يشكل النفط كمورد مالي أساسي، عصب الحياة بالنسبة للاقتصاد العراقي وفعاليات الدولة ومستوى معيشة السكان. وهذه حقيقة لا يختلف عليها أحد، كما أنها كانت تميز الوضع الاقتصادي، منذ بدايات الخمسينات، عندما ارتفعت عوائد النفط وتوسع دور الصناعة النفطية واستمرت على هذا المنوال خلال العقود اللاحقة وحتى الآن. ويبدو من المؤكد أن دور النفط سيبقى كذلك لفترة غير قصيرة بفعل عاملين مهمين هما: ضخامة الاحتياطي المقدر بأنه ثاني احتياط في العالم بعد السعودية، واعتماد الدولة اعتماداً كلياً تقريباً على عوائد النفط، الأمر الذي جعل من الاقتصاد العراقي اقتصاداً ريعياً، أو اقتصاداً مشوهاً بحسب الاصطلاحات العلمية، من حيث ارتكازه على انتاج سلعة واحدة وعدم وجود توازن بين القطاعات الإنتاجية من حيث حصتها في الناتج المحلي الإجمالي والدخل الوطني العراقي. لذا، فإن الهدف الرئيسي للتنمية أو السياسة الاقتصادية العراقية كانت وما زالت هي زيادة إنتاج النفط بصورة مطردة توخياً للحصول على مزيد من العوائد المالية ولتطوير النمو الاقتصادي بوجه عام، بوصفه شرطاً لاغنى عنه لمعالجة معضلات عديدة، منها زيادة معدل دخل الفرد وتحسين مستوى المعيشة ومكافحة البطالة وايجاد فرص عمل جديدة ورفع مستوى الخدمات الأساسية. والواقع أن هذه الرؤية تطرح الحاجة للبحث في وجهين رئيسيين للسياسة النفطية في العراق. الأول هو السعي لتوسيع الطاقة الإنتاجية لقطاع الهايدروكاربونات نفط وغاز وفق برنامج محدد لتطوير الآبار الحالية وتأهيلها، وذلك بتوسيع عمليات التنقيب والاستكشاف والإنتاج في الحقول الجديدة، فضلاً عن توفير مستلزمات ذلك من النواحي الإدارية والتكنولوجية الحديثة وسواهما، واستحداث الآليات الضرورية لذلك، بما فيها كيفية تسويق النفط ومضاعفة عائداته. هذا الوجه من السياسة النفطية كان موضع دراسة وتحليل من جانب عدد من الخبراء والمتخصصين العراقيين في اجتماعهم المعقود مؤخراً في عمان وخلص إلى عدد من المهمات منها: 1 - استعادة الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد. 2 - وضع حد للفساد والتهريب الشائع في مناطق عدة. 3 - أبعاد الصناعة النفطية عن التأثيرات والضغوط السياسية. 4 - الفصل بين مهمات وزارة النفط وشركة النفط الوطنية الواجب اعادة تأسيسها. 5 - إعادة تعمير وتأهيل الحقول والمنشآت النفطية. 6 - استحداث طاقات إنتاجية جديدة. 7 - استكمال برامج الاستكشاف والتنقيب عن النفط. 8 - استخدام الغاز الطبيعي في أوسع القطاعات الاقتصادية. 9 - إضافة طاقات تكرير جديدة لسد حاجات الاستهلاك المحلي ولأغراض التصدير. 10 - تدريب وتأهيل كادر نفطي جديد. 11 - تشجيع القطاع الخاص العراقي وتوسيع دوره في الصناعة النفطية. إضافة إلى ذلك، يجب اتخاذ تدابير مؤسسية ودستورية معينة على سبيل الضمانات الضرورية لبلوغ النجاح ومنها إصدار قانون نفطي من قبل الجمعية الوطنية. أما الوجه الثاني للسياسة النفطية، فلا يقل أهمية عن الوجه الأول. وهو المتعلق بمجالات وآليات الاستثمار السليم لعوائد النفط بما يكفل الإفادة الرشيدة من هذا المردود المالي الكبير لخدمة أهداف السياسة الاقتصادية في تنويع الاقتصاد الوطني، ورفع مستوى المعيشة ومعالجة الأعباء المالية الخارجية. والواقع أن تجربة العراق، في هذا الميدان، تثير الكثير من مشاعر الحزن والإحباط، بسبب ما أصاب الثروة النفطية من هدر وفساد، فضلاً عن مظاهر مريعة من التخبط واللاعقلانية والمزاجية في اتخاذ القرارات والسياسات المعتمدة لاستخدام وإنفاق العائدات النفطية. ولعل أخطرها وأشدها إيلاماً، ما حصل في العهد السابق، من ممارسات منكرة للتلاعب بهذه الثروة، سواء في نطاق الحروب الغبية والطائشة والإنفاق العسكري الهائل، أو في عمليات الفساد والإفساد والعبث المالي من غير رادع ومن دون ضمير وطني وإنساني. إلا أن النظرة الموضوعية المسؤولة تفرض علينا الإقرار من ناحية أخرى بحصول إنجازات اقتصادية واجتماعية مهمة في مراحل مختلفة سابقاً بفعل استخدام عائدات النفط، كما حصل في خمسينات القرن الفائت في إطار"مجلس الإعمار"الذي كان يتلقى جزءاً كبيراً من عائدات النفط بصورة سليمة تراوحت بين 50 و70 في المئة . وكان الاتجاه أن تستمر كذلك في المرحلة اللاحقة لولا تغير السياسات واضطراب الوضع السياسي والأمني لاحقاً. وثمة حاجة ماسة وعاجلة اليوم لصوغ استراتيجية واضحة بشأن استخدام العائد المالي للثروة النفطية وفق رؤية اقتصادية مدروسة تكفل إنهاء حالة التشوه والاختلال في الهيكل الاقتصادي العراقي، وتوجه الإنفاق العام في اطار الموازنة العامة بصورة رشيدة وعقلانية. فالوضع الراهن يعاني من علل وعيوب خطيرة يجب معالجتها لوضع حد لمظاهر الهدر والاتكالية ولبناء اقتصاد وطني عصري وإصلاح السياسة المالية والنقدية بما يكفل تحقيق هذه الغايات، ومنها توسيع المصادر الضريبية. هذا الوجه من السياسة النفطية جدير بأن يبحث ويحلل ويعالج بصورة علمية ومسؤولة أسوةً بالوجه الأول الذي أتينا على معالجته والإشارة إلى النتائج والتوصيات المطلوبة بشأنه. ونأمل بأن تشمل الدراسة المرجوة مراجعة وإصلاح مبادئ وأسس الموازنة العامة للدولة الإنفاق العام في الدرجة الأولى والبحث باستحداث آليات جديدة خارج اطار الموازنة العامة لتطوير البرامج الإنمائية والسياسات الاستثمارية بما فيها صناديق مستقلة أو هيئات مستقلة لأهداف إنمائية سواء كانت على مستوى البلاد ككل أو محصورة في اطار إقليمي أو مناطقي بحسب حاجات الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يوفر المبررات الضرورية لذلك. ومما يزيد من أهمية ذلك، هو الاعتقاد الراجح، بأن مستقبل التنمية وإعادة الأعمار في العراق، ستعتمد في الأساس على موارده المالية الخاصة، ومن أهمها عائدات النفط. أما التعويل على المعونات الخارجية، فهو أمر مشكوك فيه لأسباب عدة، منها ضآلة المنافع التي جناها العراق خلال السنتين الأخيرتين من الدعم الخارجي، وعدم توافر مبررات قوية لاحتمال تنامي هذا الدعم في المستقبل، لعوامل تتعلق باستعداد الدول المانحة لذلك، ولاختلال الحالة الأمنية والسياسية في العراق، فضلاً عن أن جزءاً كبيراً من المعونات الخارجية ذهب لمجالات خارج اطار المشاريع المنفذة ومنها كلفة أمن المشاريع تبلغ نحو 30 - 36 في المئة أو النفقات الإدارية الباهظة أو الرواتب العالية جداً للموظفين الدوليين. في هذا السياق من المفيد أن نشير إلى أن بعض التقارير الصادرة في الخارج لا سيما من بعض مؤسسات البحث الأميركية، كمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، قد أشار إلى أن القيمة الحقيقية للأموال المنفقة في المشاريع في العراق لا تتجاوز 27 في المئة من الكلفة الإجمالية للمشروع. وهي مسألة مثيرة وتدعو للتأمل الجدي في ما يعلن من أرقام حول المعونات المقدمة للعراق. إن تحدي الموارد في العراق هو من أهم التحديات التي تواجهه ويحتاج إلى مراجعة ودراسة جديتين خصوصاً من حيث النظر إلى الحاجات الإنمائية والاعمارية المقبلة وكيفية اعتماد منهج يحقق التوازن بين الاستخدام الرشيد للموارد النفطية كمصدر داخلي أساسي وبين الموارد الخارجية في اطار المعونات المتوقعة. إلا أن الشيء المهم هو التأكيد على ما هو أنفع وأضمن بتركيز الجهود على تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وتأمين المناخ اللازم له وتوجيهه نحو القطاعات والمجالات المادية ذات الفائدة المباشرة على تأهيل الهياكل الاقتصادية والبنى التحتية، وتوفير فرص عمل جديدة وتعزيز التعاون والشراكات مع القطاع الخاص العراقي. وزير التخطيط العراقي السابق.