أعلن الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير انسحاب القوات السورية، إلى منطقة البقاع ومن ثم إلى الحدود السورية - اللبنانية، وهو إعلان أكملته وزيرة المغتربين بثينة شعبان، على أنه عودة الجيش الى الطرف السوري من الحدود. قد تكون ردود الفعل مقبولة لبعضهم داخلياً، لكنها لم تكن كذلك خارجياً، ولا نريد تعدادها هنا. ما هو مهم محاولة استقراء تحليل القيادة السورية للمستجدات المقبلة في ما يحدث، والضغوط المتزايدة في شكل يدعو إلى التفكير في ما حدث مع العراق ونظامه السابق. إن الطريقة التي يعالج بها الرئيس السوري ومستشاروه الحوارات المتعددة مع الوفود الأجنبية، تهتم جزئياً بالدفاع عن الموقف السوري من الإتهامات المتزايدة، إن كان في ما يتعلق بدعم المقاومة الإسلامية الفلسطينية التي اصبحت بالتعريف الأميركي إرهاباً، والمتمردين في العراق المقاومة بحسب بعضهم، أو حول البقاء في لبنان والهيمنة عليه عسكرياً وأمنياً، ومنعه من ممارسة الديموقراطية، الشعار الأميركي للسنوات المقبلة. وكما ذكر الرئيس في خطابه، فإن هذه الوفود لا ترد على مطالب سورية بإثبات الإدانة لها عبر المعلومات الموثقة. وكأنها بتعبير آخر، وفود استكشاف واستطلاع، غير مهتمة فعلاً بإثبات إدانة سورية، بل تهدف الى تعزيز ثقة الجانب السوري ببراءته من أي إتهام، أو أنه في صدد التأكد من ثبات منهجية القيادة السورية في التعامل مع المطالب الأميركية التي تعززت جزئياً بالمطالب الأوروبية. ولأن البراغماتية السورية السابقة في الاستجابة الدنيا للضغوط الدولية نجحت في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، فإنها قد لا تؤدي في نهجها إلى نجاحات بالمستوى نفسه في عهد الرئيس بشار الأسد. والأسباب كثيرة، أولها أن الحاجة إلى النظام السوري لم تعد كما كانت عليه وأن الأوراق التي كان يملكها تنزع من سورية واحدة تلو الأخرى، ولأن هذه الأوراق في حد ذاتها، قد تكون اليوم أداة لإدانة سورية، أكثر مما هي أدوات للتفاوض، خصوصاً عندما فرضت أميركا معنى جديداً للإرهاب، قبلت به سورية أم لا. ثانياً أن المنهجية السورية لم تأخذ أو لا ترغب في الأخذ في الاعتبار التغيير الجذري الذي حصل في العالم، بدءاً بانهيار الكتلة السوفياتية، وما تبعه في 11 أيلول سبتمبر 2001، وصولاً إلى احتلال العراق، وحلول الجيش الأميركي، على الحدود العراقية - السورية. تمكنت القيادة الأميركية، منذ بدء الولاية الثانية لحكم جورج بوش الابن، من دعوة الشعوب العربية الى التفكير في شعاراتها الجديدة في الحرية والديموقراطية، التي تحولت ضمناً من محاربة الإرهاب، المترجمة سابقاً من بعضهم بمحاربة الإسلام، إلى شعارات يمكن أن تداعب أفئدة غالبية الشعوب العربية مستقبلاً، كونها قد تساعدها في التخلص من حكومات عربية شمولية في معظمها. وقد يغفل النظام السوري اهمية عامل الوقت بالنسبة الى الإدارة الأميركية في إحراز أي تقدم جوهري على صعيد الشعارات الجديدة. هذه الإدارة التي كانت قادرة على خلق ظروف مؤاتية لأي عمل تكتيكي يخدم أغراضها الاستراتيجية المعلنة جزئياً في المرحلة أو المراحل المقبلة، وغير الواضحة على مدى العقود المقبلة بالنسبة الى الشرق الأوسط الجديد. فقد استطاعت الإدارة الأميركية الحالية، القيام بحرب ضد العراق، متجاوزة منظمة الأممالمتحدة وحلفاءها الأقوى في أوروباً، وفرض ذلك على العالم، وإعادة إنتخاب الرئيس ديموقراطياً معلنة أن مستقبل الأمن الأميركي ومصالحه تتم عبر أنظمة ديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط. ولأن السيناريوات الأميركية مشابهة لأفلامها، وهي تحقيق الأهداف بأي وسيلة، فإن السيناريو المناسب لإحداث التغيير في سورية، قد يختلف بشكله الظاهري عما حدث في العراق. هذا المسلسل الذي بدأ بضغوط وحصار وأكثر من حرب، أدّى بنتائجه إلى احتلال العراق وقيام الديموقراطية فيه. ولا نقول إن المسلسل الأميركي - السوري، بدأ منذ إصدار قانون العقوبات الأميركي ضد سورية، بل ربما كانت دمشق في دائرة السيناريو الأميركي، منذ عهد بوش الأب. اذ ان أي ادارة اميركية لم تمح اسم سورية من قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما هو حاصل مع ليبيا التي لا يزال اسمها في اللائحة على رغم الثمن الباهظ الذي دفعته للمصالحة مع الغرب. ومع صدور قرار العقوبات الأميركية على سورية، قد تكون واشنطن بدأت في تطبيق الخطوات العملية لتحقيق هذا السيناريو. وربما كانت مهمة الوفود الأميركية أو غيرها من وفود أوروبية وعلى أي مستوى، ليس مناقشة السلطة السورية في تحقيق المطالب الأميركية والمجتمع الدولي فقط بحسب التعبير الأميركي، بل التأكد من ان الموقف السوري ما زال ثابتاً كما هو غير قابل للتغيير أبداً، مما يسمح للإدراة الأميركية القيام بالخطوة التالية، وتضييق دائرة الحصار. فسرت القيادة السورية عدم الاهتمام الأميركي الجدّي بتطبيق قانون العقوبات، برغبة في عدم إحراجها، خصوصاً مع التعاون الأمني وتبادل معلومات عن الإرهابيين وتسليم واشنطن بعضهم، وبأهمية سورية ودورها في المنطقة، ما ادى إلى اتخاذ قرارت خاطئة، كالتمديد للرئيس اميل لحود، من دون سبب جوهري، كون معظم المرشحين من الموالين لسورية، وربما جرى ذلك بناء على بعض الإشارات ممن له مصلحة بإيقاع سورية في مثل هذا الخطأ الكبير غير المطمئنة من عدم ضمان ولاء هؤلاء. كما ان محاولة اغتيال النائب مروان حمادة في ظل المظلة الأمنية السورية، وفشل التحقيق في إظهار الحقيقة، اديا الى تسخين الشارع المعارض وتحضيره لانتفاضة أكبر اندلعت فور اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بعد توجيه اصابع الاتهام إليها. وبغض النظر عن براءتها أو عدمها هيأ التوقيت المناسب لأميركا بمساعدة فرنسا، وأصدقائها الأوروبيين، لمطالبة سورية بالخروج من لبنان. هذه الخطوة الأميركية، وجدت ان ترسيخ مفهوم ديموقراطية الدولة اللبنانية، بعيداً من التدخل السوري، ستساعد في نزع ورقة حزب الله من يد سورية وإيران معاً، وعزل هذا الحزب والمطالبة بتجريده من سلاحه، والتفرد بسورية، ومن ثم، إيران. ولأن أميركا، لا تقبل بأنصاف الحلول، فإن السيناريو المرتقب لإحداث التغييرات في سورية، لن يتوقف. أما عن أهمية التعاون بين أجهزة الأمن السورية والأميركية، فلا يمكن إعتبار ذلك إلا نافذة صغيرة استفادت منها سابقاً، لكنها لا تسمح بتغيير كبير في استراتيجيتها الظاهرة بإحلال الحرية والديموقراطية في الشرق الأوسط، أو استراتيجيتها المخفية في إحداث تغييرات جيوسياسية في المنطقة ككل. وربما يعتقد بعضهم بأن خروج سورية من لبنان قد يؤدي إلى فتنة أهلية ، تتهم منذ الآن سورية بالضلوع عبر اشاعات عن تجنيس أكثر من خمسة آلاف عنصر استخبارات سوري بالجنسية اللبنانية، وتوزيع الأسلحة على مواليها وبعض الأحزاب المتحالفة معها. وهذا أيضاً قد يكون ما قد ترغب أو تتمنى الإدارة الأميركية حدوثه، كونه يبرر بناء تحالف أميركي أوروبي، وحرية للتدخل عسكرياً، في لبنان، أو في سورية، او في الاثنين على السواء. حذرنا في السابق من أن اللعب بالأوراق بشكل تقليدي، لن يقدم في حل المسألة السورية، لا بل قد يؤدي إلى إغراق المركب. وطالبنا بالمصالحة مع الشعب السوري عماد سلامة سورية من كل التدخلات الخارجية التي لا يمكن مواجهتها إلا بهذه المصالحة. ولا نعتقد بأن الطريقة التي تواجه بها الحكومة السورية الأحداث الحالية سليمة، بل إن السلامة الحقيقية قد تتطلب اتخاذ خطوات جدية وجذرية على الصعيد الداخلي، تبدأ بإفراغ السجون السورية من المعتقلين كلهم، وتشكيل أحزاب مناسبة تخاطب العصر، وحصر مستوى عمل الأجهزة الأمنية، وإلغاء قانون الطوارئ. ونكرر أن في سورية طبقة هرمة عاطلة ومعطلة، لا مكان لها في دولة عصرية همها حرية المواطن والتطوير الاقتصادي وتكافؤ الفرص للجميع. إن وجود قيادة سورية تعمل في شكل جدّي لمصلحة بناء دولة حديثة، قد تدعو الشعب السوري إلى نسيان كل أخطاء الماضي وإلى تلاحم حقيقي حول مفهوم الوطن، الذي يدعو الجيش لمهمة حماية الوطن، من الداخل بالدفاع عن الدستور أولاً، ومن الخارج بالدفاع عن حدوده، وإلى الإقرار من كافة الأحزاب بدولة القانون والمؤسسات، وحرية العيش المشترك بأمن وسلام. كاتب سوري.