أرى قلة من الديموقراطيين وشحة في النفسيات الإصلاحية في الحركة التي تتكيف حالياً مع الضغط الاميركي للحفاظ على حكم نفس النخب في المنطقة. والمسألة ليست مسألة كاريزما إطلاقاً. الكاريزما فعلاً غير موجودة، ولكن ليس نقصها هو المثير. فقد رأينا في هذه المنطقة وغيرها من مناطق العالم الثالث كارزميين كثيري الألوان وشديدي الغرابة جذبوا الصحافيين والصحافيات لمقابلات مثيرة ولكنهم لم يبقوا حجراً على حجر في مجتمعاتهم ولا حتى مما بناه الاستعمار فيها من مظاهر عمرانية. لا حاجة لكاريزما الزعماء غريبي الأطوار. لا يعقل ان يتم في مرحلة التأسيس التعامل مع الديموقراطية بمصطلحات جاهزة من خطابات جورج بوش وكتبتها الأصوليين، وأن تستهلك كما يستهلك الهامبرغر او الكوكا كولا، وان يسمى ديموقراطياً المستهلك المجتهد في جمع الكوبونات والمقارنة بين محل مكدونالدز وآخر وبين"مول"وآخر فتح حديثاً. ما وجه الديموقراطية في توجيه النصائح للفلسطينيين للتخلي عن حقوقهم؟ من ينصح بذلك ليس نمط السياسيين الذي يؤسس للديموقراطية. يقف الديموقراطي المؤسس عند الحقوق ويتمسك بها، وينتفض ضد الظلم، ويرفض فرض القوة بدل إحقاق الحق، ويرى أصلاً تناقضاً أخلاقياً بين الحق والقوة، كما رأته هانّا ارندت مثلاً في أطروحتها عن العنف. ليس الديموقراطي مجرد سياسي مهني في إطار ديموقراطي يبحث عن مصلحته أو مصلحة حزبه بموجب موازين القوى القائمة، فيؤيد قرار الغالبية الإسرائيلية الديموقراطية مثلاً بشأن مستقبل الفلسطينيين، أو يؤيد حق المرأة بالمساواة بما في ذلك حقها في قيادة طائرة تقصف ايضاً الفلسطينيين مثل الرجل. هذه ديموقراطية شكلاً، ولكنها تقوم على قيم تكريس قمع واحتلال شعب آخر وتكريس القيم العسكرية التي تكرس دونية المرأة. ليس الديموقراطي هو من يعتبر كلام شارون الرافض للانسحاب ولتنفيذ قرارات مجلس الأمن خطوة الى الامام لأنه يتضمن فك ارتباط في قطاع غزة في حين ليس لديه كلمة ايجابية يقولها عن دولة درست الوضع في دولة مجاورة في سياقه الدولي الجديد وقررت سحب قواتها بالكامل من هناك رغم أن قواتها موجودة ضمن اتفاق بين دولتين سياديتين. الديموقراطي في مرحلة التأسيس هو فرد يؤمن بالقيم الديموقراطية ولا يعتبرها حصيلة تبدل مصلحة أو مزاج القوي في عالمنا. يقول الاميركي الذي تحول من راعي بقر الى راعي الديموقراطية في خطابه الأخير من يوم 8 آذار امام جامعة الأمن القومي"فورت ليسلي ماكنير"إن الانتخابات البلدية في السعودية هي مبشر بالديموقراطية وخطوة الى الامام مبروك، هنيئاً كما يرى أن الانتخابات الفلسطينية خطوة للتحرر الفلسطيني من"ارث العنف والفساد"الفلسطيني، وليس من الاحتلال الاسرائيلي هنيئاً مرة اخرى، مرحى وطوبى للمصوّتين لأنهم يرثون الارض، ويرى ايضاً ان انتفاضة اللبنانيين ضد الوجود السوري هي انتفاضة من اجل الديموقراطية تندرج ضمن انجازات الحرب الأميركية على الإرهاب التي خصص الخطاب لتعدادها. هل لاحظت عزيزي القارئ ان بوش فطن في خطاب الأمس بقدرة قادر أن يدرج في خطابه عملية ضد قواعد المارينز في بيروت من العام 1983 وأن يذكرها بنفس واحد مع عملية 11 ايلول بعد ذلك بسبعة عشر عاماً وبعمليات التفجير ضد السفارات الاميركية في افريقيا؟ نقطة للتفكير. كنا قبل سنوات نذكره بلبنان الذي لم يذكره في اي من خطاباته ولا حتى كمثل على احتمالات وآفاق وبراعم الديموقراطية المبشرة في العالم العربي. فجأة تذكر بوش لبنان بين عملية مقاومة ضد المارينز اعتبرها من نوع عمليات القاعدة واحتجاج لبناني مشروع اعتبر من نوع الثورات المخملية. لقد قص بوش في خطابه تناقضات لبنان الحيوية واختلافاته وتنوعه على مقاسه وأختزلها الى النموذج الاميركي في الخير والشر. ولكن أليس على اي ديموقراطي عربي أن يذكره بأن تظاهرة بحجم تظاهرة القوى الوطنية اللبنانية يوم خطابه نفسه تتجمع وتتفرق من دون فوضى على بعد مئات الأمتار من موقع تظاهرة مناقضة وتمر من دون عنف ومن دون تدخل بوليس وفي مرحلة ازمة حكم هي دليل على انه في هذا البلد تتوفر ثقافة ديموقراطية وجدت قبل ان يتشرف هو بذكر لبنان في خطاباته بهذا الشكل التخريببي الذي يؤسس لفتنة؟ انها وظيفة الديموقراطيين العرب ان يذكروه بذلك. عكست تظاهرات المعارضة والقوى الوطنية اللبنانية ثقافة ديموقراطية. ولا اعتقد ان تظاهرات بهذا الحجم، وفي مثل هذا الاستقطاب السياسي والاجتماعي، كانت ستمر بسلام وبدون غاز مسيل للدموع وجرحى وقتلى في اسرائيل الديموقراطية. لم تنبت الثقافة الديموقراطية اللبنانية من بذرة بذرها تدخل أميركا في العراق، ولا من خطاب بوش، ولا بعد القرار 1559، بل كانت موجودة يعيبها التوازن الطائفي والسلالات العائلية وضعف المواطنة مفهوماً وممارسة، وتدخل المخابرات في الحياة السياسية وغير السياسية بتواطؤ من جانب المجتمع، نعم بتواطئ من تنوع الطوائف والزعامات والسلالات غير الديموقراطي، والتعدد غير الديموقراطي القائم، واستسهال البحث عن عملاء بدل حلفاء أحياناً. وقد استفادت المعارضة اللبنانية من تقاليد ديموقراطية قائمة، ولم تؤسس هي لها كما حصل في ربيع براغ أو انتفاضات جورجيا واوكرانيا وغيرها، كما استفاد منها مؤيدو المقاومة والتحالف مع سورية في لبنان في تظاهرتهم الجبارة. من الطبيعي ألا يذكر بوش ذلك لأنه ليس ديموقراطياً، رغم أنه قرأ كتاب ناتان اناتولي شارانسكي واصبح أحد مصادره عن الديموقراطية. ولكن ألا يجدر ببعض الديموقراطيين العرب تذكيره بهذه الوقائع والحقائق اللبنانية اذا كانوا فعلاً ديموقراطيين؟ هذا واجبنا. تفترض هذه الإرادة رغبة الديموقراطيين العرب بالاستناد الى شرعية جماهيرية، كما تفترض رغبة بدمقرطة الثقافة السياسية الشعبية بواسطة تقريب هم الديموقراطية من هموم الجماهير. ولكن النفسيات المنتشرة عند البعض تستند الى موازين القوى الدولية والأجندة الأمريكية، وتأمل أن تنعكس هذه الأجندة على ساحتها المحلية دون ان يكون لديها مشروع ديموقراطي متعلق بمستقبل البلد، ومن دون رؤية شاملة تحررية تشمل في ما تشمل التمسك بمبادئ العدل والإنصاف. تستطيع ايران إن شاءت أن تصرخ أن ليس لديها سلاح نووي ولا تنوي انتاجه ويرد العالم مع اميركا أنها تريد انتاجه، يؤكد كيم ايل جونغ المجنون المنحرف السفاح ويقسم أغلظ الايمان مؤكداً أن لديه سلاحاً نووياً، وتزجره استراليا باسم اميركا بأنه كاذب ولا يملك سلاحاً نووياً. ويؤكد الرئيس السوري ان قرار 1559 هو قرار سيىء ومخالف لميثاق الاممالمتحدة كونه صدر من دون تهديد للسلام والامن الدوليين كما ان أياً من الأطراف صاحبة الشأن لم يتوجه طالباً مساعدة مجلس الامن، وانه مع ذلك لا يريد تضييع وقت احد في مناقشة مدى انصاف هذا القرار وعدالته، لأنه لا توجد عدالة ولا يوجد قانون دولي فعلاً في عالمنا، وأنه سينفذ الشق المتعلق بسورية منه رغم ذلك كله. ولا ترد أميركا ولا حتى بمديح للبراغماتية او الواقعية أو العقلانية التي ارتاح لها شعبه على الاقل، ناهيك عن تجاوب المجتمع اللبناني مع هذا الأسلوب، بل تؤكد أميركا انها"انصاف حلول"و"مناورات"سورية، وليست حتى خطوة ايجابية تنتظر المزيد كما اعتادت أميركا ان تقول. مجرد كلام عدائي عدواني. فسورية مستهدفة إسرائيليا وبالتالي أميركياً. وحتى لو دخلت ديراً فرانسيسكانياً سيلحقها شارون وبوش مطالباً ان تلغي نفسها على كرسي الاعتراف. ويستطيع شارون، وهو مجرم حرب معروف، ان يقول بالصوت والصورة انه لا يريد، لا يريد، لا يريد تنفيذ قرارات مجلس الامن بشأن احتلال اسرائيل لاراض سورية وتستطيع اميركا أن ترد على الرفض بأجمل منه وبأن تصريحه مع ذلك يشكل تقدماً... الخ. هكذا يبدو الجانب المظلم من عالم مارثا ستيوارت التي تنشغل اميركا بها حالياً، عالم الاستهلاك الإعلامي وعالم جورج بوش ورامسفيلد وكوندوليزا رايس وبقية البلطجيين. حسناً، ولكن صوت الديموقراطي العربي المؤسس هو الذي يجب ان يبرز في مثل هذه الحالة كصوت العدالة، صوت رفض منطق قرار 1559. يطالب وزير عربي سورية من تل ابيب بتنفيذ القرار 1559 فوراً وبدون تأجيل. وهو اكثر مما يطالب به كوفي انان، ولا يتضمنه نص القرار. يطالب بذلك من تل ابيب التي ترفض فوراً وبدون تأجيل تنفيذ اي من قرارات مجلس الامن، وتحتل فوراً وبدون تأجيل أراضي عربية، وتنكل بشعب عربي وتبني جداراً اجرامياً خلافاً لقرارات المحكمة الدولية، ولا توحد البلد كما فعل الجيش السوري بل تقسمها، ولا تبني او تحمي عملية بناء بل تهدم ما كان مبنياً في فلسطين حتى قدومها. فأين الصوت العربي الديموقراطي الذي يعترض بقوة على هذا الكلام في هذا الموقع. يفترض ألا يترك الديموقراطي معارضة مداهنة اسرائيل الشارونية وألا يترك رفض هذه الانتقائية في تنفيذ أضعف قرارات مجلس الأمن وأقلها شرعية، للاصوليين غير الديموقراطيين. مثلما لا يفترض ان يعتبر الديموقراطي القضايا الوطنية مجرد شعارات اذا اراد ان يبني ديموقراطية وطنية ذات شرعية شعبية. هنالك عطب بنيوي يجعل الديموقراطية العربية تبدو كأنها مستوردة كنوع من"الفاست فود"لابناء البرجوازية الوسطى و"اليابيز"من كل الانواع، الذين يعتقدون بكل التواضع المطلوب أنهم يعرفون"كيف يدار العالم"و"كيف تسير الامور"أو"كيف الدنيا ماشية"بمنطق المديرين العامين وال"سي اي او"CEO. ولو سألهم شخص متواضع ان يفسروا له سر ادارة العالم لقالوا كلاماً لا يقوله ديموقراطي، من نوع الدنيا مصالح ويجب ان يبحث كل حاكم عن مصلحته. لكنهم لم يبنوا ولن يبنوا ديموقراطية من اي نوع. استطاعوا سابقاً التعايش مع اي ديكتاتورية ترضى عنهم وعن مسار اعمالهم، وترضى عنها أميركا حالياً ولاحقاً يستطيعون التعايش مع ديكور وإكسيسوار إصلاحي. ويستطيعون التعايش مع أي ظلم اجتماعي ومع تعددية طائفية وتوازنات طائفية ومن دون مواطنة حقيقية. هكذا تم عن قصد تسويق تحرك مهم فعلاً في الشارع اللبناني كأنه ثورة مخملية وتحرك آخر أكبر منه ولا يقل عنه مخملية تم تجاهله في خطاب بوش كأنه لم يكن. اين الديموقراطي العربي في هذه الحالة من هذا التقسيم النوعي للأكثرية كأقلية وللأقلية كأكثرية؟ ثم لا يستطيع الديموقراطي العربي ان يصمت بتواطؤ على جريمة اعتبار الاكثريات هي الاكثريات الطائفية والأقليات هي الاقليات الطائفية او العرقية او المذهبية بتجاهل تام للمواقف او الأفكار او البرامج المتطرقة لمصلحة ومستقبل المجتمع ككل وبتركيز على هوية السياسي وانتمائه. ومع ذلك يسود الصمت. ويتم الاستئساد والإستقواء بالموقف الامريكي. وتكفي وجهة دعم الاميركان لتحديد هوية القوى الآخذة بالأفول تاريخياً، القوى التي تؤمن بالشعارات الرنانة والطنانة التي عافها الناس من جهة، وهوية القوى الصاعدة الشبابية الربيعية المخملية، وهذه طبعاً ليست شعارات رنانة ولا طنانة. أما مسألة مدى ديموقراطية أي من المواقف فتتحول الى مسألة جانبية مقابل المشهد الذي انفعلت منه حتى اسرائيل التي لا تصدق ان شيئاً كهذا ممكن في دولة عربية. وما ان استكمل المشهد بجماهير مسالمة ولكن بأعداد أكبر وتنوع طبقي أكبر خلف شعارات مناهضة لاسرائيل وأميركا حتى تم تجاهله، وأطلقت عليه تسميات أخرى من نوع تظاهرة الموالين لسورية، تظاهرة حزب الله، لا ربيع ولا مخمل ولا خمائل. الطريق الى الديموقراطية تمر من هنا. من الدفاع عن هؤلاء المتظاهرين في وجه بوش الذي يصرّ على اعتبارهم استمرارا للعملية ضد المارينز. الطريق الى الديموقراطية تمر عبر التلاقي المخملي الربيعي مع هموم الناس من مختلف الطبقات، ومن ضمنها الهمّ الوطني. كاتب عربي.