ثمة قلق ظاهر في المجتمع السوري من تداعيات الأزمة الراهنة في العلاقات السورية ? اللبنانية واحتمالات تطورها: هل تعزل البلاد، وتفرض بحقها عقوبات قاسية أم تجر الى حرب؟ وأين مصلحة المواطن من كل ما يجري ومن الإصرار على استمرار الوجود العسكري في لبنان؟ في الرد على هذا السؤال البسيط، تثار جملة من الآراء والدفوعات هي أشبه بحجج وذرائع مما هي حقائق ملموسة على الأرض، خيطها الناظم الركون الى مقولات وشعارات ايديولوجية للدفاع عن الوضع القائم، ومحاولة لوقف تنامي المشاعر المتعاطفة مع حق اللبنانيين الطبيعي في التحرر. الرأي الأول، يجد استمرار القوات السورية في لبنان ضرورة حيوية عسكرياً لردع أي عدوان محتمل وللحفاظ على الموقع التفاوضي مع العدو الصهيوني بل ويعتبرها عائقاً مهماً أمام محاولات تغلغل اسرائيل في البنية المجتمعية اللبنانية، مستنداً الى مفاهيم عتيقة في قراءة توازن القوى من الوجهة العسكرية فقط، وهي اختلفت جذرياً مع انتهاء الحرب الباردة وتقدم نظرية جديدة للحروب وطابع ادواتها الحاسمة، ما أدى الى تراجع وزن العامل العسكري في معايرة امكانات الدول، وقوة حضورها، وأعاد الحسابات الى اصولها الصحيحة التي تحتل فيها الكتلة الداخلية بتكاملها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ثم العسكري، الموقع الرئيس في قياس قدرة أي بلد ومدى قوته. هذا من دون اغفال الجديد الاقليمي بعد احتلال العراق، وحضور قوات أميركية على مرمى حجر فيصح القول ان مثل هذه الميزة العسكرية لم يعد لها أهمية تذكر، بل ربما كانت نقطة ضعف عند حصول أي معركة، ففي ظل اختلال توازن القوى بهذه الصورة الفاضحة، وضحالة ما تملكه سورية من قدرات عسكرية بالقياس الى التقنيات العالية للحرب الحديثة، يصبح تعدد الجبهات واتساعها من أسباب الهزيمة. ويغدو الخيار العسكري أشبه بمقامرة خاسرة، اللهم اذا تنكر أصحاب هذا الرأي لدعايتهم التاريخية عن حقيقة العلاقة والتحالف بين واشنطن وتل أبيب، ووجدوا ان القوات الأميركية في العراق ستقف على الحياد اذا ما نشبت حرب مع اسرائيل أو العكس. اذا كانت ثمة غاية استراتيجية في بقاء لبنان ساحة داعمة لسورية وجاراً آمناً، فالأجدى ليس الاصرار على ذهنية الماضي، بل تجاوزها وتغيير الآليات التي حكمت العلاقة بين البلدين بإظهار احترام ارادة اللبنانيين والثقة بهم. الأمر الذي يوفر مناخات صحية لتفتح دوراً حقيقياً للبنان في حماية المصالح والأمن المشترك، ومن هذه الزاوية، واذا تجاوزنا جدلاً الحق الطبيعي للشعب اللبناني في وطن حر ومستقل، يصح القول ان سحب القوات العسكرية والأمنية من لبنان يزيل كثيراً من الأسباب التي خلقت جواً من العداء للسياسات السورية، كما يساعد على بناء عتبة من الثقة بين الشعبين هي الأبقى لقطع الطريق على نيات الأعداء المشتركين ومخططاتهم. بينما الإصرار على العكس لا بد ان يستحضر أسباباً جديدة لتعميق الشروخ، وزيادة الحساسيات، ليس بين لبنان وسورية وانما أيضاً بين اللبنانيين أنفسهم، ما يهدد استقرار لبنان وأمنه، وتالياً استقرار سورية وأمنها. الرأي الثاني، تسوسه عقلية تآمرية تجد ان المبادرة اليوم لتصحيح العلاقة مع لبنان لن تقدم أو تؤخر، وان الامور تسير وفق مخطط مرسوم مسبقاً، سواء انسحبت القوات السورية أم لم تنسحب. مثل هذا الرأي يحرر السلطة من مسؤولية ما ستؤول اليه الأوضاع، ويسقط الفائدة التي يحتمل أن تترتب في حال راجعت حساباتها ومواقفها. كأنه ليس من قيمة لاندفاعة خاطئة، أو خلل سياسي يسهل مهمات الآخر المتربص بنا، ويمكنه من تنفيذ مخططاته. وكأن من يهدد بمخطط ما غير معني بأي اجراء للرد. طبعاً لا أحد ينكر ان ثمة مخططاً قديماً ومكشوفاً للولايات المتحدة واسرائيل وللغرب عموماً للنيل من حقوقنا ومصالحنا. لكن يفترض ان نعي ان هذا المخطط لا يملك مساراً حتمياً في التنفيذ، وهو يتحسب جيداً من الرأي العام العالمي، ويسعى الى كسبه أو على الأقل تحييده، مستثمراً ما تخلفه أخطاؤنا من ذرائع كي يطلق قواه وضغوطه بأقل ردود أفعال تذكر. لدينا في الماضي القريب مثالان مهمان يؤكدان هذه الحقيقة. فلو افترضنا جدلاً ان سياسة النظام السوري في موضوع التمديد للرئيس اميل لحود جرت بخلاف ما شهدناه، وقال المجلس النيابي اللبناني كلمته في اختيار مرشح من بين مرشحين ربما معظمهم موالٍ لسورية، هل كانت أميركا أو فرنسا، بكل ما تملكانه من قوة، قادرتين على اصدار قرار مثل القرار الرقم 1559؟ ولنفترض ان صدام حسين أحجم عن احتلال الكويت فهل كنا وقفنا أمام ذاك المشهد المذهل من تحالف القوى الدولية والحضور العسكري الأميركي الواسع في المنطقة؟ الرأي الثالث، يدعي أن خروج القوات السورية سيفضي الى انفلات الوضع اللبناني نحو صراعاته الطائفية والمذهبية، الأمر الذي يضعضع أمن لبنان مهدداً أمن سورية. مثل هذا الرأي يحمل في طياته ادانة واضحة لسنوات طويلة من الهيمنة السورية في لبنان، قصرت خلالها في مساعدة اللبنانيين على بناء مؤسسات وقوى قادرة على ادارة أمورهم وضبط أمنهم. ويصح هنا قول القائلين ان هذه الهيمنة تقصدت عدم تمكين اللبنانيين من امتلاك أسباب السيطرة الذاتية على شؤونهم كي تبقى الحاجة اليها كفعل توازن، قائمة ومستمرة. لكن اليوم ليس الأمس، وثمة تقدير مبالغ فيه لصعوبة التوفيق ذاتياً بين تنازع المصالح والمواقف اللبنانية لا يأخذ في الاعتبار ما يمكن ان تلعبه مآسي الحرب الأهلية من دور في توليد حال تفاهم أو تعاقد مضمر بين مختلف الفئات الشعبية والسياسية اللبنانية من أجل حماية السلم الأهلي. وتزيده رجحاناً خصوصية الخلافات التي يشهدها لبنان، ونهضت بصورة رئيسة بفعل خطأ خارجي وليس بسبب تفاقم الاحتقانات الداخلية فتظهر التفاعلات الداخلية اللبنانية أشبه بردود أفعال ومنازعات بين مشاريع سياسة مستقبلية أكثر مما هي صراعات لقوى متخندقة في امتيازات الماضي. ولنتساءل: هل بأساليب القهر والإكراه يمكن تقوية حبال الود والاحترام المتبادل؟ وأين ذهبت مفاخرة البعض بأن الحكم في سورية صنع في لبنان من الركائز والحلفاء"ما يضمن بعد انسحابه العسكري، وضعاً موالياً وآمناً لعقود من السنين؟ الرأي الرابع، يعترف بضرورة انسحاب القوات العسكرية السورية من لبنان لكنه يرفض ان يتم تحت التهديد والضغوط الخارجية. وأصحاب هذا الرأي انما يضعون العربة أمام الحصان مغفلين السبب الرئيس فيما وصلنا اليه من حصار وضغوط، ويتعلق بطابع السياسة السورية تجاه لبنان، وتباطؤها في تغيير أساليبها وعلاقتها مع هذا البلد. بل أليس من الوهم والخطر والتفكير بالتأجيل ريثما تهدأ الضغوط، على أمل أن يظهر القرار السوري كأنه نابع من ارادة ذاتية؟ هذه الضغوط، كما تشير التطورات وتداعيات اغتيال الحريري، لن تهدأ أبداً، بل الأرجح ان تتصاعد، وتأخذ أشكالاً أكثر حدة وحزماً. فأين الحل وقتئذٍ؟ ثم أليس من الأجدى ان يصرف هؤلاء جهودهم في البحث عن مخرج مرض لمأزقهم، بتوفير غطاء عربي مثلاً، أو من خلال مبادرة الدولتين السورية واللبنانية لصياغة اتفاق طارئ يجدول زمنياً انسحاب القوات السورية؟ والأهم وربما الأفضل ان يتم هذا الانسحاب عبر التنسيق مع ارادة وطنية يتوافق عليها جميع اللبنانيين، على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم. وطالما ليس ثمة معنى أو جدوى من الانتظار، وطالما ان الانسحاب العسكري من لبنان أصبح أشبه بعلاج أو دواء ناجع للخلاص مما وصلنا اليه، فلا قيمة عندها لطعمه المر، أو لطريقة تناوله برغبة المريض أم رغماً عنه. الرأي الخامس وهو الأوسع انتشاراً، يدعو الى اعلان النفير العام وحالة الاستنفار، لأن ما يجري هو مخطط امبريالي يهدف النيل من سورية ومواقفها الوطنية. وتحتقن هذه الدعوة بخطاب هجومي مفعم بلغة لاذعة تندد بالعدوان ومخططاته، وبعبارات التحدي والاشادة بسورية التي لا تعرف الخضوع أو الاستسلام، والسخرية من أي تنبيه الى ضرورة تمثّل التجربة العراقية ومآسيها، والسخرية من أية دعوة الى التروي والتعقل. فالجواب جاهز المواجهات ورد العدوان، أم يفضلون التنعم بامتيازاتهم والقتال حتى آخر مواطن سوري دفاعاً عن مصالحهم الخاصة. اذا كانت ثمة جدية في الرد على الضغوط والتهديدات الخارجية وكف أذاها عن المجتمع والسلطة على حد سواء، فليس بالتعبئة الايديولوجية والحماسة تحيا المواجهات، بل بإرساء ركائزها ومقومات نجاحها على الأرض. والأجدى، أولاً، التوقف عن اطلاق دعوات الاستقطاب الحادة والمسطحة، مع السلطة أو ضدها، والمبادرة لاطلاق عملية الاصلاح الديموقراطي على مداها لتحقيق نتائج مهمة على طريق بناء المواطنة، وضمان الحريات، واحترام التعددية وحقوق التعبير كضرورة لا غنى عنها في مواجهة نيات الخارج ومخططاته. بل لن تستقيم هذه المواجهة طالما نرزح تحت وطأة حال الطوارئ والأحكام العرفية، لعقود من السنين، وتغيب حقوق الناس وحرياتهم، ولا يزال مئات الألوف من الأكراد محرومين من حقهم في نيل الجنسية السورية. وطالما يقهر الانسان وتدمر روح المبادرة والمساواة لديه، ويفقد احساسه بأنه يبذل ويضحي من أجل وطن حر كريم، لا من أجل دوام حال الفساد والقهر والتمييز. والأجدى، ثانياً، المسارعة لبناء علاقة صحية ومتكافئة مع لبنان تمنح البلدين القوة والمنعة. ويزيدهما منعة السعي الحثيث لتحسين صورة سورية في أوساط الرأي العام العربي والدولي، وكسب تعاطفه عبر السير خطوات حازمة كي تلامس هذه الصورة المعايير والتوجهات العالمية حول الحريات وحقوق الانسان. كاتب سوري.