ليس بوسع المتأمل في القوة الاستهلاكية لدى الألمان والوضع الاقتصادي للبلاد إلا استنتاج فكرة متناقضة: فمن جهة تشير بيانات مكتب الإحصاءات الألماني إلى تراجع واضح في صافي أرباح الشركات الألمانية في مختلف القطاعات الحيوية كالتجارة بالجملة والتقسيط وقطاع البناء والصناعة خلال شهر شباط فبراير الماضي مقارنة مع الشهر عينه من عام 2004، ومن جهة أخرى، تسجل نسبة متزايدة من الألمان الغارقين في الديون وعجزهم عن تسديدها في الأوقات المحددة. وعلى رغم وفرة البضائع وارتفاع مستوى الرفاهية في ألمانيا، تشكو نسبة كبيرة من الألمان من عدم رضاها عن الأوضاع السائدة. يدرك الجميع أن هناك تخمة في الأكل وقليلاً من الحركة وإفراطاً في مشاهدة التلفزة. وتكتب الصحف المحلية عن زيادة ملحوظة في أعمال الجريمة، سيما في المدن فيما يشكو المسؤولون في المدارس من تراجع قابلية التلاميذ على التركيز خلال فصل الدراسة. ويتساءل البعض هل هذه الانحرافات رواسب مباشرة للرفاهية المادية؟ يلقي بعض الاقتصاديين الألمان مسؤولية هذا الأمر على عاتق وسائل الدعاية المتطورة التي تنسج عالماً شبه خيالي يجعل من البضاعة المروج لها قطعة مقدسة يجب على كل فرد اقتناؤها ليحقق وجوده الذاتي في مجتمع رفع منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية شعار" الرفاهية للجميع" كهدف أسمى في الحياة. وعلى رغم العدد القياسي الجديد للعاطلين عن العمل في ألمانيا أكثر من 5،2 مليون عاطل والخوف السائد تجاه المستقبل، فان شريحة كبيرة من الأطفال والشباب تلبي رغباتها الآنية باقتناء موادها الاستهلاكية من دون الإمعان أولاً في قدرتها الشرائية. وتلجأ هذه الشريحة إلى أخذ قروض مصرفية غالباً ما تتراكم لينزلق الفرد في فخ المديونية. يتساءل بعض علماء النفس هل المجتمع الاستهلاكي يفترس أبناءه؟ ويحملون وسائل الإعلان المسؤولية عن عرقلة عملية نضج كثير من الشباب لأنها تقدم لهم فرص تحقيق المتعة في أسرع الأوقات من دون التفكير في الكلفة وتداعيات الاستهلاك. ولا يتردد خبير علم النفس فولفغانغ شميدباور في وصف هذا الوضع ب" فاشية البضاعة" لأن المجتمع الاستهلاكي لا يرى سوى ما هو إيجابي ويتجاهل الجوانب السلبية. ويلاحظ علماء النفس في ألمانيا أن الرفاهية المادية لم تحقق تلك السعادة الروحية المتوخاة منها، بل كلما زادت طلبات الفرد كلما تلاشت القيم الإنسانية لديه وتوطد بالتالي دور الدعاية التي تبتكر الرموز الرابطة بين أفراد المجتمع الواحد. فالدعاية تخلق ماركات معينة في مخيلة الزبون تحدد نظرته الشخصية إلى العالم. ويلاحظ خبراء علم الاجتماع أن الالمان في شرق البلاد التي كانت خاضعة للحكم الشيوعي المانيا الديمقراطية سابقاً أشبعوا، بعد إعادة وحدة المانيا في مدة زمنية وجيزة، تعطشهم للمواد الاستهلاكية التي كانوا يرونها في السابق فقط عبر التلفزة. وسرعان ما بدأ الحنين الى النظام الشيوعي السابق ينتاب بعضهم متذكرين دفء العلاقات البشرية في كنف حياة بسيطة وضمان الدولة لمختلف الخدمات الاجتماعية للمواطنين. ومحاولة منهم لايجاد بدائل لعجلة الانتاج والاستهلاك المتسارعة ولتشجيع المواطن الالماني على مراجعة سلوكه الاستهلاكي، يخرج أعضاء منظمة أجيت آرت Agit-Art الى الشوارع للتحاور مع المارة واقناعهم بضرورة التخفيف من الاستهلاك وبالتالي التقليل من سرعة الانتاج الذي يؤثر سلبا في البشر والبيئة. وتقول مونيكا هايمان من منظمة"أجيت آرت"في كولونيا:"بدلاً من أن نعمل من أجل الاقتصاد، وجب على الاقتصاد أن يعمل لمصلحتنا وعوض التحدث عن رأس مال بشري، وجب التحدث عن بشر لتغيير موازين القوى بين الضروريات الاقتصادية وجودة الحياة البشرية". وتتساءل هذه المنظمة لماذا لا نتفق على فرض ساعات عمل أقل وننتج مواد ذات جودة و نخفض من استهلاك مواد الطاقة لوضع حد لحال الذعر والهرولة نحو الانتاج المفرط الذي يفرضه صقور الليبرالية الاقتصادية على مجتمعات العالم. غير أن ما تصبو إليه هذه المنظمة في ألمانيا يبدو أفكاراً من نسج الخيال إذا ما نظرنا إلى الإجراءات المتخذة في سوق العمل والقطاع الاجتماعي لتعزيز القوة التنافسية لألمانيا بين الدول الصناعية الكبرى في العالم. ولو نظرنا فقط إلى نسبة حالات الانتحار في المجتمع الألماني خلال السنوات العشرين الأخيرة حوالي 11000 فرد في عام 2004، يتضح أن الرفاهية المادية والاستهلاك لم يأتيا بالسعادة التي يصبو إليها كل شخص. لكن يمكن القول إن البطالة المرتفعة والخوف من المستقبل أثرا في القوة الاستهلاكية لدى الألمان الذين أصبحت نسبة كبيرة منهم لا تشتري إلا ما تحتاجه فعلاً في حياتها من مواد استهلاكية وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة الى شركات الانتاج التي يعبر أصحابها عن تشاؤم كبير ولا يتوقعون انفراجاً في الشهور المقبلة ليتأكد أن القوة الشرائية هي التي تحدد السلوك الاستهلاكي للفرد الواحد.