نتج من ارتفاع أسعار النفط خلال السنتين المنصرمتين، ارتفاع في مداخيل الدول العربية النفطية يتجاوز حاجاتها الانفاقية ويراكم احتياطياتها. ونستثني العراق من هذه الوضعية حيث ان حاجاته الاعمارية ضخمة والنفقات الاجتماعية المطلوبة كبيرة، كما ان دين العراق ملحوظ على رغم تخفيضه بنسبة كبيرة، وانتاج النفط وتصديره محدود حتى تاريخه. علماً بأن الظروف الأمنية، اذا توافرت، ستسمح للعراق، خلال ثلاث الى أربع سنوات، انتاج 5 ملايين برميل في اليوم تساوي حينها 250 الى 300 مليون دولار يومياً أو 87 - 110 بلايين دولار سنوياً. نعود الى القضية الأهم، فالكويت والسعودية ودولة الامارات وسلطنة عمان ودولة قطر، تنتج أكثر من 15 مليون برميل يومياً وما يوازي، حتى تاريخه، مليوني برميل من الغاز في اليوم. وبالتالي، فإن الدخل الناتج من هذا الانتاج، سواء صدر أو سوق من دون دعم دول الانتاج، يساوي في اليوم الواحد 986 مليون دولار أو 350 بليون دولار سنوياً. يبدو رقم المداخيل من التصدير وقيمة الاستهلاك المحلي كبيراً، لكنه في الواقع وبالنسبة الى الموارد المالية الدولية أصبح رقماً مهماً، لكنه ليس رقماً هائلاً. فعلى سبيل المثال، ربما ان خسائر اعصار كاترينا في الولاياتالمتحدة ستبلغ 120 بليون دولار أو أكثر بقليل من نسبة 1 في المئة من الدخل القومي الأميركي. وعليه، فإن مداخيل جميع بلدان النفط العربية في الخليج لا تتجاوز نسبة 3 في المئة من الدخل القومي الأميركي. وعلى رغم التشبيهات التي قد تبين ان حجم المداخيل بسيط في الخليج، لا بد من النظر الى تطورين أساسيين. فخلال ثلاث سنوات ستنجز مشاريع تسييل الغاز في قطر. والمعروف أن في المياه القطرية الاقليمية يوجد ثاني أكبر احتياطي من الغاز في العالم. وعند انتهاء المشاريع، تصبح مداخيل قطر موازية لتصدير 6 ملايين برميل من النفط يومياً، كما ان صادرات العراق قد تزيد بنحو مليوني برميل، وعندئذ، اذا استمرت الأسعار على ارتفاعها الحالي، يكون دخل دول الخليج بما فيها العراقوقطر بعد تطوير مصادر العراق وانجاز معامل التسييل في قطر، 453 بليون دولار سنوياً. ان عدد سكان هذه البلدان وعدد العاملين فيها من جنسيات مختلفة لا يزيد على 55 - 60 مليون نسمة بعد ثلاث سنوات، وبالتالي يكون دخل المواطنين نظرياً 45 - 50 مليوناً حوالى 10 آلاف دولار سنوياً للشخص الواحد، وهذا معدل منخفض قياساً على معدلات الدخل المحققة في أوروبا الغربية وبلدان أميركا الشمالية وحتى سنغافورة وهونغ كونغ. واذا افترضنا ان الدخل من النفط لن يشكل أكثر من نسبة 40 في المئة من الدخل القومي، يتأتى عن مداخيل النفط - شرط استعمالها بشكل مقبول - تريليون ومئتي بليون دولار، أي ما يوفر نظرياً معدل دخل للفرد الواحد يوازي 25 ألف دولار سنوياً، وهو معدل يقرب من المعدلات في فرنسا وانكلترا وايطاليا، وربما يزيد قليلاً على دخل الفرد الواحد في اسبانيا. ان زيادة الدخل، اذا استمرت، ستساهم في زيادة الاحتياطيات المالية والمردود على هذه الاحتياطات. لكن الصورة الأساسية المطلوب تفهمها هي ان البلدان العربية النفطية لن تكون ذات تأثير حيوي على الصعيد المالي في المجتمعات الصناعية. وان الأهمية الأساسية للبلدان العربية النفطية هي استراتيجية بسبب اعتماد النفط ومشتقاته، ومن بينها الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة الضرورية للانتاج والتدفئة والانتقال والنقل في البلدان الصناعية والنامية. وهذه الأهمية الاستراتيجية تعني بكل تأكيد ان بلدان انتاج النفط في الخليج عليها تعزيز اجراءاتها واحتياطياتها الأمنية، والمحافظة على علاقات مميزة مع العالم الغربي من جهة، ومع الصين والهند من جهة أخرى. فالتوازن الاستراتيجي الحيوي مستقبلاً سيكون بين الصينوالولاياتالمتحدة، ومع كل من الاثنين تأييد مرحلي لابقاء التوازن محفوظاً من بلدان السوق الأوروبية والهند. وفي هذه الموازين تبدو البلدان العربية قليلة التأثير وعرضة للتأثر بالمجريات الدولية الكبرى، فكيف تتأمن المناعة؟ المناعة لن تتوافر ما لم يصبح الانسان الفرد محط عناية ورعاية الأنظمة، ضمن مشاريع تحريرية للفرد وتخفيف الاعتماد على عطاءات الدولة. وذلك عن سبيل تطوير الطاقات الفردية ودفع الشباب الى الانخراط في مجريات التحولات التقنية والاقتصادية الحديثة. وذلك لن يتحقق ما لم يقبل الشباب في بلدان النفط الخليجية على اكتساب المعارف والعلوم في المعاهد المتطورة واكتناز الطموح للانجاز على صعيد عالمي. لقد تغير العالم خلال السنوات الثلاثين المنصرمة منذ الارتفاع الأول لأسعار النفط بقوة عام 1973. وأصبحت حاجات الدول الصناعية متشبعة وسكانها على تناقض ومواردها المالية على تراكم. فأي مصرف عالمي من العشرة الأوائل في العالم لديه موارد مالية تفوق ما لدى المصارف العربية المركزية مجتمعة. كما ان موارد المصارف العالمية بعد ثلاث سنوات ستفوق الدخل المتوقع من صادرات النفط أضعافاً مضاعفة. هل نقول ان دور الدول العربية النفطية قد انقضى؟ كلا وألف كلا. فهذه الدول تتمتع بموارد مالية موفورة قياساً على حاجاتها، وغالبية سكانها من الشباب، وأمام هذه البلدان فرصة لا تعوض لإكساب شبابهم العلوم وافساح مجال المشاركة المتزايدة في تسيير شؤون الحكم والانخراط في تطورات المعاصرة من دون وجل. ان الدول العربية النفطية محظوظة لأن ثرواتها تسمح لها بولوج عالم التغيير والتوصل الى نتائج جيدة، شرط كبح اطماع الشباب في تحقيق ثروات خيالية من دون بذل مساع جدية للانتاج وتطويع المعارف والتقنيات. مستشار اقتصادي.