حسناً يفعل المرجع الشيعي علي السيستاني بدعوة العراقيين الشيعة الى"ضبط النفس"، وحرمان الزرقاوي من أول أهدافه، أي إشعال نار الحرب الأهلية في العراق. أما توديع الجنرال ريتشارد مايرز رئاسة الأركان الأميركية، بالدفاع عن تمديد الاحتلال للعراق لتفادي 11 ايلول سبتمبر آخر على أراضي الولاياتالمتحدة، فلعله دفاع عن إدارة البنتاغون الحرب بعد إطاحة نظام"البعث"... الحرب التي يصر الرئيس جورج بوش على أنها في مسرح"مركز الإرهاب"، العراق، وللقضاء على الزرقاوي وتنظيم"القاعدة"الساعيين الى اجهاض مشروع الديموقراطية الأميركية في هذا البلد. لكن عراقيين يرون في هذه الحرب الآن، مشروعاً لسحق مقاومة السنّة تمرير مسودة الدستور رغماً عنهم، بعد نحو أسبوعين، وأنها كانت منذ أمد الغطاء الفعلي لتمرير تركيبة حكم شيعي - كردي، أُقصوا عنها وأَقصوا أنفسهم عنها ايضاً بمقاطعتهم الانتخابات. التساؤل مشروع بالطبع عما حققته حملات الأميركيين - ومعهم القوى الأمنية العراقية في مطاردة رجال الزرقاوي، ومواجهة مستنقعات الدماء التي ينشرها الانتحاريون بدعاوى قتل"المرتدين"من رجال الشرطة والجيش، فإذا بغالبية الضحايا مدنيون سنّة وشيعة، وباحثون عن عمل عزّ عليهم رغيف خبز. والتساؤل مشروع ايضاً عما أنجزه الأميركيون ومعهم حكومة ابراهيم الجعفري في محاصرة شرارات الحرب الأهلية التي لا يشك جيران للعراق في حقيقة انها اندلعت منذ زمن، وبين حقائقها السود تصفيات مذهبية وطوابير جثث، وتهجير قسري و"تطهير"ديموغرافي، طائفي وعرقي... كل ذلك تتوالى صفحاته فيما لا يكف الأميركيون عن تعداد"إنجازاتهم"في مطاردة"القاعدة"، ولا تكف جماعة الزرقاوي عن اعتزازها بمسلسل قتل، ضحاياه قلما كانوا اميركيين. والحال ان للحرب جبهاتها، لكل خنادقه، واشنطن لا ترى بديلاً من تمديد الاحتلال خوفاً من هزيمة، والسلطة العراقية لا ترى مفراً من احتضان هذا الاحتلال، خوفاً من... الزرقاوي! لن تعترف إدارة بوش بفشلها في نقل العراق الى ضفة الاستقرار، وبأخطائها التي زرعت بذور كوارث، غيثها تقاطر بحفر خنادق عداء وشكوك، بعد تنافر بين الشيعة في الحكم والسنّة. ولن تعترف بأن هذا العداء الذي يتعاظم على هواجس"التآمر"والقطيعة، بات امضى اسلحة الزرقاوي، وبأنها شريك فاعل في صنع ازمة هوية العراق. ذلك لا يبرر سقطة"هيئة علماء المسلمين"في اعتبار زعيم"قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"جزءاً من المقاومة، ولكن، في المقابل لا يدخر الاحتلال وسيلة لاستعداء السنّة، بحملات"تطهير"لمناطقهم، بذريعة انها باتت ملاذاً ل"الإرهابيين". هكذا، بات سنّة العراق يشكون دفع اثمان"التطهير"، بعد حملات"اجتثاث البعث"، وما يشبه القطيعة مع الشيعة، فيما يخشون اكتمال طوق الحصار من حولهم، بالاستفتاء على الدستور الذي يُفرض قسراً عليهم. فما الذي ينقص"القاعدة"والزرقاوي لتأجيج شرارات الحرب الأهلية، فتتحول أتوناً لحريق هائل، تدرك دول المنطقة انه بات شبه حتمي، ولا تعرف وسيلة لتطويقه؟ أوليست فضيحة قبل أسبوعين من الاستفتاء على الدستور، ان تخيّر حكومة الجعفري السنّة بين إنجاحه ومواجهة حملة عسكرية شاملة، لأن المقاطعين"يرضخون"لتهديدات الزرقاوي؟ قد يكون في اتهام الحكومة بمحاولة"ابتزازهم"شيء من الواقع، او الغبن، لكن الأكيد ان دستوراً يولد بالتهديد - بعد"تحايل"في نقاشات تركت قنابل موقوتة في بنوده - لا يداني الديموقراطية إلا بانتحال لفظها... ولا يُبشر إلا بجولات من الثأر والقهر وحروب الأشقاء. وزير الخارجية البريطاني جاك سترو بشّر العراقيين امس ب"لحظات قاتمة"، لئلا يقول اياماً حالكة. ولا مبالغة ربما في الجزم بسقوطهم جميعاً في فخ الزرقاوي، حين هزم معظمهم امام انانية الاستئثار وغرائز الثأر من"البعث"، فباتوا رهائن آذانهم الصماء والطيش الأميركي، و"ديكتاتورية المظلومين"... اما العراق ووحدته وهويته فمجرد كلمات، ولا أحد في السلطة يمكنه ادعاء أي ضمان بإنقاذ البلد من شرور التفتت، في"جنة"الفيديرالية الآتية تحت حراب الميليشيات والاحتلال. حسناً فعل السيستاني بدعوة الشيعة الى توعية"المغفلين"لئلا ينساقوا الى"الفئة المنحرفة"المتلهفة على اضرام نار الحريق الكبير. لكن ذلك لا يلغي حقيقة ان العراق يكتوي بنار رياح مذهبية، ينفخ فيها الزرقاوي، وأن لا أحد يسأل عمن هو المغفل الكبير الذي اوحى للشركاء الشيعة والأكراد بأن تمرير الدستور كافٍ لإسكات السنّة، وبدء الجولة الأخيرة في المواجهة مع"القاعدة".