قانون الوئام المدني.. العفو الشامل.. المصالحة الوطنية.. مصطلحات دخلت إلى «بورصة المسموح به» في الجزائر، وأصبح يتداولها الجميع بعدما ظلت لسنوات عديدة ضمن المحرمات ويوصم بالخيانة بل وموالاة الإرهاب كل من يدعو لتحقيقها.. فأضحت تلك المصطلحات خياراً حضارياً ومحبباً لكل الأطراف وأصبحت شعاراً يرفعه الجميع دون استثناء بما فيهم السلطة التي طالما رفضت إمكانية حدوث ذلك.. ويبدو أن هذا التطور في القضية الجزائرية وصل إلى مستوى من النضج إلى درجة جعلته يفرض نفسه على الصعيد المحلي والدولي بعد عشرية دامية عاشها الشعب الجزائري.. فشهد التيار «الاستئصالي» الذي ركب موجة خيار المواجهة العسكرية في إطار «محاربته للإرهاب» تراجعاً ملحوظاً.. ولأول مرة الجدل ذهب في اتجاه واحد بعيداً عن الاطروحات التي كانت تنصب في خانة «الكل امني» لاجتثاث التطرف والغلو.. فغلبت لغة الحوار التي أصبحت حاضرة بقوة.. واقتنع جزء من الفرقاء الجزائريين وادرك الآخر انه لا يمكن إنقاذ بلادهم إلا عبر التوصل إلى أرضية مشتركة. فبعد الحديث عن تجسيد المصالحة الوطنية الذي شغل الساحة السياسية الجزائرية.. انتقل إلى مرحلة الحسم في إجراء الاستفتاء العام بعدما دعا إليه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة مؤخراً. «الرياض» تستشرف في حلقتها السابعة الآفاق المطروحة في الجزائر بعد مرحلة العنف والإرهاب وكيف يمكن أن يكون مشروع المصالحة الوطنية عبارة عن نقلة نوعية تساعد هذا الشعب الجريح في طي صفحات المأساة الدموية التي لاحقته وهل هذه المصالحة الوطنية توفر تدابير لمعالجة بعض النزاعات والضغائن التي ولدها إرث الماضي في الجزائر بطريقة سليمة؟ أم أن عدم وضوح معالم تلك المصالحة وتعميمها من جهة وتمييعها من جهة أخرى.. يجعل الجزائر عاجزة عن اتخاذ حتى خطوة الالف ميل لاحتواء الأزمة التي طالت كل مقوماتها.. ظهرت المصالحة الوطنية كمفهوم مع بروز الأزمة السياسية الناجمة عن الغاء المسار الانتخابي في 26 ديسمبر 1991 وما تلاها من اندلاع أعمال عنف في الجزائر أدى إلى تدهور خطير في الوضع الأمني. وجاءت المصالحة كمطلب سياسي وشعبي كرد فعل على تدهور الوضع الأمني من جهة وتجعل لتطويق الأزمة السياسية والأمنية التي وصلت إليها البلاد، بمعنى أنها فكرة تقوم على رفض لغة السلاح والأخذ بلغة الحوار، فالأزمة الجزائرية أزمة سياسية، وكان لا بد لها من حل سياسي. والمصالحة الوطنية لم تأخذ منذ البداية تسمية «المصالحة الوطنية» انما أخذت عدة تسميات قبل أن تستقر على ما هي عليه الآن. الحوار السياسي في بداية الأمر أخذت «المصالحة الوطنية» تسمية الحوار كوسيلة لحل الأزمة، ودعت إليه مجموعة من الشخصيات السياسية والحزبية، وتبنى «الحوار» مجموعة من الأحزاب وعلى رأسها الأحزاب الثلاثة الفائزة في انتخابات 1991، وهي جبهة التحرير الوطني جبهة القوى الاشتراكية والجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأحزاب أخرى. وهنا حدث الانقسام السياسي والإعلامي وحتى الشعبي بين دعاة الحوار، ودعاة خيار المواجهة «الاستئصاليين» من داخل السلطة. وتغلب التوجه الثاني سياسياً مما أدى إلى استفحال الأزمة الأمنية، ومع مرور الوقت أصبحت المصالحة الوطنية تفرض نفسها فرضاً. وبانسداد قنوات الحوار مع الشركاء السياسيين، وبالموازاة مع استفحال الأزمة الأمنية، استفحلت الأزمة السياسية أيضاً، وكان ذلك تحديداً في عام 1995 عندما عقدت مجموعة من الأحزاب الجزائرية، وعددها سبعة، اجتماعاً بالعاصمة الإيطالية روما، وتوصلت إلى التوقيع على أرضية سياسية تعرف ب «عقد روما» للحوار مع السلطة. لكن السلطة الجزائرية رفضت هذه الأرضية جملة وتفصيلاً، ويمكن القول إن تلك الأرضية تعد أول عقد مكتوب كآلية سياسية لتحقيق المصالحة الوطنية. وهكذا ظهر مصطلح «الحوار السياسي» مع السلطة كبديل لكلمة «الحوار» والحقيقة أن الحوار بين السلطة وبعض الأحزاب لم يتوقف، لكن الأحزاب التي تعتبر معنية بالأزمة وتحديداً حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تكن شريكة فيه، اما لأنها لم تدع إليه أو لأنها قررت مقاطعته، بحجة أنها ترغب في «حوار بدون اقصاء» وقد عبرت مجموعة عقد روما عن موقفها من ذلك الحوار بالعبارة التالية «لا لحوار البعض من البعض ضد البعض، من أجل البعض». «الرياض» التقت عبدالحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير وأحد عرابي «عقد روما» وسألته حول آفاق المصالحة الوطنية، فاعتبر مشروع المصالحة توافقاً وطنياً بين جميع الفعاليات السياسية المؤثرة في المجتمع. ورأى أن البحث عن حل المشاكل التي أوجدت الأزمة يسهل في تحقيق المصالحة الوطنية. وعن اقدام بوتفليقة إجراء استفتاء حول العفو الشامل قال مهري «الاستفتاء يمكن أن يكون تتويجاً للمصالحة، إلا إذا أردنا اعطاءها بعداً إضافياً لا مانع من إجرائه». ويرى أن طريق المصالحة شاق مشيراً إلى «أنه يتطلب صبراً وحنكة وجرأة وعملاً مع كل الفعاليات السياسية». ويقول مهري إن المصالحة لا يمكن أن تكون قراراً فوقياً وفردياً فهي تفاعل بين أطراف. الحوار الجاد وهكذا يمكن القول إن «حواراً جاداً» يجمع كافة الشركاء السياسيين لم يحدث، لكن الرغبة في حل الأزمة ظل قائماً، مما أدى إلى عقد «ندوة الوفاق الوطني» في عام 1996 كشكل من أشكال تحقيق المصالحة الوطنية، إلا أن تلك الندوة بدورها لم يجتمع حولها جميع الشركاء السياسيين مما جعل بعض المحللين يصفونها بعبارة «ندوة شبه الوفاق الوطني» ولم تفلح في وضع حد للتدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي. وفي سبيل تحقيق المصالحة الوطنية، حدث نوع آخر من الحوار بين الحكومة وقادة الجبهة الإسلامية، لكنه لم يصل إلى أي نتيجة مما أدى إلى استمرار سياسة «الكل أمني» كمفهوم متعارض مع مفهوم المصالحة الوطنية. ويرى الدكتور محمد لعقاب أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر أن الحوار السياسي كمفهوم المصالحة الوطنية آنذاك وصل إلى الفشل لأنه اتسم بثلاث سيمات، أولاً انه كان حواراً جزئياً، أي لم يشرك جميع الشركاء السياسيين خاصة أطراف الأزمة وثانياً لم يكن حواراً جدياً، لأن عدة أحزاب مشاركة فيه لم تكن تملك نفوذاً شعبياً وكانت تنقصه الشجاعة السياسية، وثالثاً كان الحوار عبارة عن املاءات ولم يتسم بسيمات الحوار، أي كل طرف كان يرغب في فرض وجهة نظره. ومفهوم المصالحة الوطنية يوم ذاك كان ينحصر على اطلاق قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحكوم عليهم ب (12) سنة سجناً نافذاً، والسماح بعودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى النشاط السياسي ولو بتسمية جديدة، وكذلك العودة إلى المسار الديمقراطي. قانون الرحمة وبالموازاة مع الحوار السياسي بين الحكومة وبعض الأحزاب السياسية حدث توجّه آخر نحو تطويق الأزمة الأمنية، كشكل من أشكال التصالح، وتجلى ذلك في قانون (التوبة) أو ما يعرف ب(قانون الرحمة) لعام (1994م)، الذي مكن كثيراً من حملة السلاح من العودة إلى المجمع، وقانون الرحمة كان يرغب في وضع حد للنزيف الدموي دون إشراك السياسيين الذين يعدون طرفاً في الأزمة وبالتالي لم يحقق نتائج مرجوة. الوئام المدني باستمرار تدهور الوضع الأمني، وانسداد الحل السياسي، تأزمت الوضعية الجزائرية أكثر، وازدادت المطالبة الخارجية بإيفاد لجنة تحقيق دولية في المجازر المرتكبة، وأحس الجزائريون بأن خطر التدخل الأجنبي أصبح قائماً عندما حلت بالجزائر بعثة الأممالمتحدة للإعلام والتقصي عام (1988م) وهنا أصبح خيار المصالحة الوطنية يفرض نفسه أكثر من أي وقت مضى، فالإجراءات والآليات السياسية التي تم اتخاذها لم تحل الأزمة، وسياسة «الكل أمني» لم تصل إلى تحقيق الاستقرار. لذلك أصبحت «المصالحة الوطنية» شعار كل المترشحين السبعة للانتخابات الرئاسية في ابريل من عام 1999م. وذلك لكسب أكبر عدد ممكن من الرأي العام. وبعد أن جاء عبدالعزيز بوتفليقة لسدة الحكم في عهدته الرئاسية الأولى اعطى تسمية جديدة للمصالحة الوطنية، فأصبحت تحمل تسمية «الوئام المدني». وقد صادق البرلمان الجزائري على قانون الوئام المدني، بدون أية معارضة، ثم عرض القانون على الاستفتاء الشعبي فزكاه الشعب. وهنا أصبح مفهوم المصالحة الوطنية قاسماً مشتركاً بين الشعب والأحزاب والسلطة لأول مرة منذ عام 1992م. والحقيقة إن الوئام المدني، كان يهدف إلى تقديم الضمان القانوني للهدنة التي أعلنها «الجيش الإسلامي للإنقاذ» وهو الجناح السياسي للجبهة الإسلامية عام 1997م، وقد أفضى قانون الوئام المدني إلى وضع آلاف المسلحين سلاحهم وحل مجموعة من التنظيمات المسلحة لنفسها مستفيدة من هذا القانون. الوئام الوطني في خضم الوئام المدني، خرج بوتفليقة بمصطلح جديد، عندما أعلن عن رغبته في ترقية الوئام المدني وبقي غير واضح المعالم، وأصبح عرضة للتفسير والتأويل دون أن تحدد ملامحه أو حتى خطوطه العريضة. وترى شخصيات ذات اطلاع بالأزمة الجزائرية أن الوئام المدني، ليس سوى الشق الأمني للمصالحة الوطنية، ولا بد من استكمالها بالشق السياسي. المصالحة الوطنية الشاملة بعد فوز بوتفليقة في انتخابات (8) ابريل 2004م، كانت المعطيات تختلف عمّا كانت سابقاً.. فقادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم يعودوا وراء القضبان بعد أن استكملوا مدة العقوبة، والجيش الإسلامي للإنقاذ نزل من الجبال. لكن مقابل ذلك مازالت هناك جماعات مسلحة تواصل عملياتها ضد النظام وتهدد السلم الأهلى، مما جعل المصالحة الوطنية، تبقى مطلباً جماهيرياً. فدخلت المصالحة الوطنية إلى برنامج الحكومة وصادق عليها البرلمان، وهنا حملت المصالحة الوطنية تسمية جديدة هي «المصالحة الوطنية الشاملة» وربما هذا ما كان بوتفليقة يعنيه بالوئام المدني. ومفهوم المصالحة الوطنية الشاملة، يختلف عن مفهوم المصالحة التي ولدت في السنوات الأولى للأزمة. فهو لم يعد يرتبط بالوضع الأمني، بل تم تمديده إلى مجالات أخرى، دون فتح المجال لإنشاء أحزاب جديدة، والمصالحة الوطنية الأولى كانت تسعى لحل الأزمة السياسية بوضع آليات وإجراءات لحلها وتفتقر المصالحة الوطنية التي يقودها الآن بوتفليقة إلى آليات عملية ذات منهجية واضحة. وعلى أساس تغيير المفهوم، وانعدام الآليات ظهرت مخاوف على المستوى الشعبي في الجزائر، ترى أن المصالحة الوطنية تم تمييعها بتعميمها. فبعدما كانت المصالحة الوطنية مرتبطة بالأزمة الأمنية، وبالتالي ينبغي أن يبقى مرتبطاً بها، لمعالجة قضية الجماعات المسلحة المتبقية، وآثار الأزمة التي تمس بشكل مباشر حملة السلاح وتحريك ملف المفقودين ومتابعة حالة المطرودين من العمل، والنازحين من قراهم، ومعاقبة الجاني على ما ارتكب من جرائم، وتقديم العدالة لكل من تسبب بالقتل، والتعذيب والاغتصاب والتدمير، وجبر ضرر الضحايا. فخرجت مبادرة عبدالعزيز بوتفليقة الأخيرة بإجراء استفتاء شعبي حول العفو الشامل لتعطي مفهوماً عاماً للمصالحة الوطنية لم تحدد أطره فظهرت مخاوف أن تصبح المصالحة وسيلة يستفيد منها حتى شخصيات «الأقدام السوداء» الذين شاركوا القوات الفرنسية في قتل أبناء الشعب الجزائري وتعذيبهم، إبان حقبة الاستعمار. وأيضاً تعميم المصالحة الوطنية إلى قطاعات أخرى مثل مهربي الأموال والرافضين لدفع الضرائب ومن مارس الفساد وعبث بالمال العام منذ الاستقلال حتى الآن. وانقسم الجزائريون فيما يخص موقفهم من مشروع العفو الشامل الذي طرحه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بهدف طي صفحة الاقتتال الذي عرفته الجزائر منذ مطلع التسعينات. فهناك فريق من أنصار الرئيس يرى أن معالجة الأمة الأمنية لن تكون إلا بخطوة جريئة قد تصدم بعضهم لكنها ضرورية، وهي إصدار عفو شامل عن كل المتورطين في جرائم الدم والاغتصاب والتخريب. وفريق يرى أن بوتفليقة لن يقدم على إصدار عفو، وإن المشروع لا يعدو كونه (بالون) اختبار أطلق ليطلع من خلاله الرئيس على مدى استعداد الجزائريين لدفع ثمن استعادة أمنهم واستقرار بلدهم. ولا شك أن الرئيس الجزائري جاد في تحقيق المصالحة الوطنية بالجزائر، وهذه الرغبة الجادة حظيت برضا وقوبلت بترحيب واسع وتأييد بصورة لا سابق لها لبرنامجه الوفاقي «الوئام المدني» كفصل من ذلك المشهد الطويل بغرض المصالحة الدائمة، وأن مشروع العفو الشامل المنتظر طرحه للاستفتاء في المرحلة القادمة يأتي استجابة لطموحات شرائح واسعة من المجتمع الجزائري، بيد أن مقترح بوتفليقة بإصدار عفو شامل عن انتهاكات حقوق الإنسان، التي ارتكبت إبان النزاع الداخلي الدموي في البلاد، يمكن أن يحرم الضحايا أو عائلاتهم بصورة نهائية من حقهم في الكشف عن الحقيقة، وفي إقامة العدالة وتحقيق الانصاف. العفو مازال غامضاً وما يزيد تلك المخاوف أنه لم يعرف حتى الآن إلا القليل من مقتضيات العفو المقترح، غير أن التصريحات الرسمية تشير إلى أن القانون سوف يستثني من المقاضاة أي عضو في مجموعة مسلحة أو في مليشيا سلحتها الدولة، أو في أي من قوات الأمن، عن الجرائم التي ارتكبت في مجرى النزاع بما في ذلك الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. وتتهم منظمات حقوقية السلطات الجزائرية بالتقاعس عن التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت إبان العشرية السوداء، وترى هذه المنظمات أن التقاعس اكتسى خطورة خاصة في ضوء شدة هذه الانتهاكات مدى اتساع نطاقها، حيث وصل بعضها إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية. وكان الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، قد قال في تصريحات أدلى بها مؤخراً، إن ما يربو على (200,000) شخص قد قتلوا إبان النزاع، وعشرات الآلاف من هؤلاء هم من الرجال والنساء والأطفال المدنيين الذين قتلوا في هجمات اتسمت بالعنف، كما تعرض الآلاف للتعذيب أثناء الاحتجاز و«اختفى» آلاف غيرهم إثر اعتقالهم على أيدي قوات الأمن واختطافهم من قبل الجماعات المسلحة وإعدامهم إعداماً فورياً. وفي الأغلبية الساحقة من الحالات، لم تتخذ السلطات أي اجراءات لتوضيح ظرف الجرائم وتقديم الجناة المشتبه فيهم إلى العدالة على الرغم من الجهود المضنية للضحايا وعائلاتهم في البحث عن الحقيقة، وتقديم المعلومات إلى السلطات القضائية في القضايا التي تم تقديم شكاوى بشأنها. فيما رأى قانونيون أن إصدار عفو شامل في هذا السياق من شأنه أن يترك إرث الماضي دون تسوية، وربما يقوض بصورة دائمة أية آفاق مستقبلية لتوفير الحماية الكاملة لحقوق الإنسان، ويحتمل أن يحول نهائياً كذلك دون الكشف عن حقيقة الماضي في المحاكمة الجزائرية، وبذا يصبح عقبة في طريق أية فرصة لتحقيق العدالة، واعتماد المساءلة كجزء من عملية الانتقال إلى حالة السلم. وترى تلك الجهات القانونية أن العفو الشامل دون تقديم الجاني للعدالة وجبر ضرر الضحايا من شأنه أن يضفي الصبغة القانونية على التقاعس عن اجراء التحقيقات في آلاف الحالات «الاختفاء». ويبدو من أن بوتفليقة لما جعل مشروع المصالحة الوطنية مبهماً، أراد أن تتلقفه شرائح المجتمع الجزائري بكل فئاته من أحزاب وجمعيات ونقابات وهيئات المجتمع المدني لتتمخض بعدئذ فكرة ما يتفق عليها الجميع. بلا شك أن بوتفليقة سيواجه صعوبات جمة في تحقيق مثل ذلك المشروع، إذا لم يعط للجزائريين أنفسهم فرصة لتحديد الطريق المناسبة لمعالجة أثر الماضي في بلادهم، وذلك عبر حوار وطني يسود فيه الاحترام لحرية التعبير وحقوق الإنسان. الحقيقة مطلوبة وبكل تأكيد إن الشعب الجزائري ومعه المجتمع الدولي لن يقبل بتقديم تنازلات بشأن المبادئ الأساسية للحقيقة والعدالة والانصاف، خصوصاً وأن الأممالمتحدة وهيئات دولية واقليمية ترفض أن يكون هناك عفو أو تدابير مماثلة من شأنها أن تكفل الحصانة من العقاب من جرائم ضد الإنسانية. لذلك فإن هذه المعطيات تعقد المسألة في التوصل إلى صيغة حول مفهوم المصالحة ترضي كل الأطراف المعنية بالمصالحة الوطنية خصوصاً إذا لم يكن العفو الشامل قد تضمن اتخاذ تدابير من شأنها تساعد في كشف الحقيقة، وصدور حكم قضائي قاطع بالذنب أو البراءة لكل متهم بارتكاب تجاوزات قتل أو تعذيب، وحصول الضحايا وعائلاتهم على تعويضات بصورة وافية. ورغم أن بوتفليقة استطاع أن يحصل على دعم وتأييد بشأن «الوئام الوطني» عبر تصويت أغلبية البرلمان لصالح ذلك المشروع، إلا أن جمعيات ومنظمات حقوقية اعتبرت ذلك غير كاف لانجاح مشروع المصالحة باعتبار أن احترام حقوق الإنسان الأساسية وحمايتها لا يمكن أن يكون موضوعاً يخضع للتصويت. ورأت هذه المنظمات أن كل عفو شامل أو قرار بالصفح، أو أي تدبير مماثل يمكن أن يؤدي إلى إفلات الجناة من العقاب عن جرائم ضد الإنسانية وسواها من الجرائم الخطيرة ضد حقوق الإنسان كالتعذيب وعمليات الإعلام خارج نطاق القضاء و«الاخفاء». وفي مارس المنصرم رفعت اللجنة المكلفة من الحكومة الجزائرية متابعة حالات «الاختفاء» تقريراً وتوصيات إلى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وبحسب تصريحات رئيسها فاروق قسطنطيني ل «الرياض» أن (6,146) شخصاً قد فقدوا على أيدي قوات الأمن ما بين (1992 - 1998م). ويقول قسطنطيني إن التوصية الرئيسية في هذا التقرير تمثلت بتقديم التعويضات المادية إلى الضحايا الذي ترفضه أغلبية عائلاتهم. وترى جمعيات حقوقية أن تقرير قسطنطيني مجحف في حق ذوي المفقودين، ولا يزال الجدل حول هذا الملف متواصلاً، وتذهب عائلات الضحايا والمنظمات الحقوقية إلى تأييد إغلاق ملف المفقودين عبر جلسات الحقيقة. إن الحقيقة الوطنية في الجزائر يجب أن تقود إلى إيجاد حل سياسي شامل وعادل للأزمة الجزائرية بأبعادها المختلفة، خاصة البعد بالمسائل المتعلقة بملفات المفقودين، والمفصولين من وظائفهم خلال الأزمة بسبب انتمائهم السياسي، وملف المعتقلين السياسيين، وملف المهجرين، وملف المسلحين، ثم عناصر الأمن التي تورطت في الأزمة وقامت بممارسات خارج نطاق القانون.. إن تسوية بهذه الملفات تقود إلى المصالحة الوطنية الحقيقية.