لا تنتج الجمل والعبارات في مجموعة يوسف بزي الأخيرة "بلا مغفرة" علاقات تآلف بين الكلمات وبين أمزجة هذه الكلمات وميولها وخيالاتها، بل هي غالباً ما تنحو الى خلق حزازات وصدامات ومعاكسات قبل أن يتحقق التآلف المأمول. التآلف يتحقق ولكن كأنما على مضض. فالمفردات في هذا الشعر ذات زوايا حادة وأطراف قاطعة وخشنة، إنها لغة مسننة ذات روح معدنية ومادية material تعيش في عالم مديني وحديث وما بعد حداثي، وأشخاص هذه اللغة موجودون في قلب المدينة وضجيجها وعلاقاتها وأنماط سلوكها... الخ. إنهم، بالإجمال، كائنات الشقق والمكاتب والوظائف والمقاهي والإعلانات والقيم الاستهلاكية والرأسمالية في أعلى درجات تحققها وقسوتها، كائنات الآلات والمبتكرات الصناعية والتقنية حيث "نساء ورجال يسخنون مطارحهم/ بعصارة مساماتهم" ص 82، وحيث "شظايا لمبة في عين عجوز/ مبولة معدنية بالقرب من حناننا..." ص 18. كائنات قد نراها في فيلم يميل الى الغرابة ويلحّ على الدم والأحشاء والقتل ومجانية العنف كما في أفلام سكورسيزي وكارانتينو مثلاً. كائنات ثقافة الصورة والشكل والنيولوك واللايف ستايل... الخ. شعر يوسف بزي، في هذا المعنى، يتواجد مع الشاعر نفسه في مكان اقامته البيولوجية والنفسية في النص وفي اللغة. قد تدفع هذه الصفات البعض الى وصف هذا الشعر بأنه عنيف وحسب. أي ان الشاعر يكتب بلغة عنيفة وقاسية، ولكنني أخشى أن الركون الى هذا يظلم هذا الشعر المكتوب برقة بالغة على يد شاعر لا يجد سوى الضراوة أسلوباً في التعامل مع الكلمات. الضراوة هي غالباً ترجمة رقة الشاعر وأساه وشجنه وأحياناً عزلته ووحشته. الرقة، إذا شئنا، مدفونة تحت السطح المخادع للفظاظة والضراوة والعنف حيث الشاعر "صانع كدمات" بينما "الكلمة التي تخشن مادتها/ محفوظة فقط/ من ثقل استعمالها بين الفكين". العالم في قصائد يوسف بزي مكان للضجر والسأم والقسوة والكوارث الفردية والتجارب الشخصية. انه ليس مجالاً للغناء والالفة والمديح والعاطفة الزائدة. الشاعر في هذا النوع من الكتابة متحفظ وجاف أو مندفع وجارح بمفردات لها نهايات قاطعة ونافرة. انها ليست مصقولة وليس معتنى بها تلك العناية التي يمكنها، في بعض الأحيان، أن تحول الكتابة نفسها الى شيء شبيه بالحلوى المعلبة. الشاعر لا يعتني بمفرداته، أو هكذا يُخيّل للقارئ الذي يرى صعوبة في رؤية التجاذب والحميمية التي قد تنشأ في الجملة الواحدة. المفردات تصطدم ببعضها وتحتك كأن أحداً يشحذ سكيناً مثلومة وصدئة على حجر. مفردات يوسف بزي أو جملته الشعرية، بالأحرى، تخفي في داخلها قوة نبذ تطغى على الجاذبية التي تجمع الكلمات في المعجم الدارج. الشغف، والحنان أيضاً، موجودان في أحشاء هذه النبرة القاسية والفظة وغير الرحيمة وال"بلا مغفرة". الكلمات ينبغي أن نضيف اليها بعض الصعوبة، كما تقول فيسوافا شيمبورسكا، لكي تبدو خفيفة. والأرجح ان مساحة واسعة من عمل يوسف بزي الشعري يقع تحت مناخات هذا القول الذي يصلح لوصف هذه الكتابة التي تبدو فيها الصلابة غلافاً للخفة. الخفة هي حيوان الصدفة الصغير، وربما هي اللؤلؤة التي تتكون ببطء وكثافة في قلب المحارة القاسية القشرة. شعر يوسف بزي، بهذا المعنى، مكتوب بسكين أو بمبضع. ليست الكتابة جراحة بالطبع ولكنها في هذا الشعر تشبه عمل المشارط في اللحم أو شق الألوان وتوزيع كتلتها بأداة حادة على قماش اللوحة. الكتابة، هكذا، أقرب الى العمل الدقيق للجراحين والعمل غير الواعي لحركة يد الرسامين في لحظة الانخطاف. كتابة موغلة في شخصانيتها وفرديتها، انها تشبه الشاعر نفسه، ليس لأنه يكتب أجزاء أو نتفاً من سيرته الخاصة فقط بل لأنه يتقن اضافة نفَسه الخاص في العيش الى نصه، وينجح في خلط مزاجه الحاد والحرّيف واللاذع مع مواد القصيدة. القصيدة المكتوبة بغلظة ورقة، بحب وحقد، بحنان وتشفٍ...، ولهذا أميل الى تخيّل الشاعر بطلاً في فيلم يروي سيرة ذاتية لشخص يتغذى من تجربته، مسلحاً والحرب قد انتهت، مفكراً في اغتيال أحد ما ويؤجل ذلك باستمرار ظاناً ان التفكير في الأمر وتأجيله أعذب من القيام به. انه ذاك الذي يقول: "كان علي أن أجد طريقي الى حانة/ فيها مغنيتان بولنديتان/ وعازف روسي نحيل/ عابراً الباب/ كاسراً الضحكة الملكية للفم الكبير". والذي يضيف: "وأنا الذي لطالما عشت/ ولم يضمني أحد"، وهو الذي يرى نفسه "منتظراً الشعر ان يأتي/ من الكوة/ التي نسيت إحداثها في الجرار" ... إنه باختصار شخص "بعواطف محزوزة من أطرافها". العاطفة إذاً ولكن تلك المحزوزة الأطراف والحادة والخشنة والقاطعة، الرقة ولكن تلك المغلفة بالفظاظة، الحنان ولكن تحت القشرة المخادعة للكبرياء. هذه هي الثنائية غير المرئية، ولكن المحسوسة، التي تشكل عصب قصائد المجموعة كلها تقريباً. وفيها يتجلى فن يوسف بزي الشخصي وبراعته في كتابة قصيدة هي الى هذا الحد مدينة لترجمة متبادلة في الاتجاهين بين مزاج الشاعر وبين اسلوبه. على رغم ذلك تبدو نبرة يوسف بزي خافتة مقارنة مع شراسة كتابته وضراوتها. من الواضح ان الشاعر لا يحرك الكلمات من بعيد. الكلمات قريبة منه، انه يتخلى عن تاريخها البلاغي وذاكرتها الايقاعية ويستخدمها عارية كأنها من ابتكار مزاجه. الفظاظة أو الشراسة تنشأ من الانقضاض على الكلمات والانفراد بها في معزل عن طواعيتها وليونتها وعبوديتها سواء المعجمية أو تلك التي تراكمت من الاستعمال الطويل لها. لا يخترع الشاعر كلمات جديدة ولكنه يُظهر لنا سلوكه اللغوي الشرس الى درجة ان القارئ يستطيع أن يشعر بخشونة العبارات، التي تنتج من الاصطدام القاسي للمفردات واحتكاكها ببعضها. ولكن معظم هذه الشراسة والضراوة والخشونة تنضوي، في النهاية، في نبرة شعرية متجانسة ومتصالحة مع مبدأ كتابتها. الشاعر يعرف كيف يصغي الى مخيلته والى مزاجه. ينتمي يوسف بزي الى الشعراء الذين يفتنون بكل حرف وكل كلمة في قصائدهم، فهو لا يسعى الى تحسين جملته لفظياً وايقاعياً ويتجنب كل بلاغة تكرر استعمالها بإفراط ويتفادى كل عذوبة سطحية أو شكلانية، ولكنه في غمرة عمله الصعب يعرف كيف يستخرج الشعر الحقيقي والصافي من أشد اللحظات شراسة. ففي قصيدة "البلطة" ذات المزاج المعدني يكتب: "وجه الزوجة تحديداً/ كان رائقاً/ بخصلة مفرودة على الصدغ/ مثل بداية حقل" ص 46 وفي قصيدة "حفلة شواء عند جبل يطل على العاصمة" إحدى أجمل قصائد المجموعة وأكثرها معدنية وضراوة يقول: "نخفض أيدينا أمام نار/ كانت تعيش في الأحجار/ قبل أن نشعلها".