من يمعن التأمل في المشهد المجتمعي العراقي في لحظته الراهنة ويحاول قراءة مفاصله التكوينية لا بد له من ان يصطدم بالتحولات السريعة والتناقضات المشحونة التي تصل الى ذروة اللامنطق من ارهاب عنيف قاس يستهدف تهديم كل شيء وجعل العراق أشبه بجهنم. مشهد ان حاولنا الامساك بجوهره فهو يمكن اختزاله الى صراع صاخب وعنيف بين دوي الانهيارات المتتالية وعملية البناء او في الاقل الحلم بها، بين موسيقى الفيولن العذبة ودوي الانفجارات والمفخخات المستمر... هذا ما يحاول المسرحي العراقي جواد الأسدي الذي غاب نحو ربع قرن عن العراق، الامساك به وطرحه كثيمة رئيسة في نصه المسرحي"سنوات مرت بدونك"الصادر عن دار الفارابي 2005. وتقترح البنية الدلالية لعنوان المسرحية، التي تتألف من استهلالية وفصلين من دون مشاهد وأغنية ختامية، رؤية هذا المشهد المجتمعي المأسوي بعين المنفي الذي مرت عليه سنوات طوال من دون ان يكون جزءاً او شخصية فيه. يبدأ نص المسرحية باستهلالية تحاول تهيئة القارئ لادخاله الى الفضاء العام للمسرحية، أو تحاول على الاقل صوغ خارطة أولية لعوالم النص المتشابكة. فالشخصيتان شهاب وزوجته صوفيا العائدتان الى الوطن من المنفى والغربة بعد 23 سنة يحاولان ان يبنيا عالماً موسيقياً وغنائياً في مناخ ضبابي عذب ص13 بينما الدوي العنيف للمدافع وأزيز الرصاص يقترب. الصراع الحاد بين الموسيقى ودوي الانفجارات يستمر حتى يغطي الاخير بالكامل على صوت الموسيقى التي تختفي رويداً رويداً ص13. وهكذا تبدأ الاستهلالية بهزيمة روح الموسيقى امام وحشية دوي المدافع، وعبر هذه الهزيمة يدخلنا النص الى الغرف العتيقة لبيت عراقي استكشافاً لما يجري من صراعات وتحولات سريعة داخل سياق العلاقات العنيفة لاعضاء العائلة الساكنة فيه. العنف الذي يستهدف فعل الهدم والانهيار يهيمن على فضاءات المسرحية بقطبيها الاساسيين: الداخل"البيت"، والخارج"المدينة". وسواء كان هذا العنف لفظياً ينحصر بالمستوى اللغوي كما يسم معظم حوارات الشخصيات او فعلياً وأعني جسدياً، كما في الدوي والأزيز، هو المحرك الاكثر فاعلية لعملية البناء الدرامي التي تصل ذروتها في عملية قتل بالرصاص. فهناك عنف رهيب يسيطر على الخارج شوارع المدينة، من دوي الانفجارات والقنابل والمدافع انتهاء بعمليات الخطف والقتل والذبح، بينما يعصف بأجواء البيت وعلاقاته عنف لفظي وأحياناً جسدي، كما بين الشخصيتين شاكر وفيصل على سبيل المثال، وكأن هناك نوعاً من التماهي والتماثل بين قطبي البيت والخارج، ويتم تصويره في النص على انه كتلة هائلة من النار. والخوف الذي تبديه الشخصيات كلها ازاء ما يقع خارج جغرافية البيت يشكل بؤرة جوهرية تتمحور حولها الاحداث الدرامية الاخرى. فكل ما يقع هناك من اهوال يتكرر في صيغة او اخرى على لسان الشخصيات في الداخل بل وحتى في الملاحظات الاخراجية التي وضعها المؤلف. فبعد بضعة حوارات هناك ملاحظة اخراجية من نوع"صوت دوي عنيف يهز البيت، صوت دوي القنابل، صوت رصاص وهدير طائرات..."انها ملاحظات موجهة نحو الشخصيات والقارئ معاً. لهذا فمن هذه المساحة الخارجية الخطرة التي لا يمكن اطلاقاً التكهن بما سيحدث لك في حال خروجك اليها هي ما تهرب منها الشخصيات جميعاً فيكرر بكل نوع او آخر الحديث عن ضرورة اقفال الابواب وعدم نسيانها ممفتوحة وكأن هناك هوساً مرضياً باغلاق الابواب هل قفلت باب الحديقة؟ ص28، ألم أقل لك اغلقي الابواب؟ ص30، اقفلوا الباب الرئيسي. ص73، اقفل الابواب القتال صار قريباً ص76... يتساءل شهاب الموسيقي في اول حواره لدى دخوله الخشبة:"ماذا يحدث؟ انفجارات في الخارج ونزاعات في الداخل! ص24 ينتج هذا الحوار دلالات واضحة على مدى التداخل العنفي بين الخارج والداخل، بل يلجأ بعض الشخصيات الى لغة حربية في بعض الاحيان لوصف صراعات الشخصيات داخل البيت. واذا كانت نار الخارج تهدف في المحصلة النهائية الى فعل القتل والابادة الجسدية فإن حرب الداخل التي تضرب العلاقات الاجتماعية بين الشخصيات تتوّج العملية الدرامية عبر قتل شاكر، اللاعب دوراً قذراً في عهد النظام البائد والمتحول الى اصولي، أخاه فيصل الذي تخلى عن وظيفة التدريس في جامعة المستنصرية ليتحول الى سمسار عقارات. فالداخل والخارج يتحالفات هنا على فعل القتل والانهيار. وفي خضم هذه التمزقات السايكولوجية ودوي الانهيارات الفاضحة، تلجأ الشخصيات في الكثير من المواقف الى لغة شعرية للتعبير عن دخولها العاصفة واظهار خيباتها التشيخوفية وآمالها واحلامها اليوتوبية. وكأن الكاتب بلجوئه الى الموسيقى والغناء والشعر واعطاء كل هذه العناصر الروحية مساحة واسعة يرى ان الكلام اليومي العادي البسيط لا يمكنه التعبير في شكل شمولي كافٍ عن النفس العراقية في اللحظة الراهنة والتي هي نفس ملأى بالتناقضات السيكولوجية وتعيش مأساة التحولات والانهيارات السريعة. هذا اضافة الى محاولات النص طرح سؤال الأمل عبر عملية تماهٍ بين الموسيقى والامل، بين العزف والكفاح بهدف البقاء في الجحيم. ومعاني الامل والاصرار عليه يتجسد في شكل واضح في شخصية شهاب الذي يتخذ مكانه في اغنية الاختتام ويبدأ من خلال عزفه على الفيولون بمقارعة دوي انفجار القنابل. هكذا تصف الملاحظة الاخراجية اغنية الاختتام:"يعم صوت طويل مع كل انفجار قنبلة يرد شهاب عليها بضربة من عزفه على الفيولون تتصاعد الانفجارات ويتصاعد العزف. الخلفية الموسيقية تتصاعد ايضاً شيئاً فشيئاً، صوت الموسيقى يطغى على دوي الانفجارات وغناء صوفيا يصدح مع كورالات وعزف جماعي"ص126. وهكذا نكون أمام خاتمة تدحض وتفند استهلالية العرض وتبشر بطغيان الموسيقى على الخراب والامل على اليأس! لكن السؤال هنا هو: ألا تبدو الخاتمة الوردية هذه مقحمة نوعاً ما على جسد النص المتفحم من كثرة الانفجارات والانهيارات والهزائم؟ كاتب ومسرحي عراقي.