمه بيكاسو لجياكوميتي وقامت بينهما صداقة استمرت. حاور سلفادور دالي وكانت لوحته"الزمن"المنشورة مع هذا النص موضوع النقاش الذي انتصر فيه الفنان لنفسه. شارك في الثورة الجزائرية وكان مقرباً إلى بن بيللا. بقدوم بومدين أصبحت حياة الفنان وحياة أسرته في خطر بعد الاتهامات التي وجهت إليه. عاش في باريس بعد نجاته - ذهبت أسرته إلى مصر - وحيداً، غريباً، معتزلاً وفي النهاية مريضاً، أنتج وأنتج واحتمى بلوحته التي أصبحت ملاذه الوحيد. وعاد باطل الأباطيل. الكل باطل. والفن ليس قبض الريح. تعود ألف لوحة وثلاثة آلاف رسم بعد مجهودات مضنية من وزارة الثقافة قادها الفنان فاروق حسني وساهم فيها رجل الأعمال نجيب ساويرس ودعمها ابنه"ساهر"والساهر حقاً على تراث أبيه. رحل الرجل الذي غادرنا وعاد الفنان وعادت أعماله إلى قلب"الأم"التي تستحق والتي أعطت ابنها الموهبة والتي لا تعطيها إلا للندرة النادرة من ابنائها. ألم اكتب في سيرتي الذاتية: باطل الأباطيل.. الكل باطل.. والفن ليس قبض الريح. لا أعتقد أن باريس كتبت كلمة واحدة عن رحيل فنان اختارها موطناً ثانياً له. نردد في القاهرة الآن حكاية سمير رافع الفنية بألق خاص وشجن خاص أيضاً، فما أثرانا وما أغنانا بأعمال سمير رافع الغنية. يثير معرض الفنان سمير رافع، والتي توزعت أعماله المعروضة بين قاعات قصر الفنون والتي اتسعت ل500 لوحة وقاعات مجمع الفنون والتي اتسعت لمئتي لوحة أخرى، ويثير هذا العرض الكبير والشامل كثيراً من القضايا الفنية على الساحة العربية التي انتمى إليها الفنان بلوحته وبوعيه وعراضة ثقافته، ولنترك حياته الشخصية لئلا نكتوي بنارها مثله، فكفاه عذاب الوحدة والمرض. تدعونا مائدة سمير رافع الفنية كفنانين فاعلين أو نقاد مساهمين، أو مؤرخين موثقين ومدققين إلى العمل بموازاة هذا العرض الثري فنياً وفكرياً. لا ينتمي كلامي هذا إلى النقد الذي لا أحمل أدواته، ولا التأريخ الذي لا أقدر عليه، ولكن كلماتي هي رؤية فنان لأعمال تستحق التزود والتعامل الجاد الذي يثير المتعة الفنية الحقة لمن يريد. العقل والعاطفة تمثل أعمال سمير رافع الزواج الذي لا ينفصم بين العقل والعاطفة، أو الوجدان أو التلقائية الفنية. أقول هذا لأنني أرى أن حركتنا الإبداعية ما زالت تنظر إلى الفنان المثقف بعين ريبة، كأن الإبداع يأتي من مناطق لا تمت إلى العقل والذهن!! كان سمير رافع فناناً مثقفاً بفتح القاف ومثقفاً بكسر القاف أيضاً. يستطيع الفلاح بناء تعريشة بتلقائية تدعونا إلى الاحتماء بظلها لكن بناء صرح كالهرم يحتاج إلى زواج العقل والمعرفة بالوجدان. يستطيع عازف الناي أن يشجينا بصرخة نايه وقت الغروب لكن البناء السيمفوني يحتاج إلى البناء العقلي احتياجه إلى العاطفة. تستطيع الأم بغنائها لأبنائها أن تعطينا السكينة، لكن كتابة المعلقات تحتاج إلى العقل مثل احتياجها إلى الوجدان. وكان عقل سمير رافع الحاضر في بناء لوحته، وفي مضمونها كأول ظهور للعقل في الفن المصري وجاوره وعاصره، وتقاسم معه تلك الهبة فناني الأثير إلى قلبي أيضاً رمسيس يونان والثالث راحلنا عن باريس أيضاً حامد عبد الله. والساحر هو فنان مثقف أثرى الإنسان الأول وعاونه على الحياة، ورؤية لوحة سمير رافع يجب أن تدخل من باب التذوق العقلي مثلما تدخل من باب التذوق الوجداني. لوحة سمير رافع امرأة تسيطر رجل يصارعها حيوان ذئبي شرس طائر يبدو أحياناً نبتة أو نباتات متوحشة هذه هي مفردات لوحة سمير رافع، يتجاورن، يتجاذبن، يتهامسن، يصرخن، يهللن، يتصارعن يتقاتلن، ويتضاجعن، ينهش الحيوان الذئبي لحم الأنثى، يهاجمها لاغتصابها، تقاتله، تصارعه، تسجنه ويسجنها، تلتهمه ويلتهمها، تحيطهما هالة من حيوانات برية شرسة تساهم في دراما المشهد المصور، يتبدى الطائر أحياناً شاهداً أو نذيراً، قدري الوجود والسمت، سماء ثقيلة، أو أفق صغير مغلق وضاغط إلى حد الاختناق، يساهم في ثقل اللوحة بناء مغلق محكم. الأشكال نحتية الوجود، معمار اللوحة طاغٍ وهندسي، وهنا نستطيع أن نفكر في استفادات الفنان من تاريخ الفن ومن الفنانين، هوى يصل إلى حد العبادة للخط في الفن المصري القديم، ناهيك عن الكتلة الصامتة، الشاخصة الأبدية الوجود. لوحة تكررت من دون تكرار هنا لا بد من التوقف لإثارة سؤال يبدو لي مزاحماً لتوارد أفكاري أمام لوحات سمير رافع. لماذا لم يتطور"الموضوع"كثيراً في أعمال سمير رافع منذ بداياته في الأربعينات، وتألقه في الخمسينات، وإخلاصه وانغلاقه على لوحته ونفسه منذ السبعينات، وإلى يوم رحيله وخلاصه؟ هل كان الإيمان بعبقريته باعثاً على الاستكانة وعدم الرحيل لأكتشاف آفاق جديدة للوحته؟! قد يكون هذا سبباً - لا أحب الاستنامة والاعتقاد به كثيراً - خصوصاً إذا أضفنا إلى إيمانه بذاته، نقداً واكب أعماله منذ بداياته في شرخ الشباب يقول إنه"الأمل في فن مصري عالمي"، أو يقول إنه"الأكثر موهبة"، و"الأفضل انتاجاً"، و"الأهم كفنان في جماعة الفن المعاصر"، ونسمع أيضاً أن بيكاسو قال عنه: هذا بيكاسو مصر! وأنا لا أرتاح إلى هذا الوصف، بل وأعتبره إقلالاً من قيمة سمير رافع الفنية، والتي لا أخفي إعجابي بها. هل كانت الغربة والعزلة عن منبع إلهامه هي التي دفعته إلى الحفاظ على ما اغترفه من وطنه الأم، حيث أوجد لنفسه سجناً وشرنقة أحاط به لوحته وحافظ عليها، وأغلق على نفسه لئلا يضيع في أفق غربي كان على دراية به نظرية سابقة على رحيله إلى أوروبا، وزادت هذه المعرفة بحياة نصف القرن المتصلة التي عاشها في مدينة باريس؟ هل كان العشق المستحيل، والعطش الذي لم يرتو أبداً في مضاجعة فكرته الأثيرة عن الصراع في الطبيعة والوجود الإنساني، والذي جعلني أطلق على لوحته"لوحة الصراع"؟ رسم اللوحة مرات ومرات وأحياناً التكوين نفسه، الإضافات لا تلحظها العين العابرة، لكنها موجودة ومتحققة لمن يريد التعمق والاستزادة والاستمتاع الفني. هل كانت تلك هي طبيعته الفنية، والتي علينا بقبولها بل واحترامها طالما أن هذا هو ما قدمه لنا الفنان وما جادت به عبقريته، خصوصاً أن التجربة وصلت إلى كمالها برحيل الفنان. التأثير والتأثر يقول البعض إن هناك تشابهاً بين أعمال الجزار وسمير رافع، وأنا أرى غير ذلك تماماً وسأدلل على قناعتي. كانت لوحة الجزار في مرحلته الموازية لأعمال سمير في الخمسينات لوحة تهتم بمعتقدات الشعب، المتحلقين حول الأضرحة، الممارسين لشعائر اسطورية غيبية، عالم الزار، والوشم، وزيارة الأضرحة، عالم سحري طقسي، أما عالم سمير رافع فهو عالم مادي، يصارع في الواقع لا غيبية هناك بالمرة، بل هو صراع من أجل البقاء حتى لو كان ثمن البقاء هو في التهام الآخر، ما أبعد الشقة بين العالمين وإن تكررت هناك بعض الشواهد الخادعة، مثل الكرسي الشعبي، أو القط أو... فالاختلاف واضح وبيّن بل وصريح. أيضاً ستثار قضية التأثر ببيكاسو، لكنني أقول لقد أخذ من آخرين غير بيكاسو وهم كثر، أذكر منهم رفرناند ليجيه خصوصاً في البناء وزهور الصلب والحديد، أخذ من ياكوميتي في بعض الطبيعة الصامتة، أخذ من هنري مور، كما أخذ من كثيرين، لكنه أنتج لوحة سمير رافع ليس إلا، وهذه سمة إيجابية في أعماله. سمة إيجابية وليست نقيصة لأن لوحة سمير رافع استفادت من تاريخ الفن، فالأيقونة القبطية ماثلة أمام عينيه مثلما ماثل أمامه الفن المصري القديم وهذا دليل على معاصرة الفنان. يدّعي سمير بأنه هو كاتب مانيفستو"جماعة الفن المصري المعاصر"، ونلاحظ هنا تلازم المصرية التي بحث عنها سمير رافع في لوحته واعتمد في هذا على تراث فني يعود في بعضه إلى سبعة آلاف عام، ومعاصرة حاول دائماً التهامها منذ نعومة أظفاره وهذا يفسر لنا اختياره لباريس، لكنه بالطبع ليس بالسبب الوحيد. وإذا اتفقنا معاً على أن زاد الفنان وزواده يكمن في الطبيعة / الحياة / الذات/ الانتاج الفني السابق واللاحق إن أمكن. كلمة أخيرة معرض شامل يثير في الحركة التشكيلية العربية التفكير في أهمية"توثيق"أعمال وحياة فنانينا، وبعد التوثيق تثير قضية"تقويم"أعمال فنانينا، وبموازاة التقويم لا بد من عمل الأبحاث الجادة للرسالات الجامعية. وكلمة أخيرة أهمس بها في أذن المسؤولين العرب عن الفن التشكيلي صارخاً: متى يعبر معرض شامل الحدود إلى البلاد العربية؟ ومتى يستمر المعرض الشامل لأشهر ثلاثة تتيح للمتلقي الاستيعاب والاستمتاع بهذا الكم الهائل من اللوحات؟ ومتى ستصدر كتب الفن الحقيقية؟ متى؟ متى؟ * فنان تشكيلي مصري.