"تقاويم الوحشة" هي المجموعة الثالثة للشاعرة الكردية كولالة نوري مواليد كركوك/ العراق التي تكتب بالعربية. وهنا لا بد من أخذ الأصل الكردي لخيال القصيدة المكتوبة بالعربية في الاعتبار، إذ غالباً ما يتصف الشعر الذي يكتبه بعض الأكراد بالعربية بصفات معينة قد نجدها مكررة في تجاربهم. وأولى هذه الصفات تتجلى في التفاوت، الخفي أحياناً والواضح أحياناً أخرى، بين المعنى المستهدف في المخيلة ومدى تحققه فعلياً في النص المكتوب. وإذا كان القارئ سيظن أن السبب في ذلك عائد الى عدم التمكن من العربية فلا بد من القول إن هذا ليس هو المقصود. المقصود هو الخشية من حدوث مبالغات في المعنى وبناء الصورة وتركيب الاستعارة واستخدام البلاغة عموماً. وهي خشية تبدو في محلها حين نجد في شعر كولالة نوري، ولدى غيرها من التجارب المجاورة والقريبة، هذا النوع من المبالغات، وهي عادة مبالغات غير متعمدة وتحدث من دون قصد. وهذا غالباً ما يؤدي الى شيء من العنف والقوة في استخدام الكلمات، والتوتر والحماسة في كتابة الأحاسيس في شكل مباشر ومن دون مواربة. ويمكن في هذا الصدد ذكر أمثلة عدة كما هي الحال عندما تكتب:"ستجد سماء أخرى/ من بوح وريح/ وقيلولة من غار وفيروز/ ستجد مساء غجرياً/ لتذرف فيه التاريخ..."حيث يجد القارئ في طريقه الى المعنى كلمات قوية الوقع وأكثر خشونة من المتوقع الى درجة تبدو فيها الصورة الشعرية فضفاضة على معناها. وهنا تظهر واحدة من تلك المبالغات التي تعلو فيها الغرابة والعنف والفصاحة الحماسية على حساب المعنى المتواري وراء الجملة. ويجد القارئ شيئاً من هذا القبيل في صور أخرى مثل:"غير ان عقارب الروح تعيدني لحضارة شفاهك"حيث تبدو مفردة"حضارة"ذات وقع أشد من الحال المطلوبة أو المفترضة. ولكن هذه الحماسة لا تلخص كل تجربة كولالة نوري، فهي تخفف من توتر العبارة وخشونة الكلمات بحسب مزاج شعري ينبغي احترامه وتقديره على رغم استحقاقه للنقد. وهكذا نجد، الى جانب العنف والصوت العالي، بساطة وانسيابية في بعض النصوص:"لم أعد أحبك كثيراً/ فلدي زخم من مشاريع/ سأستيقظ مبكرة/ وأعاود تماريني من دون أن أتثاءب/ ... ولا تسوؤني حياتك المليئة بعيداً عني/ قد أواعد صديقاً على الشاطئ دون أن أخشى وقوعه في غرامي...". علو في النبرة يعقبه خفوت فيها. أداء متوتر حماسي للجملة الشعرية يليه تواضع وانسيابية في الكتابة. والأرجح ان هذا يؤكد التفاوت بين القول الشعري ومعناه، وبين أداء المخيلة والكتابة الملموسة. والأرجح، أيضاً، ان هذا يمنح صوت كولالة نوري خصوصية ما وإن لم تكن هذه الخصوصية إيجابية دوماً. ان الوقوع في هذا التفاوت قد يُعزى الى صدق التجربة ومرارة الواقع وموت الأحلام وتوالي الخيبات. وكولالة نوري لا تخفي ذلك بل غالباً ما تضع كل ذلك في صدارة القول وتجهر به أكثر من اللازم. وهذا، ربما، يتلاءم مع الصوت الخشن والأداء العالي والحماسي وعلو النبرة. انها شاعرة مهمومة ويبدأ هذا الهم من"وحشة"العنوان والاهداء"الى أجمل الضحايا... نحن"ثم قصيدة مهداة الى"شقيقة الألم"ومهداة أخرى بعنوان"اغتيال شمعة"ثم قصيدة بعنوان"دم مهزوم"ثم"برهة بين أمل ونزيف"ثم مهداة الى"الجمال الخذول"ثم"طاعن في الخيبة"... ان مفردات مثل الوحشة والضحايا والألم والاغتيال والهزيمة والنزيف والخذلان والخيبة لا بد من أن تطبع التجربة الشعرية بطابع ما ولا بد، أيضاً، من أن تجذب كلمات وعبارات من النوع نفسه وأن تستقطب موضوعات ومشاغل نصية تؤثر المباشرة على الترف والتوصيل الواضح على المواربة والاخفاء. وهذا سيؤدي، بالتالي، الى بداهة أن تحضر الحماسة والمبالغة والعنف والوقع الخشن في مجمل الممارسات الشعرية لكولالة نوري. وهذا يعني ان صدق التجربة ومرارتها له ضريبة شعرية، إذ غالباً تُنقص التجربة المكتوبة في شكل مباشر من شعرية هذه الكتابة. وغالباً ما تؤدي الى خلق التفاوت، الذي قصدناه، بين الصورة والمعنى أو بين المخيلة والواقع. ان شعر التجربة لا بد من أن ينتج تجربة الشعر، ولكن قصيدة كولالة نوري تنوس بين هذين الحدين فتخلط فيها ما هو شعري وما هو مباشر حيث تبدو القصيدة مكتوبة بصوتين أو نبرتين وربما أكثر. والواقع ان الشاعرة لا تخفي ذلك فما ان تخفت نبرتها في قصيدة حتى تعود فتعلو في قصيدة أخرى فتكثر من استخدام الألفاظ ذات الجرس العالي والتي يصنع تجاورها تصادمها واحتكاكها بالأحرى جلبة وخشونة وضجة. وهي النبرة التي تبلغ أقصى ذروة لها في القصيدتين الأخيرتين في المجموعة وفيهما تقدم ما هو أشبه بعرض حال للعراق الراهن ويومياته الدامية:"جاء عام وانتهى عام/ ولم تأت سوى الألغام بدل الأنغام/ ولم نر من وعود الفخفخة سوى سيارات مفخخة"وكذلك:"الديكتاتور يحتفل في سجنه بعيد ميلاده مع كعكة أميركية/ وأبو غريب يحتفل مع داعرة أمريكية/ وهي تجرب كبتها الحضاري...".