نادراً ما اهتم الرأي العام الالماني في السابق بتقدم شريحة كبيرة من السكان في السن. لكن في السنتين الأخيرتين، تفجّر جدال حاد حول المسنين على ضوء الإصلاحات الاجتماعية التي تعتمدها حكومة المستشار الالماني غيرهارد شرودر من أجل التقشف الحكومي في مسعى لضمان القوة التنافسية للبلاد على الصعيد العالمي إضافة الى التحول الديموغرافي المخيف الذي تشهده المانيا. السؤال المحوري في هذا الجدل هو هل يمثّل المسنون عبئاً أم مكسباً في كنف المجتمع الالماني؟ وعزّز هذه الاجواء في البلاد استمرار الركود الاقتصادي والزيادة في نسبة البطالة - معسكر الغالبية الذي يلقي المسؤولية على المتقدمين في السن الذين يثقلون كاهل صندوق التقاعد ويزيدون تكاليف قطاع الصحة. أكثر من ذلك، يعتقد هذا المعسكر أن المسنين ينسفون النظام الاجتماعي الألماني الذي يعتمد على مبدأ التضامن بين الأجيال، أي أن القوّة العاملة تسهم عبر الاقتطاعات من أجورها لمصلحة صندوق التأمين الصحي والاجتماعي والتقاعد في تغطية معاش الجيل المتقاعد. الا أن التراجع الحاد في نسبة الولادات وارتفاع عدد المسنين في المانيا مقابل الخفض المستمر في حجم القوة العاملة، يبث الرعب في أنفس الذين يسألون عن مستقبل البلاد التي لم تهتم في الوقت المناسب بالقضية الديموغرافية وايجاد وظائف بديلة في سن التقاعد. اذ أن من تجاوز ال 56 عاماً، لا يفقد بالضرورة رغبته في العمل والاسهام بأي شكل في دعم اجمالي الناتج القومي للبلاد. فالارقام الرسمية في المانيا تشير الى أن 100 شخص يعملون حالياً في مقابل 40 في سن التقاعد. وفي عام 2050، سيصبح عدد هؤلاء الأخيرين 08 فرداً. كما أن نسبة الولادة الحالية ستظل راكدة في وقت سيتراجع فيه عدد السكان من 28 مليون نسمة حالياً الى 75 مليوناً بحلول عام 2050 . ويعيش في ألمانيا حالياً أكثر من 19 مليون متقاعد أي ما يمثل العدد الاجمالي لسكان السويد والنروج والدنمارك. والمتتبع للنقاش حول دور المسنين في ألمانيا يشعر بنوع من الخطاب المفعم بصورة سلبية موروثة عبر الأجيال عن الشخص المتقدم في السن، إضافة الى تراكم أحكام مسبقة حول هذه الفئة من الناس. فحتى نهاية تسعينات القرن الفائت، اقترنت كلمة المسنين بالمعاناة من الفقر. وخاض المستشار الالماني غيرهارد شرودر حملته الانتخابية في العام 1998 بالاشارة الى قضية التقاعد والمسنين. ووعد الناخبين بعدم المساس بمستحقات الذين أحيلوا الى المعاش الحكومي. بعدها، أصبح الحديث يدور عن العائلات الفتية التي أصبحت مهددة بالفقر أكثر من فئة المسنين. واستغل بعض الخبراء في الاقتصاد والاجتماع ذلك للإعلان أن المسن الألماني لم ينعم من قبل بالرفاهية المادية المتوافرة لديه في حاضرنا وما يشمل ذلك من نوعية حياته اليومية ومستوى الرعاية الصحية وآفاق التعليم. ومن هذا المنطلق، يمكن أيضاً تفسير الاقتطاعات التي فرضتها الحكومة في اطار برنامجها التقشفي على أجور المتقاعدين - على رغم وعودها الانتخابية - الذين خرجوا في الشهور الماضية الى الشوارع للاحتجاج على سلبهم مستحقاتهم المحدودة. فجيل الشباب يلقي بالمسؤولية الكاملة على المسنين الذين يرتفع عددهم وتطول نسبة أعمارهم ، بل ان بعضهم يقول إن المانيا تسير في درب"ديكتاتورية المسنين"، حتى أن بعض الساسة المحافظين لا يتورع عن القول بأن المعاش الحكومي في سن التقاعد لن يضمن مستقبلاً مستوى العيش المطلوب بل سيكفل فقط أدنى ضروريات الحياة. النقاش في المانيا عن دور المسنين في البلاد يعكس صورة سلبية عن مكانة هذه الفئة من الناس في المجتمع ويتجاهل أن نسبة متزايدة منهم تواصل نشاطها على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. إذ إن كثيراً من الأندية الرياضية والاجتماعية والمؤسسات الخيرية لم تكن لتستمر لولا التزام المسنين، كما أن هؤلاء الناس يتطوعون لخدمة كثير من البرامج الحكومية ذات المنفعة العامة، ولا ننسى أن هذه الفئة التي تملك ودائع مالية كبيرة وعقارات - اعتماداً على أرقام رسمية - تقدم المساعدة المالية لأبنائها وأحفادها كما يؤكد ذلك أندرياس كروزه الخبير في شؤون الشيخوخة، الذي يقول:"لدينا تحويلات مالية وأعمال دعم يقدمها جيل المسنين لجيل الشباب. كما أن جيل الكبار يمتلك - على مستوى متوسط - ثروات لم تكن متوافرة لأي جيل في الماضي. وهناك خبراء في الاقتصاد يقولون إن ذلك لن يكون في متناول أي جيل في المستقبل. هذا يعني أنه لدينا اليوم جيل من المسنين يملك موارد مالية عالية نسبياً تمكنه من مساعدة جيل الشباب وهذا لا يحق لنا نسيانه". ويرفض بعضهم إلقاء مسؤولية الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد على كاهل أبناء الجيل الذي حمل على عاتقه مهمة اعادة بناء المانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وحقق المعجزة الاقتصادية. وأظهرت نتائج استطلاع أجري أخيراً في المانيا وشمل فئة من المواطنين تجاوزت أعمارهم الخمسين عاماً أن 72 في المئة منهم اكدوا أن لديهم الاحساس بحيوية أكبر مما توحي به أعمارهم الحقيقية. ولا غرابة أحياناً من مصادفة أبوين تجاوزا الستين يرافقان ابنهما أو بنتهما الى المرقص للاستمتاع بذكريات الماضي والبرهنة على شباب"أبدي". ولا تخلو مدينة المانية من تلك النوادي الرياضية التي تقدم عروضاً خاصة بالمسنين. كما أن الإعلانات للمواد الاستهلاكية لم تعد تقتصر على اظهار تلك الحسناء الشابة للترويج لبضاعة معينة بل أصبحت المرأة المتقدمة في السن هي الأخرى بطلة أفلام الدعاية منذ فترة وجيزة. فهي تتردد مرات عدة في الشهر الواحد الى صالون المزين ولم تعد تظهر دوماً برأس اشيب بل تختار لون شعرها بنفسها. كما انها تقتني أجمل الملابس وأغلاها. وكذلك هو الحال بالنسبة الى الرجل المسن الذي غالباً ما يمارس رياضة كمال الاجسام ويحافظ على نشاطه الفكري للبرهنة على أنه لا يزال عنصراً منتجاً داخل نظام رأسمالي يركّز على المردودية المادية للفرد. وأمام هذه المظاهر الايجابية المتنامية في حياة المسنين الألمان، نلمس تغيراً ولو محتشماً للوعي العام تجاه هذه الفئة الاجتماعية كعنصر أساسي في صيرورة تعاقب الاجيال. لكن السؤال المطروح هو كيف سيتمكن المجتمع الالماني في المستقبل من تغطية تكاليف معاش عدد متزايد من الاشخاص الذين بلغوا سن التقاعد أمام تراجع مذهل لنسبة الولادات؟ هذه الاشكالية لم تجد بعد أجوبة ناجعة في المانيا ولا في الدول الصناعية الأخرى وهي تمثل أحد التحديات التي تواجه المسؤولين الألمان للحفاظ على السلام الاجتماعي في البلاد.