من قانون الرحمة ثم مشروع الوئام الى ميثاق دولة المصالحة والتصالح المنتظر المصادقة عليه بالاجماع في نهاية الشهر، كلها ذات بعد ونتيجة واحدة. الا المفارقة تختلف من حيث الفترة الزمنية وميزان الخسائر من ناحية والاستعداد لتقبل الفكرة أو المشروع من ناحيتها الثانية، سواء من جانب السلطات صاحبة الكلمة الفاصلة أو الفعاليات والتشكيلات الحركية والحزبية المعتمدة أو المعزولة. فالرجل الأول في الدولة الجزائرية ساعٍ لتعميم المشروع وطنياً بغية بناء الدولة الجديدة باسم السلم المدني، باعتباره الشخصية الآتية من خارج المؤسسة العسكرية وفي ضميره أن سياط العسكر لا جدوى منه في زمن التحولات والتغيرات العالمية. ومن منطلق تمتعه بالسمعة التاريخية ومن أهل بيت التحرير مكنته تلبية الاستعانة به حينما تيقنت القيادات العسكرية ان الحل الأمني والعسكري لا يضمن لها استعادة الأمن والهدوء بصورة نهائية، لكون أن الأزمة أحدثها خلل سياسي، فلا بد من مخرج صادر عن قرارات سياسية يوجه الدولة توجيهاً راشداً ويضعها على سير سكتها المرسوم لها. فضلاً عن تركيبة المجتمع المدني غدت لا تنساق الا وراء عقول الابتكارات الناجمة من صميم العمق الاجتماعي المدني، وكأن تفجير الديموقراطية في الحقبة الشاذلية ما هو الا اشارات بنهاية الاشراف العسكري على الحياة العامة، وهو ما لم تحسن قراءته بعض الجهات في لحظة حماسة الانفجار الديموقراطي المدوي، فاختلطت الأوراق وكادت الدولة أن تخسر مؤسسات قوامها وتدخل الديموقراطية الى عالم منزوع الخرائط. فالرئيس الجزائري ظل يعزز أي مدخل لتجسيد المصالحة الوطنية، وهذه الرغبة الجادة حظيت برضى وقوبلت بالترحيب الواسع تأييداً لبرنامجه الوفاقي"الوئام الوطني"كفصل من ذلك المشهد الطويل غرض المصالحة الدائمة. فالمشروع المقبل غرضه طي صفحة عشرية قاتمة ودفن بقايا الأزمة وجذور خلفياتها، كما يأتي استجابة لمطموحات التشكيلات الوطنية منها الأحزاب السياسية والتركيبات والمنظمات الاجتماعية وفي مقدمها القيادي الأول لجبهة الانقاذ المحظورة عباس مدني أحد المبادرين لهذا الطلب وكذلك لقي دعماً مباشراً من الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، احدى الشخصيات المنتقدة لرجال الحكم طوال السنوات الماضية، الذي أشرف على رأس لجنة العفو الشامل كخطوة في منتهى الاعتراف بالجميل لمكانته الثورية وتضحياته في صناعة التحرير. فالمصالحة سيستنير بها الجزائريون في اتجاه مرحلة أخرى لكبح جماح تطرف الجماعات المسلحة وتصحيح الانحراف السلطوي ابان الحقبة التسعينية، وبه سيرسي معالم التلاحم الداخلي ويمثل عاملاً لاعادة البسمة في الوجوه وتجفيف دموع تلك الأيام التراجيدية. ففي هذا الطرح، سيتيح لعناصر المسلحين الانقاذين الذين ارتكبوا أفاعيل خارجة عن حدود العقل والقوانين استعادة حقوقهم المدنية والتحرر من الملاحقات وفصول الأحكام القضائية على نحو نهائي وايداع هذا الملف في حافظة غير قابلة لإطلال عليه مرة أخرى. غير ان بعضهم اعترض على روحية نصوص هذا المشروع وهم المتضررون من جرائم الارهاب الذين قللوا كذلك من فحوى أهداف العفو الشامل الجامعة وابعاده الصافعة، وما نعتبر هذا الاعتراض في الواقع الا سلوكاً معرقلاً لمسيرة اعادة جميع الأطراف بتعدد الانتماءات والتيارات الى بيت يسوده جو من الاستقرار والسلم الأهلي ويصعد بهم الى باحة للنظر الى جميع المسائل العالقة والبحث في نقاط التقاطع والخلافات. كما لا ينبغي النظر من زاوية واحدة في تحميل الأطراف المتهمة والمشبوهة كلياً أوزار المرحلة العصيبة والخطيرة دون غيرها أو من دون التدقيق والامعان في الأسباب والمتسببين، وفي طليعتها الطاقم الحكومي الشاذلي بقصوره في ضبط البوصلة السياسية وعدم اعتماده على مشروع ديموقراطي يرتكز الى دعائم الانفتاح، صائناً للدولة مركزية هيبتها، ومحصناً للمجتمع المدني ديمومة سلامته. أما موضوع المفقودين فبات تحت مسؤوليات ادارة الحكومة المطالبة حقيقة ملابسات المختفين أمام ذوي ضحايا العنف السياسي طوال زمن المواجهة. وبينما السلطات الأمنية والداخلية تقر بأن الرقم لا يتعدى 8000 شخص، يطالب الأهالي بمفقودين يصل عددهم الى 12000، وهو ما يستدعي أخذ زمن أطول للتحري والتقصي في أحوالهم وللوقوف على مصيرهم... علماً أن الحكومة الجزائرية تعاملت بمرونة في الداخل وكذلك على المستوى الخارجي، اذ فتحت أبوابها أمام الممثلين من الأممالمتحدة للاطلاع على المفقودين ومجهولي الأثر والتقصي في ظروفهم الغامضة. الا ان المثير للاستغراب تجاه مشروع العفو الشامل الوطني التصالحي الاجماعي لقي طعناً وانتقاداً من خمس منظمات دولية ناشطة في مجال حقوق الانسان لقانون العفو، منها منظمة العفو الدولية والمركز الدولي للعدالة الانتقالية واللجنة الدولية للحقوقيين والفيديرالية الدولية لحقوق الانسان و"هيومن رايتس ووتشن"في بيانهم المشترك في الأيام الماضية مدّعين ان المشروع سيحرم الضحايا وأقاربهم من حق الوصول الى الحقيقة والعدالة والتعويضات وأن العفو سيكرس غياب التحقيق في حالات الاختفاءات القسرية، فهذا الانتقاد اذا ما عولج من مختلف الجوانب أساساً الى الحجج المادية والمبررات الكافية، فأفراد الجماعات المسلحة ورجال الأمن المعتدين على حقوق المدنيين، نظر في شأنهم لم يخف ذلك، والتعويضات ستمنح لذوي الضحايا وان جميع المسائل ستعالج بالسبل الناجعة والمنصفة، فكان ينبغي على المنظمات الراعية لحقوق الانسان الترحيب والاشادة بالجهود المبذولة من أجل القطيعة واخماد رماد الفتنة وتحقيق طموح الوحدة بانتاج وتركيب جزائري محض. وفي مقابل ذلك لم نسمع من هذه المنظمات أي بيانات متشددة ضد الولاياتالمتحدة عندما انسحبت في شهر آذار مارس المنصرم من بروتوكول اختياري في اتفاقية فيينا للحقوق القنصلية يسمح للأشخاص المعتقلين في الخارج بمقابلة السلطات القنصلية لبلدانهم حيث صادقت عليه واشنطن عام 1969، وكانت الولاياتالمتحدة أول دولة تلجأ اليه في أزمة الرهائن الأميركيين في طهران عام 1979، فهذا تملص منها ازاء غيرها بما يترتب عليها في شأن معتقلي غوانتانامو. أو في موضوع رفض جورج بوش الانضمام الى اتفاقية"كيوتو"المنبثقة عن قمة الأرض المرتبطة بتزايد ارتفاع حرارة الأرض، حيث تبعث الولاياتالمتحدة أكبر كمية من الغازات السامة متذرعة بأن دولاً كبرى كالصين والهند خارجة عن البروتوكول، لكن هذه الدول تبعث كميات ضئيلة مقارنة بالولاياتالمتحدة مثل استراليا والمانيا وغيرها. كاتب جزائري.