لفت الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأنظار الى المخاطر التي تهدد العراق في ظل الاحتلال، خصوصاً تعاظم النفوذ الايراني في جنوبالعراق. جاء ذلك في حديث له تعبيراً عن المخاوف التي اخذت تزداد في المحيط العربي والإسلامي، الذي ينبغي ان يتحمل مسؤولياته ازاء الشعب العراقي ومستقبله من جهة، ومن جهة ثانية ازاء انعكاس أوضاعه على دول المنطقة وشعوبها، بما ينذر بعواقب وخيمة. حديث الأمير سعود يأتي والعدّ التنازلي للاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور العراقي الدائم يبدأ بالاقتراب من الموعد المقرر، اي 15 تشرين الاول اكتوبر المقبل، طبقاً لقانون ادارة الدولة الانتقالي. النسخ الكثيرة من مشروع الدستور، اشتكت منها حتى الاممالمتحدة على رغم انه اخيراً 14 أيلول/سبتمبر وصلتها نسخة اصلية قال الدكتور حسين الشهرستاني نائب رئيس الجمعية الوطنية، انها النسخة النهائية"الاخيرة"، اي بتأخير شهر واحد عن الموعد المقرر 15 آب/اغسطس. ومع ان مبررات تأخير النسخة الاخيرة من الدستور كانت بهدف إحداث التوافق كما قيل، الا ان هذا الامر ظل بعيد المنال، فقد اعلنت القوى التي تم ضمها باسم"ممثلو السنّة"الى لجنة صياغة الدستور عقب زيارة وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة كوندوليزا رايس في اواسط أيار مايو الماضي، انها لا توافق على هذه المسودة. وأعلن مجلس الحوار الوطني انه يسعى لجمع خمسة ملايين توقيع لرفض الدستور. وقال الحزب الاسلامي انه يرفض الدستور ويدعو الى التصويت ضده. وبغض النظر عما اذا حصل الدستور على موافقة او تم رفضه من جانب ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات، فإنه لم يتمكن من انجاز صيغة توافقية مقبولة لدستور يحظى بتوافق وطني. وظلت فاعليات سياسية وفكرية وثقافية وطنية وقومية وليبرالية وإسلامية ويسارية غائبة عن المشاركة في إعداده او مناقشته ناهيك عن الموافقة عليه. وحتى لو طبعت الاممالمتحدة خمسة ملايين نسخة فإن الاصطفافات المسبقة هي التي ستبقى متحكمة، طالما اريد للدستور ان يكون استحقاقاً انتخابياً وتعبيراً عن ارادة"الفائزين"في انتخابات كان عليها الكثير من الملاحظات تثلم من شرعيتها في ظل مقاطعة وممانعة وتغييب لأطراف وتيارات واسعة. المسألة السياسية المركزية التي لم تتحقق هي التوافق الوطني، لا في صيغة الدستور ولا في انتخابات على رغم قانونيتها طبقاً لقرار مجلس الامن الدولي الرقم 1546 في حزيران/يونيو 2004 وقانون ادارة الدولة في 8 آذار مارس من العام نفسه على رغم الملاحظات والتحفظات عليه، ذلك ان امتناع ورفض فئات واسعة وشعورها ان صيغة الدستور لا تمثلها، بل يراد فرضها بقوة المحتل في ظل احتقان طائفي وتوتر اثني... ستؤدي الى إضعاف الوحدة الوطنية ويعمق من التباعد بين القوى والتيارات والفئات المتنوعة والمختلفة. ولم تتمكن المفاوضات الماراثونية والحوارات الطويلة والسجالات الكثيرة من إحداث"التوافق"الذي ظل غائباً، على رغم ان الجميع يتحدثون عنه حتى في اطار لجنة الصياغة، ناهيك عن داخل المجتمع، حيث عاد كل الى مواقعه، وأعرب ممثلو"السنّة"على رغم انهم طائفة موزعة على مختلف الفاعليات والنشاطات والقوميات والتيارات، ومثلهم مثل"الشيعة"لا يستطيع احد ادعاء تمثيلهم بحكم اختلافهم، عن تنصلهم من مسؤولية اقرار الدستور بصياغاته الحالية. وعلى رغم ان النقاش ظل مغلقاً ومحصوراً في البداية حول عدد اعضاء لجنة الصياغة وطريقة التمثيل ومبدأ التوافق الذي اعتمد كآلية، لكنه انتقل الى بعض الموضوعات والمواد التي تتعلق بتحديد هوية العراق العربية وشكل نظامه الفيديراليات وتوزيع الثروة وصلاحيات الحكومة المركزية ومسألة اجتثاث"البعث"الصدامي وغير ذلك. - للأسف الشديد لم ينظر الى الدستور كاستحقاق تاريخي، خصوصاً اذا كان يؤسس لمرحلة جديدة للدولة العراقية، بحيث يأتي لا قطعاً لها بل امتداداً وتراكماً وإضافة وإغناء وتطويراً لتجربة دستورية. كان يمكن ان يكون الدستور عقداً سياسياً ? اجتماعياً بين المكونات المختلفة وتوافقاً بين القوى والتيارات والفئات المتنوعة، بحيث يحظى بتأييد الشعب، وليس مكسباً انتخابياً في ظرف ملتبس ومعقد وشديد الحساسية والخطورة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل انتهت عقدة الدستور بعد مسيرة طويلة من النقاش والجدل بتقديمها الى الجمعية الوطنية، وهل ستنتهي بعد عرضها على الاستفتاء؟ ام ان معركة الدستور ستبقى مفتوحة وشديدة الشراسة، طالما لم تتحقق الوحدة الوطنية ولم ينجز التوافق الوطني؟ پ واذا لم يتحقق قبول او تأييد الغالبية الساحقة من القوى والتيارات والفئات المختلفة للدستور، بحيث تشعر جميعها انها ممثلة وأن رأيها محفوظ وأنه لا يوجد تهميش او استبعاد او عزل لأية جهة وتحت اية حجة كانت، سواء شاركت في العملية السياسية ام لم تشارك او كانت مؤيدة ومنسجمة ام ممانعة ورافضة، فإن اقرار الدستور او رفض لن يغير شيئاً من حقيقة غياب الوحدة الوطنية وخطر التفتيت والتآكل الداخلي على مستقبل العراق، لأن الدستور في نهاية المطاف يكتب لمرحلة تاريخية طويلة وليس تعبيراً عن توازن قلق وفي ظرف عصيب بوجود الاحتلال وغياب السلام الاهلي والمجتمعي وانتشار العنف والارهاب وتفشي الطائفية والإثنية والعشائرية والمناطقية على نحو يضعف من مبدأ المواطنة في الدولة العصرية، واستمرار ظلال الدولة الشمولية بكل ثقلها المخيّم. الطبعة الاخيرة من مشروع الدستور تألفت من 139 مادة توزعت على ديباجة مجلجلة وطويلة تستحق وحدها مناقشة مستفيضة وستة ابواب، تناولت الكثير من الجزئيات والتفاصيل وحفلت في فرعيات وشروحات ليس مكانها الدستور. والملاحظ ان الدستور بما احتواه من حسنات وسوءات، الا انه جاء انعكاساً للقوى المتصارعة والمختلفة التي اراد كل طرف منها وضع بصماته وصورته على الدستور حتى غدا خليطاً غير منسجم احياناً من الافكار والمفاهيم المتعارضة من دون وحدة موضوع او اتفاق مضمون، فهو يعطي حقاً أو حرية بيد، ليأخذه باليد الأخرى. وانعكس ذلك على لغة الكتابة، وخصوصاً على الديباجة التي جاءت بتعابير انشائية مفخمة وعامة. وحين تقرر المادة الثانية الفقرة أولاً - ب لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديموقراطية، وتذهب الفقرة اولاً - ج الى عدم جواز"سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية..."، فإن الفقرة التي سبقتهما اي اولاً - أ كانت قررت"لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام". ولا ادري لمن ستكون الغلبة في حال وجود الاختلاف او التعارض، وهو حاصل لا محالة، فكيف السبيل الى التخلص من اصابع المفسرين والمؤولين، والذين سيكون لهم الحق في تفسير"ثوابت احكام الاسلام"، خصوصاً في ظل اجتهادات ومذاهب فقهية؟ ولعل الاخطر من ذلك لو استطاع هؤلاء الوصول الى المحكمة الدستورية العليا، التي سيكون من اختصاصاتها البت في دستورية القوانين، فإن ذلك سيكون اقرب الى"هيئة تشخيص مصلحة النظام الايرانية"، وهي الخطوة الاولى والمهمة في الطريق الى ولاية الفقيه! وبغض النظر عن المبادئ البالغة الرقي والتقدم التي تضمنّها مشروع الدستور، قياساً بجميع الدساتير العراقية السابقة وحتى الدساتير العربية، في ما يتعلق بالحريات العامة والخاصة وسيادة القانون وتداولية السلطة سلمياً واخضاع القوات المسلحة لقيادة مدنية ومبدأ المساواة وعدم التمييز واستقلال القضاء وتحريم التعذيب وحرية الفكر والضمير والعبادة وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، الا ان هذه المبادئ المتقدمة ظلت مقيدة بالكثير من النصوص المحافظة والتقليدية التي تتجه صوب"تديين"الدستور او"أسلمته"وأحياناً"تطييفه"بما يعكس تعارضاً بين التيار الديني والتيار المدني، كما يثير التباساً كبيراً حول علاقة الدين بالدولة والدور المناط بتحديد ثوابت احكام الاسلام، وكذلك ما ورد من كلام عمومي حول مكانة"المرجعيات"ومواجع القمع الطائفي والشعائر الحسينية وغير ذلك من النصوص الموحية. في تقديري ان لغة"الحسينية"وهمومها وسقفها هي غير لغة الدولة ومنطقها ودستورها. فالحسينية مكان للتعبد والصلاة واستذكار القيم والمثل النبيلة التي استشهد من اجلها الحسين، لكنها بالطبع لا يمكن ان تحل محل الدولة. لذلك فإن الديباجة اثارت الكثير من التشوش والالتباس حول مباني الدستور ناهيك عن معانيه، حين استخدمت مفردات اقرب الى لغة الحسينية منها الى لغة الدولة. تحدثت ديباجة الدستور عن"مواجع القمع الطائفي"، والمقصود هنا التمييز الذي عانت منه الدولة العراقية، خصوصاً عبر قوانين الجنسية لعام 1924 وعام 1963 وقرارات مجلس قيادة الثورة بعد العام 1968، خصوصاً القرار 666 الصادر في 7 أيار مايو 1980 والذي تم بموجبه تهجير نحو نصف مليون عراقي بحجة التبعية الايرانية. كما تناولت الديباجة"عذابات القمع القومي"والمقصود بذلك القمع الشوفيني الذي استخدمه الحكام المستبدون، فلا علاقة للقومية او العروبة بذلك، او بموقف العرب من حقوق الاكراد العادلة والمشروعة. وصنفت الديباجة الشهداء الى شيعة وسنّة، عرباً وأكراداً وتركماناً، في محاولة لفرض هذه المسطرة، والانتماء الطائفي او الاثني على بقية الاصطفافات السياسية والايديولوجية. والتساؤل المشروع هنا: أين يمكن وضع شخصيات من عيار فهد مؤسس الحزب الشيوعي وقائده ورفيقيه حسين الشبيبي وزكي بسيم الذين اعدموا عام 1949 وسلام عادل وجمال الحيدري وعبدالرحيم شريف الذين اعدموا عام 1963، وعايدة ياسين وصفاء الحافظ وصباح الدرة الذين اختفى اثرهم منذ العام 1980!؟ ولا ادري ان كان ممثلا الحزب الشيوعي في الجمعية الوطنية الرفيقان حميد مجيد موسى البياتي الأمين العام للحزب ومفيد الجزائري وافقا على هذه الصيغة او تحفظا عنها او احتجا، فالامر يتعلق بالهوية التي يراد نزعها او التنصل منها او الارغام على تركها وكأنها هوية"مجذومة". پوكذلك الحال بالنسبة الى الوطنيين والقوميين والبعثيين السابقين في الجمعية الوطنية: كيف يمكن تصنيف ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبدالوهاب الشواف الذين قضوا نحبهم عام 1959، الأولان أعدما والشواف قتل في معارك الموصل خلال القصف الحكومي بعد حركته الشهيرة؟ وكيف يمكن احتساب الزعيم عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف والمهداوي واحمد صالح العبدي من قيادات الثورة؟ وكذلك فؤاد الركابي وعبدالكريم مصطفى نصرت وعبدالخالق السامرائي من القيادات البعثية التي تم اعدامها خلال حكم البعث. ولا يمكن الحديث في الدستور عن مآسي الماضي، مثل"شجن المقابر الجماعية"والانتفاضة الشعبانية، بلغة اقرب الى الثأر والكيدية، بدلاً من اعلاء شأن الوحدة الوطنية ومبادئ التسامح ووضع الضوابط لنبذ الطائفية وتحريمها. واذا اريد للديباجة التحدث عن امور سياسية بما فيها مآسي الماضي وان كان ذلك غير مألوف في الفقه الدستوري وفي ديباجات الدساتير، فمن الاجدر الحديث عن مآسي الحاضر أيضاً، حيث يعاني الشعب العراقي اشد المعاناة في ظل الاحتلال وارتكاباته لحقوق الانسان ، فلم يحدد الدستور او ديباجته موقفه من انهائه او وضع جدول زمني لاستعادة السيادة والاستقلال كاملين، فتلك امور جديرة بالحديث. ان تنبيه الأمير سعود الفيصل ينطلق من رؤية واقعية للمخاطر الحقيقية التي تواجه العراق، خصوصاً في ظل احتمالات سيكون احلاها مراً اذا لم تأخذ الدول العربية والاسلامية على عاتقها، المساهمة في وضع حد لمأساته. ولعل اخطر هذه الاحتمالات: 1- خطر الحرب الاهلية، واذا لم يكن العراق حالياً في أتونها، فهو عند مدخلها او على حافتها. وهذه الحرب قد تمتد الى العالمين العربي والاسلامي وخصوصاً دول الجوار. والحرب الاهلية لا تبدأ بين السنّة والشيعة او بين العرب والأكراد او بين الأكراد والتركمان، بل بإشعال فتنة يقوم بها متطرفون ومدفوعون من هذا الفريق او ذاك بدعم من مغامرين وطامعين، لتنتهي بحرب الجميع ضد الجميع، بعد ان تبدأ بتفجير جامع او حسينية او مقر او اغتيال او تصعيد واستقطاب طائفي وإثني. 2- التقسيم الذي قد ينعكس على دول المنطقة. فبعد حرب اهلية طاحنة طائفية واثنية شديدة الشراسة، يصبح قبول الامر الواقع لا مفر منه، لدرجة ان استمرار القتل والتفجير والتطهير قد يفرض مطلب او شرط التقسيم باعتباره"أحسن الحلول السيئة"بحيث يمكن التحكم او التأثير في الاجزاء المتشظية سواء من جانب ايران في الوسط والجنوب او من جانب تركيا في الشمال كردستان. 3- خطر اتجاه العراق بعيداً من محيطه وخاصته العربية وغرقه في محلية وعراقية ضيقة، مثلما يدعو البعض حالياً الى مفهوم"الامة العراقية"بحسن نية او من دونها وادارة الظهر الى كل ما يمت الى العروبة بصلة. ولعل النقاش والجدل اتخذا طابعاً شديد الحساسية في شأن عروبة العراق حيث يشكل العرب نحو 80 في المئة من السكان واتجاهاً غالباً طبع تاريخ العراق وحضارته ودولته المعاصرة بطابعه، مع ضمان حقوق الأكراد القومية وخياراتهم الحرة والتركمان والكلدوآشوريين وحقوقهم الثقافية والادارية، في اطار وحدة العراق. ان تصريحات الأمير سعود الفيصل كانت اشبه بإنذار عربي بخطورة ما وصلت اليه اوضاع العراق في ظل الاحتلال وانعدام الأمن وتفشي الارهاب والجريمة المنظمة ونقص الخدمات والاحتياجات الاساسية للمواطن. الاعتراف بمسؤولية الاطراف الدولية والاقليمية خطوة مهمة، ولعل المسألة الأهم التي تترتب عليها هي السعي بكل الوسائل الممكنة لانقاذ الوضع قبل استشرائه وانتقال عدواه الى الجيران ووقف التدهور المريع باتجاه الكارثة! كاتب وحقوقي عراقي.