على رغم الأزمة التي يكابدها مناهضو الديكتاتورية الامبريالية الاميركية في مواجهة هجمتها ضد شعوبهم، فإن مؤيدي السياسات الاميركية أو المتعاطفين مع العولمة التي تسعى الى فرضها بلا اتهامات، يعانون أزمة أشد، ولا فرج لها. فأزمة الأولين تنبع من اختلال موقت في موازين القوى العسكرية، وليس من أزمة موقف أو موقع في الصراع. اما الأخيرون فأزمتهم في انحيازهم، بشكل أو بآخر، لأميركا ما داموا مضطرين لتسويغ سياساتها وممارساتها. انها أزمة موقف سياسي وفكري، تمتد لتغدو أزمة اخلاقية ايضاً، حين تحرك واشنطن جيوشها وتطلق صواريخها. وذلك بسبب التماشي مع ازدواجية المعايير التي تستخدمها في سياساتها وممارساتها. فالدفاع عن تلك الازدوجية مُحرج جداً وغير قابل للتمرير عبر مبادئ القاون الدولي، أو حقوق الانسان، أو استقلال الأمم وحرية خياراتها. والأمثلة كثيرة: عندما تعلن الادارة الاميركية رسمياً ان الانتخابات اللبنانية لا يمكن ان تكون حرة ونزيهة بوجود القوات السورية، ثم تعتبر، في الآن نفسه ان الانتخابات في العراق نزيهة وحرة تحت الاحتلال الاميركي واجتياحاته وارتكاباته اليومية، تحرك كل من يحترم عقله لأنه لا يستطيع الدفاع عن موقفها في الحالتين. فبالنسبة الى العراق لا مجال لحجة في مصلحتها، اما بالنسبة الى لبنان فليس بمقدور حتى أشد المطالبين برحيل القوات السورية الدفاع عن موقفها كذلك، لأن النفاق فيه واضح، أو في الأقل يدخل في اطار"حق يراد به باطل". والحق اذا التبس بالباطل، أو تلّسه الباطل، فسد وتعطل. وعندما تهدد ادارة بوش بأن على سورية تنفيذ القرار 1559 فوراً، وبلا تفاوض حتى مع الحكومة اللبنانية، لكنها في الوقت نفسه لا تعامل اي قرار صادر عن هيئة الأممالمتحدة يتعلق بفلسطين، باللغة نفسها، أو بالإصرار نفسه، فكيف يمكن لمؤيد لها ان يقبل هذه الازدواجية، ناهيك عن تسويغها، إن كان حريصاً على"الشرعية الدولية". والمسألة هنا بسيطة، لأن مبدأ"سيادة القانون على الجميع"شرط احترام القانون ونفاذه. وهو ما تعتبره الديموقراطية من أساسات وجودها. فمن يقبل ان يطبقه على البعض ويعفي منه بعضاً آخر يلج بقدميه أزمة حقيقية متعددة الجوانب. واذا كان مؤيدو السياسة الاميركية وبلا اتهامات مرة اخرى يحترمون مبادئ ميثاق الأممالمتحدة في ما يتعلق بسيادة الدول واستقلالها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فلا مفر من ان يكونوا في أزمة خانقة، وهم يرون اميركا تعتدي على سيادة دولنا واستقلالها، وتسعى لفرض الهيمنة الاسرائيلية عليها، وتتدخل في شؤونها الداخلية، طولاً وعرضاً وعلناً، وبلا لياقة. ومن يتابع خطابات بوش في الآونة الأخيرة وكيف يتعامل مع دولنا ومجتمعاتنا، أو تصرف معاون وزيرة الخارجية الاميركي ديفيد ساترفيلد في لبنان لا يمكنه تسويغ هذا التمادي على السيادة والاستقلال، ولا حجة في القول"نحن سببنا بذلك"لأن اميركا تتدخل في كل مكان وبالروحية نفسها. فالمشكلة بالدرجة الأولى فيها. ولهذا لا يجوز تبرير افعالها وسياساتها بما نرتكب من اخطاء. فهذه يجب ان توضع في إطار آخر، وسياق مختلف. أما اذا كانوا ممن ايدوا، في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، تلك الموضوعة الخطيرة المتعلقة بسقوط مبدئي"سيادة الدولة"و"عدم التدخل في الشؤون الداخلية"تحت وطأة إنقاذ ألبان كوسوفو من الإبادة، فسيجدون انفسهم في حرج من تأييد السياسات الاميركية في العراق وفلسطين، أو حين تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد ايران وسورية بحجة التدخل في العراق وعدم احترام سيادته. وبكلمة، اذا كان من الممكن ان يكون لموقفهم من وجاهة في حال الإبادة البشرية شريطة تقييد مبدأ"حق التدخل"بالجمعية العامة ثم بمجلس الأمن، فإن حصره بأميركا يدخلهم في أزمة سياسية وفكرية تشد الوثاق على منطقهم. أما من جهة اخرى، فقد دخلوا في أزمة، ومعهم آخرون، سمتها"التناقض مع الذات". وذلك عندما اندلعت التظاهرات الشعبية في بيروت استنكاراً لجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فاستقبلوها بالإعجاب والمديح، وهم الذين بُحت حناجرهم، وأُرهقت اقلامهم، في هجاء الشارع العربي واتهامه بالغوغائية والشعاراتية والعاطفية والانفعالية واللاعقلانية. طبعاً القائمة طويلة لمن يريد ان يتذكر ما قيل في التظاهرات والمتظاهرين وفي الشارع العربي وشعاراته. الشارع اللبناني واكب دائماً الشارع العربي، بل كان سباقاً أحياناً. فإذا كان هذا الشارع، الذي هو جزء من الشارع العربي، غوغائياً ولا عقلانياً وشعاراتياً لا سياسة ولا تظاهرة بلا شعارات فكيف تغير بسحر ساحر لتُخلع عليه أمجاد العقلانية؟ وكيف اصبحت شعارات الحرية والسيادة والاستقلال عقلانية ولا عاطفية؟ أفلم تكن هذه من أولى شعارات الشارع العربي؟ وما معنى ذلك التاريخ الطويل في رفض الاستعمار والهيمنة الامبريالية والاحلاف العسكرية واستنكار الاعتداءات الاسرائيلية روفض مشاريع التوطين الرامية لتصفية القضية الفلسطينية؟ عودوا الى شعارات الشارع العربي والشارع اللبناني لتدركوا الآن كم ظُلم حين اتهم انه كان مجرد"يعيش يعيش ويسقط يسقط". وحتى هذه أعيد انتاجها حول ضريح الشهيد الحريري. هذا التذكير بما كان يقال في الشارع العربي يدخل ناقديه التقليديين المحدثين في أزمة. وقد تفاقمت هذه الأزمة مع الشارع اللبناني المليوني في ساحة رياض الصلح يوم 8/3/2005. فهل سيعودون الى الهجاء اياه أم يصمتون أم يحافظون على المديح نفسه؟ الأفضل اعادة الاعتبار، في منظورهم، للشارع العربي قديما وراهناً ومستقبلاً ليخرجوا من مأزقهم وأزمتهم. والأهم: لكي يُسمح بالمضي على طريق المصالحة والحوار واعادة اللحمة، وانقاذ لبنان من معادلة"الغالب والمغلوب"، والعلاقات اللبنانية - السورية من معادلة"المنتصر والمهزوم"، ومن ثم بناء معادلة داخلية، واخرى لبنانية - سورية جديدة ضمن مظلة اتفاق الطائف وسيادة لبنان ووحدته وعروبته بعيداً من القرار 1559 والتدخل الخارجي، بل ضدهما. كاتب وناشط فلسطيني